الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بمدد طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في السيرة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهُمُّون بذلك
ليسقفوها، ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضما فوق القامة، فأرادوا رفعها
وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنـز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في
جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنـز دويك، مولى بني مُلَيح بن عمرو
من خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا
خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم، في أنفسهم
بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ، فيها ما
يُهْدَى لها كل يوم، فَتَتشرق
على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا
احزَألَّت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تَتَشرَّق على
جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق،
وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم،
فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر
قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي
ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مَخزُوم .
قال: ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة،
وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا
إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن
قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو
الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا
منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم
قام عليها وهو يقول: اللهم لم تَرعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم
من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم
منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا
انتهى الهدم [بهم] إلى الأساس، أساس إبراهيم، عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا .
قال [محمد بن إسحاق]
فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عَتَلة
بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها،
فانتهوا عن ذلك الأساس .
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة
تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني الحجر الأسود
-فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا
وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا
هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك
الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا. ثم
إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم -وكان عامئذ أسن قريش كلهم -قال
: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا
المسجد، يقضي بينكم، فيه. ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم
وأخبروه الخبر، قال [رسول الله]
صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ إليَّ ثوبًا" فأتي به، فأخذ الركن -يعني
الحجر الأسود-فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"،
ثم [قال] : "ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينـزل عليه الوحي:
الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد
المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَـــا تصـــوبت العُقَاب | إلـى الثعبـان وهـي لهـا اضطـراب | |
وقــد كـانت يكــون لهـا كشــيش | وأحيانًــا يكــون لهــا وثَـــاب | |
إذا قمنــا إلــى التأســيس شَــدَّت | تُهَيّبُنُـــا البنــاءَ وقــد تُهَــابُ | |
فلمــا أن خَشِــينا الزَّجْـرَ جــاءت | عقــاب تَتْلَئِــبُّ لهــا انصبــاب | |
فضمتهـــا إليهــا ثـــم خَـــلَّت | لنــا البنيــانَ ليس لــه حجــاب | |
فَقُمْنَـــا حاشــدين إلــى بنـــاء | لنــا منــه القواعـــدُ والــتراب | |
غــداة نُــرَفِّع التأســيس منـــه | وليس عـــلى مُسَـــوِّينا ثيــاب | |
أعَــزّ بــه المليــكُ بنــي لُــؤي | فليسَ لأصلـــه منْهُـــم ذَهــاب | |
وقــد حَشَـدَتْ هُنَـاك بنــو عَــديّ | ومُـــرَّة قــد تَقَدَّمَهــا كـــلاب | |
فَبَوَّأنــا المليــك بــــذاكَ عــزّا | وعنـــد اللـــه يُلْتَمَسُ الثـــواب |
عشر ذراعًا، وكانت تكسى القباطي، ثم كُسِيت بعدُ البُرود، وأول من كساها
الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت
في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين. وفي آخر ولاية يزيد بن
معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها
على قواعد إبراهيم، عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا
وبابًا غربيًّا ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك من خالته
عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم
تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد
الملك بن مَرْوان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:
حدثنا هَنَّاد بن السَّري، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان،
عن عطاء، قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل
الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد
أن يُجَرِّئَهم -أو يُحزبهم -على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها
الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى
منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فَرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه
وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال
ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم، عز
وجل؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري. فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه
على أن ينقضها. فتحاماها الناسُ أن ينـزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من
السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يَره الناس أصابه شيء
تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر
عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة، رضي
الله عنها، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لولا أن الناس حديث
عهدُهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه، لكنت أدخلت فيه
من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه . قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس". قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى له أسا نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة
أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِل ابنُ
الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد
وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا
لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره. وأما ما زاد
فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه
.
وقد رواه النسائي في سننه، عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك
بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير، عن عائشة بالمرفوع منه
. ولم يذكر القصة، وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير، رضي
الله عنه؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن خشي أن
تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك؛ ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وددنا أنا تركناه وما تولى. كما قال مسلم:
حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر
أخبرنا ابن جُرَيج، سمعت عبد الله بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء،
يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وَفَدَ
الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما
أظن أبا خُبَيبٍ -يعني ابن الزبير -سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه
منها. قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت،
ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن
يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه". فأراها قريبًا من سبعة أذرع .
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [بن عمير]
. وزاد عليه الوليد بن عطاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولجعلت لها
بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا
بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا. فكان
الرجل إذا هو أراد أن يدخلها، يَدَعونه حتى
يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت
سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ
أني تركت وما تَحَمَّل.
قال مسلم: وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا
عَبْدُ بن حُمَيْد، أخبرنا عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد،
مثلَ حديث ابن بكر .
قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن
أبي صَغيرة، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت
إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين، يقول: سمعتها
تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا حِدْثان قومك
بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها
من الحجر، فإنَّ قومك قصروا في البناء". فقال الحارث بن عبد الله بن أبي
ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال:
لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير .
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين، لأنه قد رُوي عنها من
طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة،
وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن
الزبير. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير. فلو ترك لكان جيدًا.
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن
حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد -أو أبيه المهدي -أنه سأل
الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له
مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها. فترك ذلك الرشيد.
نقله عياض والنواوي، ولا تزال -والله أعلم -هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن
يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من
الحبشة". أخرجاه .
وعن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا". رواه البخاري .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أحمد بن عبد الملك
الحَرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حلْيتها ويجردها من كسوتها. ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله" .
الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا -والله أعلم -إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح
البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام: ( رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ )
قال ابن جرير: يعنيان بذلك، واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحِصْني
القرشي، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن عبد الكريم: ( وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) قال: مخلصين لك، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ ) قال: مخلصة.
وقال أيضا: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا المقدمي، حدثنا سعيد بن عامر، عن
سلام بن أبي مطيع في هذه الآية ( وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ ) قال: كانا
مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة: ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) قال الله: قد
فعلت. ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) قال الله: قد
فعلت.
وقال السدي: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) يعنيان العرب.
قال ابن جرير: والصواب أنه يعمُّ العرب وغيرهم؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ الأعراف : 159 ]
قلت: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ الآية، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
[ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا، فإن من تمام محبة عبادة
الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا
لما قال الله تعالى لإبراهيم، عليه السلام: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهو قوله: <,
A title="سورة إبراهيم (سورة رقم: 14)؛ آية رقم:35"
href="/quran/display/display.asp?l=arb&nSora=14&nAya=35">وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ
[ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هر, يرة، رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
" وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج، عن عطاء ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) أخرجها لنا،عَلِّمْنَاها .
وقال مجاهد ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) مذابحنا. ورُوى عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: قال
إبراهيم: "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع
القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى
الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من
شعائر الله؟. ثم انطلق به نحو مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر وارمه. فكبر ورماه. ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به
جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث
أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به
المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به
عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرار. قال: نعم.
وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد
بن سلمة، عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: إن
إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه
إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى
به منى، فقال: مُنَاخ الناس هذا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له
الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له
الشيطان فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض له
الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جَمْعًا. فقال: هذا المشعر. ثم
أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت؟ .
رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دع, وة إبراهيم لأهل الحرم -أن يبعث الله
فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم. وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة
قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه
-رسولا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما قال
الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن
سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْنَ" .
وكذلك رواه ابن وهب، والليث، وكاتبه عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن سُويَد، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان بن
عامر: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان أول بَدْء أمرك؟ قال:
"دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له
قصور الشام" .
والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس، إبراهيم
عليه السلام. ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح
باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم، عليه السلام،
حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ [ الصف : 6] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم".
وقوله: "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل: كان
منامًا رأته حين حملت به، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان
ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد
الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينـزل
عيسى ابن مريم إذا نـزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ولهذا جاء في
الصحيحين: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا
من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" . وفي صحيح البخاري: "وهم بالشام" .
قال
أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ ) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقيل له: قد استجيبت لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة.
وقوله تعالى: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) يعني: القرآن ( وَالْحِكْمَةَ ) يعني: السنة، قاله الحسن،
وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفهم في الدين. ولا منافاة.
( وَيُزَكِّيهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) قال:
يعلمهم الخير فيفعلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه
واستكثروا من طاعته، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله: ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي: العزيز الذي لا
يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء
في محالها؛ وحكمته وعدله.
وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
يقول تبارك وتعالى رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك
بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جَرد توحيد ربه
تبارك وتعالى، فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل
معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ الأنعام : 78 ، 79 ] ، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [ الزخرف : 26 ، 27 ] ، وقال تعالى : وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا
إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ
مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التوبة : 114 ] وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
[ النحل : 120 -122] ، ولهذا وأمثاله قال تعالى: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) أي: عن طريقته ومنهجه. فيخالفها ويرغب عنها ( إِلا
مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى
الضلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حَداثة سنّه
إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء -فترك طريقه
هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي
ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
وقال أبو العالية وقتادة: نـزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ آل عمران : 67 ، 68 ].
وقوله تعالى: ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله: ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) أي: وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله [أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله: ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ] . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ
[ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا على بنيه، كأن
إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى
القشيري، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم،
ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب
في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
[ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نـزع الخافض، فلو لم يوجد
يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد
قال الله تعالى في سورة العنكبوت: وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي
الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً
[ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت
المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر
قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟
قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" الحديث
. فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس -وإنما كان
جدّده بعد خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن
حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر
وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة
الموصين.
وقوله: ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي: أحسنوا في حال الحياة
والزموا هذا ليرزقكم
الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما
مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر عليه. ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث [الصحيح] "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل
بعمل أهل الجنة فيما يبدو" للناس، و"يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس".
وقد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ الليل : 5 -10 ] .
أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم
السلام -بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك
له، فقال لهم: ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ
وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) وهذا من باب
التغليب لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية
من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من
طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت
عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة
وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور
عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن
ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي: أبو يوسف،
ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر.
وقوله: ( إِلَهًا وَاحِدًا ) أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به
شيئا غيره ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى:
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [ آل عمران : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :"نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" .
وقوله تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) أي: مضت ( لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ) أي: إن السلف الماضين من آبائكم من
الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: ( وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ )
يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط [ولهذا جاء، في الأثر:
من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه]
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 27
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على الموضوع المميز وجعله في ميزان حسناتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى