الجزء الثامن من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثامن من تفسير سورة البقرة
وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا
لا تَعْلَمُونَ (30)
يخبر
تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم،
فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ) أي: واذكر يا محمد
إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل
العربية [وهو أبو عبيدة] أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك. ورده ابن جرير.
قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة.
( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام: 165] وقال وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62]. وقال وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف: 60]. وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 59]. [وقرئ في الشاذ: "إني جاعل في الأرض خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي]
. وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام، فقط، كما يقوله طائفة من
المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي
ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره،
والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فإنهم
إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو
بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال
من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من
المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبي] أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد
لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا
يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم
بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها
فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا ) الآية]
وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما
الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان
المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا
يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم
عن هذا السؤال: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: إني أعلم من
المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون
والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون،
والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله،
صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح
: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف
تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم
يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد
أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار،
وعمل النهار قبل الليل" فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من
تفسير قوله: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وقيل: معنى قوله
جوابًا لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أن لي حكمة مفصلة في
خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: (
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) فقال: ( إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم
به. وقيل: بل تضمن قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض
بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع غيرها من
الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني
الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة،
قالوا: قال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال
لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم، قال
: وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها
تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
( فِي الأرْضِ ) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دُحِيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة" .
وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مُدْرَج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
( خَلِيفَةً ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال
للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً ) مني، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن
قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقه فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير: وإنما [كان تأويل الآية على هذا] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال: والخليفة الفعيلة من قولك، خلف فلان فلانا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خَلَفًا.
قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً ) يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجنُّ،
فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم
إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) .
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: ( إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قال: يعنون [به] بني آدم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق
في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله، عز وجل، خلق إلا الملائكة،
والأرض ليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] ؟!
وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن
الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بُكَير
بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان الجن بنو الجان في
الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث
الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله
للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا: أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
[البقرة: 33] قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس،
وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في
الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كما أفسدت الجن ( وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ ) كما سَفَكُوا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن
سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال لهم: إني فاعل. فآمنوا بربهم
، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي
علمهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؟
( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كان [الله] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي، حدثنا ابن المبارك،
عن معروف، يعني ابن خَرّبوذ المكي، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول:
السّجِلّ ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات
ينظرهن في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من
الأمور، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قالا ذلك استطالة على الملائكة.
وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر،
فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم. ومقتضاه أن
الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم -أيضًا-حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هشام
بن أبي عَبْد الله، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي
يقول: إن الملائكة الذين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )
كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وهذا -أيضًا-إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم.
قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم،
فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ )
وقال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: ( أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم
أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها: وكيف
يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ ) يعني: أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من
ترونه لي طائعا.
قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة [الملائكة] استخبار منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) وقد علمت
الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في
الأرض ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة
أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان
يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم
عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت
السماوات والأرض بالطاعة فقال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] .
وقوله تعالى: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال
عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: التسبيحُ: التسبيحُ، والتقديس: الصلاة .
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن
مسعود-وعن ناس من الصحابة: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ ) قال: يقولون: نصلي لك.
وقال مجاهد: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك: التقديس: التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.
وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سُبُّوح
قُدُّوس، يعني بقولهم: سُبوح، تنـزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له.
ولذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: (
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك
بك ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس
وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل ؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده"
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى"
] .
( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) قال قتادة: فكان في علم
الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة،
وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في
حكمة قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين
الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم
الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا
يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو
بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل
الصديق بعمر بن الخطاب، أو يتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر،
أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب
التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط،
وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك
عمر رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد
الرحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم
الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي ولا
المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟
فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا
كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان"
. وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام
الحرمين، وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية
إمامين واجبي الطاعة، قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك
في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ
أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم
بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس
بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
وَعَلَّمَ
آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ
يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (33)
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من
عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل
على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين
سألوا عن ذلك، فأخبرهم [الله] تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )
وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ
كُلَّهَا ) قال: عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدواب، فقيل: هذا
الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل ، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد،
عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم
الصحفة والقِدر، قال: نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة .
وقال مجاهد: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم كل دابة، وكل طير، وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل
شيء، وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي: أسماء
النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم.
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: (
ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) وهذا عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه
لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما
قال: وَاللَّهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ [النور: 45] .
[وقد قرأ عبد الله بن مسعود: "ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب: "ثم عرضها" أي: السماوات] .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن
عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛
ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا
مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك عن النبي صلى
الله عليه وسلم، قال - وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد،
عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -: "يجتمع المؤمنون يوم
القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو
الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا
عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه
فيستحيي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه
فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحيي. فيقول:
ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى
عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر
قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحيي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله
ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا
عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن
على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم
يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، وإذا رأيت ربي مثله ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به . وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد، وهو ابن أبي عَرُوبَة، عن قتادة
. ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فيأتون آدم
فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل
شيء"، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) يعني: المسميات؛ كما قال عبد الرزاق، عن
مَعْمَر، عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة ( فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )
ثم عرض الخَلْق على الملائكة.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن جرير بن
حازم ومبارك بن فضالة، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة -قالا علمه اسم
كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض
ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله،
ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة
القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك
الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك
ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم: إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم
عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم
أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت
عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم
توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
[وقوله]
( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هذا تقديس وتنـزيه من الملائكة لله تعالى
أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله
تعالى، ولهذا قالوا: ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) أي: العليم بكل شيء، الحكيم في
خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل
التام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج،
عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: سبحان الله، قال: تنـزيه الله نفسه عن
السوء. [قال] ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال .
قال: وحدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل
ميمون بن مِهْرَان عن "سبحان الله"، فقال: اسم يُعَظَّمُ الله به،
ويُحَاشَى به من السوء.
وقوله تعالى: ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ ) قال زيد بن أسلم. قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل،
حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب.
وقال مجاهد في قول الله: ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) قال: اسم الحمامة، والغراب، واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم، عليه السلام، على الملائكة، عليهم السلام، في سرده ما
علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة: ( أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم
الغيب الظاهر والخفي، كما قال [الله] تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال
لسليمان: أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 25 - 26] .
وقيل في [معنى]
قوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
غيرُ ما ذكرناه؛ فروى الضحاك، عن ابن عباس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال: يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية،
يعني: ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة، قال: قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا ) فهذا الذي أبدوا ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يعني: ما أسر
إبليس في نفسه من الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي، والضحاك، والثوري. واختار ذلك ابن جرير.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة: هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) فكان الذي أبدوا قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم، والكرم.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه
الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد
علمته؛ ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال: وسَبَقَ من الله لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال: ولما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل .
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس، وهو أن معنى قوله
تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) وأعلم -مع علمي غيب السماوات والأرض
-ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى عَلَيَّ شيء، سواء عندي سرائركم، وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره ، والتكبر عن طاعته.
قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قُتِل الجيش وهُزموا، وإنما قتل الواحد أو
البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج
الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
[الحجرات: 4 ] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم، قال: وكذلك
قوله: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) .
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه
تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث -أيضا-كثيرة منها
حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى، عليه السلام: "رَبِّ، أرني آدم الذي
أخرجنا ونفسَه من الجنة" ، فلما اجتمع به قال: "أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته". قال... وذكر الحديث كما سيأتي.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشْر بن
عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من
أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة،
وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من
نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار،
[وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين]
. فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا.
قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال
لهم: الجنّ -فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف
الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه
أحد. قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا
معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب -واللازب: اللزج الصلب
من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم
بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله،
فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرحمن: 14 ] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس
بمُصْمَت. قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من
دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن
سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال: فلما نفخ
الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده
إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه
ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [الإسراء:
11] قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده
عطس، فقال: "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله. فقال [الله] له: "يرحمك الله يا آدم ". قال ثم قال [الله]
تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في
السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان
حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا
وأقوى خلقا، خلقتني
من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس
أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة
لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها
الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم
وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين
كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. قال: فلما علمت الملائكة موجدة
الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم
به علم قالوا: سبحانك، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا
إليك لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [يقول: أخبرهم] بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ولا يعلم غيري وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ يقول: ما تظهرون وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن
مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل
إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن،
وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في
صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة. فلما وقع
ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قالوا: ربنا، أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني
عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال
جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم
أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من
تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ
التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال
للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71 ، 72 ] فخلقه ا
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا
لا تَعْلَمُونَ (30)
يخبر
تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم،
فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ) أي: واذكر يا محمد
إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل
العربية [وهو أبو عبيدة] أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك. ورده ابن جرير.
قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة.
( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام: 165] وقال وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62]. وقال وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف: 60]. وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 59]. [وقرئ في الشاذ: "إني جاعل في الأرض خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي]
. وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام، فقط، كما يقوله طائفة من
المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي
ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره،
والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فإنهم
إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو
بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال
من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من
المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبي] أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد
لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا
يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم
بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها
فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا ) الآية]
وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما
الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان
المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا
يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم
عن هذا السؤال: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: إني أعلم من
المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون
والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون،
والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله،
صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح
: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف
تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم
يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد
أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار،
وعمل النهار قبل الليل" فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من
تفسير قوله: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وقيل: معنى قوله
جوابًا لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أن لي حكمة مفصلة في
خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: (
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) فقال: ( إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم
به. وقيل: بل تضمن قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض
بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع غيرها من
الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني
الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة،
قالوا: قال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال
لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم، قال
: وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها
تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
( فِي الأرْضِ ) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دُحِيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة" .
وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مُدْرَج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
( خَلِيفَةً ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال
للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً ) مني، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن
قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقه فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير: وإنما [كان تأويل الآية على هذا] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال: والخليفة الفعيلة من قولك، خلف فلان فلانا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خَلَفًا.
قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأرْضِ خَلِيفَةً ) يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجنُّ،
فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم
إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) .
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: ( إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قال: يعنون [به] بني آدم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق
في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله، عز وجل، خلق إلا الملائكة،
والأرض ليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] ؟!
وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن
الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بُكَير
بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان الجن بنو الجان في
الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث
الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله
للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا: أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
[البقرة: 33] قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس،
وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في
الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كما أفسدت الجن ( وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ ) كما سَفَكُوا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن
سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال لهم: إني فاعل. فآمنوا بربهم
، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي
علمهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؟
( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كان [الله] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي، حدثنا ابن المبارك،
عن معروف، يعني ابن خَرّبوذ المكي، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول:
السّجِلّ ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات
ينظرهن في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من
الأمور، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قالا ذلك استطالة على الملائكة.
وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر،
فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم. ومقتضاه أن
الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم -أيضًا-حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هشام
بن أبي عَبْد الله، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي
يقول: إن الملائكة الذين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )
كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وهذا -أيضًا-إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم.
قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم،
فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ )
وقال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: ( أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم
أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها: وكيف
يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ ) يعني: أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من
ترونه لي طائعا.
قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة [الملائكة] استخبار منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: (
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) وقد علمت
الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في
الأرض ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة
أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان
يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم
عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت
السماوات والأرض بالطاعة فقال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] .
وقوله تعالى: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال
عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: التسبيحُ: التسبيحُ، والتقديس: الصلاة .
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن
مسعود-وعن ناس من الصحابة: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ ) قال: يقولون: نصلي لك.
وقال مجاهد: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك: التقديس: التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.
وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سُبُّوح
قُدُّوس، يعني بقولهم: سُبوح، تنـزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له.
ولذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: (
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك
بك ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس
وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل ؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده"
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى"
] .
( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) قال قتادة: فكان في علم
الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة،
وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في
حكمة قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين
الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم
الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا
يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو
بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل
الصديق بعمر بن الخطاب، أو يتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر،
أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب
التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط،
وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك
عمر رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد
الرحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم
الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي ولا
المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟
فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا
كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان"
. وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام
الحرمين، وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية
إمامين واجبي الطاعة، قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك
في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ
أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم
بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس
بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.
وَعَلَّمَ
آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ
يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (33)
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من
عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل
على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين
سألوا عن ذلك، فأخبرهم [الله] تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )
وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ
كُلَّهَا ) قال: عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدواب، فقيل: هذا
الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل ، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد،
عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم
الصحفة والقِدر، قال: نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة .
وقال مجاهد: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم كل دابة، وكل طير، وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل
شيء، وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي: أسماء
النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم.
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: (
ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) وهذا عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه
لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما
قال: وَاللَّهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ [النور: 45] .
[وقد قرأ عبد الله بن مسعود: "ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب: "ثم عرضها" أي: السماوات] .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن
عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛
ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا
مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك عن النبي صلى
الله عليه وسلم، قال - وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد،
عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -: "يجتمع المؤمنون يوم
القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو
الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا
عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه
فيستحيي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه
فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحيي. فيقول:
ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى
عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر
قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحيي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله
ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا
عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن
على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم
يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، وإذا رأيت ربي مثله ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به . وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد، وهو ابن أبي عَرُوبَة، عن قتادة
. ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فيأتون آدم
فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل
شيء"، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) يعني: المسميات؛ كما قال عبد الرزاق، عن
مَعْمَر، عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة ( فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )
ثم عرض الخَلْق على الملائكة.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن جرير بن
حازم ومبارك بن فضالة، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة -قالا علمه اسم
كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض
ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله،
ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة
القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك
الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك
ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم: إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم
عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم
أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت
عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم
توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
[وقوله]
( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هذا تقديس وتنـزيه من الملائكة لله تعالى
أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله
تعالى، ولهذا قالوا: ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) أي: العليم بكل شيء، الحكيم في
خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل
التام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج،
عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: سبحان الله، قال: تنـزيه الله نفسه عن
السوء. [قال] ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال .
قال: وحدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل
ميمون بن مِهْرَان عن "سبحان الله"، فقال: اسم يُعَظَّمُ الله به،
ويُحَاشَى به من السوء.
وقوله تعالى: ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ ) قال زيد بن أسلم. قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل،
حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب.
وقال مجاهد في قول الله: ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) قال: اسم الحمامة، والغراب، واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم، عليه السلام، على الملائكة، عليهم السلام، في سرده ما
علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة: ( أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم
الغيب الظاهر والخفي، كما قال [الله] تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال
لسليمان: أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 25 - 26] .
وقيل في [معنى]
قوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
غيرُ ما ذكرناه؛ فروى الضحاك، عن ابن عباس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال: يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية،
يعني: ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن
مسعود، وعن ناس من الصحابة، قال: قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا ) فهذا الذي أبدوا ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يعني: ما أسر
إبليس في نفسه من الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي، والضحاك، والثوري. واختار ذلك ابن جرير.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة: هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) فكان الذي أبدوا قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم، والكرم.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه
الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد
علمته؛ ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال: وسَبَقَ من الله لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال: ولما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل .
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس، وهو أن معنى قوله
تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) وأعلم -مع علمي غيب السماوات والأرض
-ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى عَلَيَّ شيء، سواء عندي سرائركم، وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره ، والتكبر عن طاعته.
قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قُتِل الجيش وهُزموا، وإنما قتل الواحد أو
البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج
الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
[الحجرات: 4 ] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم، قال: وكذلك
قوله: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) .
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه
تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث -أيضا-كثيرة منها
حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى، عليه السلام: "رَبِّ، أرني آدم الذي
أخرجنا ونفسَه من الجنة" ، فلما اجتمع به قال: "أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته". قال... وذكر الحديث كما سيأتي.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشْر بن
عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من
أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة،
وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من
نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار،
[وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين]
. فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا.
قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال
لهم: الجنّ -فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف
الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه
أحد. قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا
معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب -واللازب: اللزج الصلب
من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم
بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله،
فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرحمن: 14 ] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس
بمُصْمَت. قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من
دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن
سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال: فلما نفخ
الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده
إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه
ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [الإسراء:
11] قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده
عطس، فقال: "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله. فقال [الله] له: "يرحمك الله يا آدم ". قال ثم قال [الله]
تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في
السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان
حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا
وأقوى خلقا، خلقتني
من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس
أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة
لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها
الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم
وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين
كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. قال: فلما علمت الملائكة موجدة
الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم
به علم قالوا: سبحانك، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا
إليك لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [يقول: أخبرهم] بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ولا يعلم غيري وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ يقول: ما تظهرون وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن
مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل
إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن،
وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في
صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة. فلما وقع
ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قالوا: ربنا، أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني
عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال
جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم
أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من
تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ
التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال
للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71 ، 72 ] فخلقه ا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثامن من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثامن من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثامن من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثامن عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والأربعون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى