الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
وقوله: ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ) قال ابن عباس،
وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجَنَف: الخطأ.
وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى
ببيعه الشيءَ الفُلانيّ محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من
الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو
متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضية ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي. وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء. ولهذا عطف هذا -فبينه -على النهي لذلك، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد، قراءة، أخبرني
أبي، عن الأوزاعي، قال الزهري: حدثني عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: أنه قال: "يُرَدّ من صَدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته" .
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث العباس بن الوليد، به.
قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد. وهذا الكلام إنما هو عن
عروة فقط. وقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، فلم يجاوز به عروة.
وقال ابن مَرْدويه أيضًا: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم
بن يوسف، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند،
عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحيف في الوصية
من الكبائر" .
وهذا في رفعه أيضًا نظر . وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق:
حدثنا مَعْمَر، عن أشعثَ بن عبد الله، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعملُ بعمل أهل
الخير سبعينَ سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار،
وإن الرجل ليعمل بعَمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له
بخير عمله، فيدخل الجنة" . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله
عز وجل، لما فيه زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة
والأخلاق الرذيلة. وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم،
فلهم فيه أسوة، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك،
كما قال تعالى: لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
[المائدة: 48] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق
لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم
الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله
وأدائه، بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل
شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه. وقد رُوي أن
الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام -عن معاذ،
وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك بن مزاحم. وزاد: لم يزل
هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
وقال عباد بن منصور، عن الحسن البصري: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) فقال: نعم،
والله لقد كُتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهرًا كاملا وأياما معدودات: عددا معلوما. وروي عن السدي، نحوه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي
أيوب، حدثني عبد الله بن الوليد، عن أبي الربيع، رجل من أهل المدينة، عن
عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه
الله على الأمم قبلكم.." في حديث طويل اختصر منه ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عمن حدثه عن ابن عمر، قال
أنـزلت: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ) كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [الله] عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، وأبي العالية، وعبد الرحمن بن أبي
ليلى، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، ومقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، وعطاء
الخراساني، نحو ذلك.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ ) يعني بذلك: أهل الكتاب. وروي عن الشعبي والسّدي وعطاء الخراساني، مثله.
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فقال: (
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ ) أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك
من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. وأما الصحيح
المقيم الذي يُطيق الصيام، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن
شاء صام، وإن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن
كل يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن
عباس، ومجاهد، وطاوس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال تعالى: (
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن
مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال:
أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال؛ فأما أحوال الصلاة
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس، ثم إن الله عز وجل أنـزل عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة. هذا حول.
قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو
كادوا يَنْقُسُون. ثم إنّ رجلا من الأنصار، يقال له: عبد الله بن زيد، أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى
النائم -ولو قلتُ: إني لم أكن نائمًا لصدقتُ -أني
بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران، فاستقبل
القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله -مثنى حتى فرغ
من الأذان، ثم أمهل ساعة، ثم قال مثل الذي قال، غير أنه يزيد في ذلك: قد
قامت الصلاة -مرتين -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالا
فَلْيؤذن بها". فكان بلال أول من أذن بها. قال: وجاء عمر بن الخطاب، رضي
الله عنه، فقال: يا رسول الله، [إنه] قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني، فهذان حالان .
قال: وكانوا يأتون الصلاة -قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى، فيقول: واحدة أو اثنتين،
فيصليهما، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على
حال أبدًا إلا كنتُ عليها، ثم قضيتُ ما سبقني. قال: فجاء وقد سَبَقه النبي
صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال: فثَبَتَ معه، فلما قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قَد سن لكم
مُعَاذ، فهكذا فاصنعوا". فهذه ثلاثة أحوال .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل
يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام،
وأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .
إلى قوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
) فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز
وجل أنـزل الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعامُ للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان .
قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا
امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائمًا حتى أمسى،
فجاء إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح فأصبح
صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا، فقال: ما
لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا؟ قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئتُ
حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال: وكان عمر قد
أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له،
فأنـزل الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
وأخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث المسعودي، به .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت:
كان عاشوراء يصام، فلما نـزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود، مثله .
وقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كما قال معاذ: كان
في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا. وهكذا
روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال: لما نـزلت: ( وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كان من أراد أن يُفْطر يفتدي،
حتى نـزلت الآية التي بعدها فنسختها .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، قال: هي منسوخة.
وقال السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) قال: يقول: ( وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام
ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) قال: يقول: أطعم مسكينا
آخر ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فكانوا كذلك
حتى نسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وقال البخاري أيضًا: حدثنا إسحاق، أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق،
حدثنا عَمْرو بن دينار، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: ( وعلى الذين
يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين ) . قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ
الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا
.
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال]
نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ ) في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم
مكان كل يوم مسكينًا.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن
محمد بن بِهْرام المحرمي، حدثنا وهب بن بَقِيَّة، حدثنا خالد بن عبد الله،
عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاء في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن
عباس: نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ ) فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثم نـزلت هذه
الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا
وأفطر. فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه،
بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأما الشيخ الفاني [الهرم] الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] أن يطعم عن
كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا يجب عليه
إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه، فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف
نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني -وهو الصحيح، وعليه أكثر
العلماء -: أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف
على قراءة من قرأ: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتجشمونه، كما
قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا
لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس -بعد أن كبر عامًا أو عامين -كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما، وأفطر .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده،
فقال: حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ، حدثنا أبي، حدثنا عمران، عن أيوب بن
أبي تميمة قال: ضعف أنس [بن مالك] عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم .
ورواه عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عن عمران -وهو ابن حُدَير -عن أيوب، به.
ورواه عبد أيضًا، من حديث ستة من أصحاب أنس، عن أنس -بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو
ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان
ويقضيان. وقيل: يفديان فقط، ولا قضاء. وقيل: يجب القضاء بلا فدية. وقيل:
يفطران، ولا فدية ولا قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام
الذي أفردناه . ولله الحمد والمنة.
شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن
لإنـزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر
الذي كانت الكتب الإلهية تنـزل فيه على الأنبياء.
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم،
حدثنا عمْران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة -يعني ابن
الأسقع-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنـزلت صُحُف إبراهيم في أول
ليلة من رمضان. وأنـزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان، والإنجيل لثلاث
عَشَرَةَ خلت من رمضان وأنـزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه: أن الزبور أنـزل لثنتَي عشرة [ليلة] خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه.
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل -فنـزل كل منها
على النبي الذي أنـزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نـزل جملة واحدة
إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر
منه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]. وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان: 3]، ثم نـزل بعدُ مفرّقًا
بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه، عن
ابن عباس، كما قال إسرائيل، عن السّدي، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم،
عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقد
أنـزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر
ربيع. فقال ابن عباس: إنه أنـزل في رمضان، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة
جملة واحدة، ثم أنـزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه.
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أنـزل القرآن في النصف من
شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة، ثم أنـزل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس.
وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال: نـزل القرآن في شهر رمضان في ليلة
القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء،
ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 32، 33].
[قال فخر الدين: ويحتمل أنه كان ينـزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس
إلى إنـزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا، وتوقف، هل هذا أولى أو
الأول؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى
الإجماع على أن القرآن نـزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في
السماء الدنيا، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله: (
الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي: في فضله أو وجوب صومه، وهذا غريب
جدا] .
وقوله: ( هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )
هذا مدح للقرآن الذي أنـزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه
( وَبَيِّنَاتٍ ) أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها
دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي،
ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال: إلا "شهر رمضان" ولا يقال: "رمضان"؛ قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن
كعب القُرَظي، وسعيد -هو المقْبُري-عن أبي هريرة، قال: لا تقولوا: رمضان،
فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان.
قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب نحو ذلك، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.
قلت: أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] المغازي، والسير، ولكن فيه ضعف، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا، عن أبي هريرة، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي -وهو جدير بالإنكار-فإنه متروك، وقد وهم في رفع هذا الحديث، وقد انتصر البخاري، رحمه الله، في كتابه لهذا فقال: "باب يقال رمضان" وساق أحاديث في ذلك منها: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
وقوله: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هذا إيجاب
حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر
رمضان، وهو صحيح في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة
المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، كما
تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في
الإفطار، بشرط القضاء فقال: ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ
عليه الصيام معه، أو يؤذيه
أو كان على سفر أي في حال سفر -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما
أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي: إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال
المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم
سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، لقوله: ( فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وإنما يباح الإفطار لمسافر
استهل الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه
المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله
أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في
شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح .
الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر،
لقوله: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) والصحيح قول الجمهور، أن الأمر
في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب
الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم
الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل
هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان] في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .
الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار،
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل،
أخذا بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الصوم
في السفر، فقال: "من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه" . وقال في حديث آخر:
"عليكم برخصة الله التي رخص لكم"
وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حَمْزة بن عمرو الأسلمي قال: يا
رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت
فأفطر". وهو في الصحيحين
. وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، فقال: "
ليس من البر الصيام في السفر". أخرجاه
. فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه
الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد
وغيره، عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من
الإثم مثل جبال عرفة .
الرابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يجب التتابع، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني: لا يجب
التتابع، بل إن شاء فَرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف،
وعليه ثبتت الدلائل
؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء
رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى: ( فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا ابن
هلال، عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي قتادة، عن الأعرابي الذي سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" .
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم بن هلال، حدثنا
غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي، حدثني أبي عُرْوَة، قال: كنا ننتظر النبي صلى
الله عليه وسلم فخرج رَجلا
يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل، فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه:
علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دين الله في
يسر" ثلاثًا يقولها .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم، عن عاصم بن هلال، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو
التيّاح، سمعت أنس بن مالك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يسروا، ولا تعسروا، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا". أخرجاه في الصحيحين
. وفي الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي
موسى حين بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا
تختلفا". وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة" .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن إسحاق بن
إبراهيم، حدثنا يحيى ابن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا أبو
مسعود الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق، عن مِحْجَن بن الأدرع: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره
ساعة، فقال: "أتراه يصلي صادقًا؟" قال: قلت: يا رسول الله، هذا أكثر أهل
المدينة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُسْمِعْه
فَتُهلِكَه". وقال: "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر، ولم يرد بهم
العُسْر" .
ومعنى قوله: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار
للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.
وقوله: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200] وقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ النساء: 103]، فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10] وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا بالتكبير؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من
هذه الآية: ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد
الفطر؛ لظاهر الأمر في قوله ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
) وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة -رحمه الله -أنه لا يُشْرَع التكبير في
عيد الفطر. والباقون على استحبابه، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم.
وقوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: إذا قمتم بما أمركم الله من
طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من
الشاكرين بذلك.
وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ (186)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن عبدة بن أبي برزة السِّجستاني عن الصُّلْب بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أن أعرابيًا
قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى
الله عليه وسلم، فأنـزل الله: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) .
ورواه ابن مَرْدُويه، وأبو الشيخ الأصبهاني، من حديث محمد بن أبي حميد،
عن جرير، به. وقال عبد الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن،
قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [النبي صلى الله عليه وسلم]
: أين ربنا؟ فأنـزل الله عز وجل: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية .
وقال ابن جُرَيج عن عطاء: أنه بلغه لما نـزلت: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
[غافر: 60] قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنـزلت: ( وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا خالد
الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا،
ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: "يا أيها
الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما
تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا
عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا
بالله".
أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي، واسمه عبد الرحمن بن مُل ، عنه، بنحوه .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن
أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا
عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن كريمة بنت الخشخاش
المزنية، قالت: حدثنا أبو هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "قال الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه" .
قلت: وهذا كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، وكقوله لموسى وهارون، عليهما السلام: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
[طه: 46]. والمراد من هذا: أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه
شيء، بل هو سميع الدعاء. وفيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه تعالى،
كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان -هو النهدي -يحدث عن سلمان
-يعني الفارسي -رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن
الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما
خائبتين".
قال يزيد: سموا لي هذا الرجل، فقالوا: جعفر بن ميمون .
وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون، صاحب الأنماط، به . وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم، ولم يرفعه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي، رحمه الله، في أطرافه: وتابعه
أبو همام محمد بن الزبرقان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، به .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو عامر، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو
المتوكل الناجي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من
مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله
بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يَدّخرها له في
الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر. قال: "الله
أكثر " .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج، أخبرنا
محمد بن يوسف، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نفير، أن
عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما على ظهر
الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله، عز وجل، بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف
عنه من السوء مثلها، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" .
ورواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن محمد بن يوسف الفرْيابي، عن ابن ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -به . وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر -عن أبي
هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم
يَعْجل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، به . وهذا لفظ البخاري، رحمه الله، وأثابه الجنة.
وقال مسلم أيضًا
: حدثني أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، عن ربيعة ابن
يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم
يستعجل". قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوتُ، وقد دَعَوتُ، فلم أرَ يستجابُ لي، فَيَسْتَحسر عند ذلك، ويترك الدعاء" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ابن
هلال، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال
العبد بخير ما لم يستعجل". قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: قد دعوتُ ربي
فلم يَسُتَجبْ لي" .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى،
حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر: أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه، عن عروة
بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ما من عَبْد مؤمن يدعو
الله بدعوة فتذهب، حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة، إذا
لم يعجل أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أمَّاه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت: يقول: سألت فلم أعْطَ، ودعوت فلم أجَبْ.
قال ابن قُسَيْط: وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا بكر بن عمرو، عن
أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها
الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب
غافل" .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب، حدثنا إسحاق بن
إبراهيم بن أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد، حدثني أبي بن نافع، حدثني
أبي نافع بن معد يكرب، قال: كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم عن الآية: ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) قال: "يا رب،
مسألة عائشة". فهبط جبريل فقال: الله يقرؤك السلام، هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة، وقلبُه نقي يقول: يا رب، فأقول: لبيك. فأقضي حاجته.
هذا حديث غريب من هذا الوجه .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: حدثني
جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: ( وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم
أمرت بالدعاء، وتوكَّلْتَ بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك،
لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم
تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة
حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي ومحمد بن يحيى القُطَعي
قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا صالح المُرِّي، عن الحسن، عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، واحدة لك
وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك؛ فأما التي لي
وقوله: ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ) قال ابن عباس،
وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجَنَف: الخطأ.
وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى
ببيعه الشيءَ الفُلانيّ محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من
الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو
متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضية ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي. وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء. ولهذا عطف هذا -فبينه -على النهي لذلك، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد، قراءة، أخبرني
أبي، عن الأوزاعي، قال الزهري: حدثني عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: أنه قال: "يُرَدّ من صَدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته" .
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث العباس بن الوليد، به.
قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد. وهذا الكلام إنما هو عن
عروة فقط. وقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، فلم يجاوز به عروة.
وقال ابن مَرْدويه أيضًا: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم
بن يوسف، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند،
عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحيف في الوصية
من الكبائر" .
وهذا في رفعه أيضًا نظر . وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق:
حدثنا مَعْمَر، عن أشعثَ بن عبد الله، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعملُ بعمل أهل
الخير سبعينَ سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار،
وإن الرجل ليعمل بعَمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له
بخير عمله، فيدخل الجنة" . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله
عز وجل، لما فيه زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة
والأخلاق الرذيلة. وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم،
فلهم فيه أسوة، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك،
كما قال تعالى: لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
[المائدة: 48] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق
لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم
الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله
وأدائه، بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل
شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه. وقد رُوي أن
الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام -عن معاذ،
وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك بن مزاحم. وزاد: لم يزل
هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
وقال عباد بن منصور، عن الحسن البصري: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) فقال: نعم،
والله لقد كُتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهرًا كاملا وأياما معدودات: عددا معلوما. وروي عن السدي، نحوه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي
أيوب، حدثني عبد الله بن الوليد، عن أبي الربيع، رجل من أهل المدينة، عن
عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه
الله على الأمم قبلكم.." في حديث طويل اختصر منه ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عمن حدثه عن ابن عمر، قال
أنـزلت: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ) كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [الله] عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، وأبي العالية، وعبد الرحمن بن أبي
ليلى، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، ومقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، وعطاء
الخراساني، نحو ذلك.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ ) يعني بذلك: أهل الكتاب. وروي عن الشعبي والسّدي وعطاء الخراساني، مثله.
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فقال: (
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ ) أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك
من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. وأما الصحيح
المقيم الذي يُطيق الصيام، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن
شاء صام، وإن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن
كل يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن
عباس، ومجاهد، وطاوس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال تعالى: (
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن
مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال:
أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال؛ فأما أحوال الصلاة
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس، ثم إن الله عز وجل أنـزل عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة. هذا حول.
قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو
كادوا يَنْقُسُون. ثم إنّ رجلا من الأنصار، يقال له: عبد الله بن زيد، أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى
النائم -ولو قلتُ: إني لم أكن نائمًا لصدقتُ -أني
بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران، فاستقبل
القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله -مثنى حتى فرغ
من الأذان، ثم أمهل ساعة، ثم قال مثل الذي قال، غير أنه يزيد في ذلك: قد
قامت الصلاة -مرتين -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالا
فَلْيؤذن بها". فكان بلال أول من أذن بها. قال: وجاء عمر بن الخطاب، رضي
الله عنه، فقال: يا رسول الله، [إنه] قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني، فهذان حالان .
قال: وكانوا يأتون الصلاة -قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى، فيقول: واحدة أو اثنتين،
فيصليهما، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على
حال أبدًا إلا كنتُ عليها، ثم قضيتُ ما سبقني. قال: فجاء وقد سَبَقه النبي
صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال: فثَبَتَ معه، فلما قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قَد سن لكم
مُعَاذ، فهكذا فاصنعوا". فهذه ثلاثة أحوال .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل
يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام،
وأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .
إلى قوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
) فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز
وجل أنـزل الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعامُ للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان .
قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا
امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائمًا حتى أمسى،
فجاء إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح فأصبح
صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا، فقال: ما
لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا؟ قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئتُ
حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال: وكان عمر قد
أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له،
فأنـزل الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
وأخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث المسعودي، به .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت:
كان عاشوراء يصام، فلما نـزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود، مثله .
وقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كما قال معاذ: كان
في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا. وهكذا
روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال: لما نـزلت: ( وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كان من أراد أن يُفْطر يفتدي،
حتى نـزلت الآية التي بعدها فنسختها .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، قال: هي منسوخة.
وقال السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) قال: يقول: ( وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام
ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) قال: يقول: أطعم مسكينا
آخر ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فكانوا كذلك
حتى نسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وقال البخاري أيضًا: حدثنا إسحاق، أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق،
حدثنا عَمْرو بن دينار، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: ( وعلى الذين
يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين ) . قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ
الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا
.
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال]
نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ ) في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم
مكان كل يوم مسكينًا.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن
محمد بن بِهْرام المحرمي، حدثنا وهب بن بَقِيَّة، حدثنا خالد بن عبد الله،
عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاء في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن
عباس: نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ ) فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثم نـزلت هذه
الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا
وأفطر. فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه،
بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأما الشيخ الفاني [الهرم] الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] أن يطعم عن
كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا يجب عليه
إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه، فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف
نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني -وهو الصحيح، وعليه أكثر
العلماء -: أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف
على قراءة من قرأ: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتجشمونه، كما
قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا
لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس -بعد أن كبر عامًا أو عامين -كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما، وأفطر .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده،
فقال: حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ، حدثنا أبي، حدثنا عمران، عن أيوب بن
أبي تميمة قال: ضعف أنس [بن مالك] عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم .
ورواه عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عن عمران -وهو ابن حُدَير -عن أيوب، به.
ورواه عبد أيضًا، من حديث ستة من أصحاب أنس، عن أنس -بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو
ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان
ويقضيان. وقيل: يفديان فقط، ولا قضاء. وقيل: يجب القضاء بلا فدية. وقيل:
يفطران، ولا فدية ولا قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام
الذي أفردناه . ولله الحمد والمنة.
شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن
لإنـزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر
الذي كانت الكتب الإلهية تنـزل فيه على الأنبياء.
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم،
حدثنا عمْران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة -يعني ابن
الأسقع-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنـزلت صُحُف إبراهيم في أول
ليلة من رمضان. وأنـزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان، والإنجيل لثلاث
عَشَرَةَ خلت من رمضان وأنـزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه: أن الزبور أنـزل لثنتَي عشرة [ليلة] خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه.
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل -فنـزل كل منها
على النبي الذي أنـزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نـزل جملة واحدة
إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر
منه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]. وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان: 3]، ثم نـزل بعدُ مفرّقًا
بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه، عن
ابن عباس، كما قال إسرائيل، عن السّدي، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم،
عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقد
أنـزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر
ربيع. فقال ابن عباس: إنه أنـزل في رمضان، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة
جملة واحدة، ثم أنـزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه.
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أنـزل القرآن في النصف من
شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة، ثم أنـزل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس.
وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال: نـزل القرآن في شهر رمضان في ليلة
القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء،
ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 32، 33].
[قال فخر الدين: ويحتمل أنه كان ينـزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس
إلى إنـزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا، وتوقف، هل هذا أولى أو
الأول؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى
الإجماع على أن القرآن نـزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في
السماء الدنيا، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله: (
الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي: في فضله أو وجوب صومه، وهذا غريب
جدا] .
وقوله: ( هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )
هذا مدح للقرآن الذي أنـزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه
( وَبَيِّنَاتٍ ) أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها
دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي،
ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال: إلا "شهر رمضان" ولا يقال: "رمضان"؛ قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن
كعب القُرَظي، وسعيد -هو المقْبُري-عن أبي هريرة، قال: لا تقولوا: رمضان،
فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان.
قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب نحو ذلك، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.
قلت: أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] المغازي، والسير، ولكن فيه ضعف، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا، عن أبي هريرة، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي -وهو جدير بالإنكار-فإنه متروك، وقد وهم في رفع هذا الحديث، وقد انتصر البخاري، رحمه الله، في كتابه لهذا فقال: "باب يقال رمضان" وساق أحاديث في ذلك منها: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
وقوله: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هذا إيجاب
حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر
رمضان، وهو صحيح في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة
المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، كما
تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في
الإفطار، بشرط القضاء فقال: ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ
عليه الصيام معه، أو يؤذيه
أو كان على سفر أي في حال سفر -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما
أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي: إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال
المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم
سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، لقوله: ( فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وإنما يباح الإفطار لمسافر
استهل الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه
المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله
أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في
شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح .
الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر،
لقوله: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) والصحيح قول الجمهور، أن الأمر
في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب
الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم
الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل
هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان] في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .
الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار،
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل،
أخذا بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الصوم
في السفر، فقال: "من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه" . وقال في حديث آخر:
"عليكم برخصة الله التي رخص لكم"
وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حَمْزة بن عمرو الأسلمي قال: يا
رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت
فأفطر". وهو في الصحيحين
. وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، فقال: "
ليس من البر الصيام في السفر". أخرجاه
. فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه
الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد
وغيره، عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من
الإثم مثل جبال عرفة .
الرابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يجب التتابع، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني: لا يجب
التتابع، بل إن شاء فَرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف،
وعليه ثبتت الدلائل
؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء
رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى: ( فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا ابن
هلال، عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي قتادة، عن الأعرابي الذي سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" .
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم بن هلال، حدثنا
غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي، حدثني أبي عُرْوَة، قال: كنا ننتظر النبي صلى
الله عليه وسلم فخرج رَجلا
يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل، فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه:
علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دين الله في
يسر" ثلاثًا يقولها .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم، عن عاصم بن هلال، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو
التيّاح، سمعت أنس بن مالك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يسروا، ولا تعسروا، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا". أخرجاه في الصحيحين
. وفي الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي
موسى حين بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا
تختلفا". وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة" .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن إسحاق بن
إبراهيم، حدثنا يحيى ابن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا أبو
مسعود الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق، عن مِحْجَن بن الأدرع: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره
ساعة، فقال: "أتراه يصلي صادقًا؟" قال: قلت: يا رسول الله، هذا أكثر أهل
المدينة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُسْمِعْه
فَتُهلِكَه". وقال: "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر، ولم يرد بهم
العُسْر" .
ومعنى قوله: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار
للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.
وقوله: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200] وقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ النساء: 103]، فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10] وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا بالتكبير؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من
هذه الآية: ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد
الفطر؛ لظاهر الأمر في قوله ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
) وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة -رحمه الله -أنه لا يُشْرَع التكبير في
عيد الفطر. والباقون على استحبابه، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم.
وقوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: إذا قمتم بما أمركم الله من
طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من
الشاكرين بذلك.
وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ (186)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن عبدة بن أبي برزة السِّجستاني عن الصُّلْب بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أن أعرابيًا
قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى
الله عليه وسلم، فأنـزل الله: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) .
ورواه ابن مَرْدُويه، وأبو الشيخ الأصبهاني، من حديث محمد بن أبي حميد،
عن جرير، به. وقال عبد الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن،
قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [النبي صلى الله عليه وسلم]
: أين ربنا؟ فأنـزل الله عز وجل: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية .
وقال ابن جُرَيج عن عطاء: أنه بلغه لما نـزلت: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
[غافر: 60] قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنـزلت: ( وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا خالد
الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا،
ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: "يا أيها
الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما
تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا
عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا
بالله".
أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي، واسمه عبد الرحمن بن مُل ، عنه، بنحوه .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن
أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا
عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن كريمة بنت الخشخاش
المزنية، قالت: حدثنا أبو هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "قال الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه" .
قلت: وهذا كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، وكقوله لموسى وهارون، عليهما السلام: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
[طه: 46]. والمراد من هذا: أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه
شيء، بل هو سميع الدعاء. وفيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه تعالى،
كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان -هو النهدي -يحدث عن سلمان
-يعني الفارسي -رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن
الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما
خائبتين".
قال يزيد: سموا لي هذا الرجل، فقالوا: جعفر بن ميمون .
وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون، صاحب الأنماط، به . وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم، ولم يرفعه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي، رحمه الله، في أطرافه: وتابعه
أبو همام محمد بن الزبرقان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، به .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو عامر، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو
المتوكل الناجي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من
مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله
بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يَدّخرها له في
الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر. قال: "الله
أكثر " .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج، أخبرنا
محمد بن يوسف، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نفير، أن
عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما على ظهر
الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله، عز وجل، بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف
عنه من السوء مثلها، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" .
ورواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن محمد بن يوسف الفرْيابي، عن ابن ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -به . وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر -عن أبي
هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم
يَعْجل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، به . وهذا لفظ البخاري، رحمه الله، وأثابه الجنة.
وقال مسلم أيضًا
: حدثني أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، عن ربيعة ابن
يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم
يستعجل". قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوتُ، وقد دَعَوتُ، فلم أرَ يستجابُ لي، فَيَسْتَحسر عند ذلك، ويترك الدعاء" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ابن
هلال، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال
العبد بخير ما لم يستعجل". قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: قد دعوتُ ربي
فلم يَسُتَجبْ لي" .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى،
حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر: أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه، عن عروة
بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ما من عَبْد مؤمن يدعو
الله بدعوة فتذهب، حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة، إذا
لم يعجل أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أمَّاه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت: يقول: سألت فلم أعْطَ، ودعوت فلم أجَبْ.
قال ابن قُسَيْط: وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا بكر بن عمرو، عن
أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها
الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب
غافل" .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب، حدثنا إسحاق بن
إبراهيم بن أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد، حدثني أبي بن نافع، حدثني
أبي نافع بن معد يكرب، قال: كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم عن الآية: ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) قال: "يا رب،
مسألة عائشة". فهبط جبريل فقال: الله يقرؤك السلام، هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة، وقلبُه نقي يقول: يا رب، فأقول: لبيك. فأقضي حاجته.
هذا حديث غريب من هذا الوجه .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: حدثني
جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: ( وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم
أمرت بالدعاء، وتوكَّلْتَ بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك،
لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم
تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة
حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي ومحمد بن يحيى القُطَعي
قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا صالح المُرِّي، عن الحسن، عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، واحدة لك
وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك؛ فأما التي لي
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا لك على الموضوع المميز
دمت بخير يا رب
دمت بخير يا رب
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الواحد والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى