الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قال ابن جرير: يعني بقوله
جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) وليست اليهود -يا محمد -ولا النصارى براضية عنك
أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى
ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي: قل يا
محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح
الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) قال:
خصومة عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل
الضلالة. قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا
تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى
يأتي أمر الله".
قلت: هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو .
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) فيه تهديد
ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما عَلِموا من
القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.
[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: ( حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
[الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه
سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة، وهذا مذهب الشافعي وأبي
حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا
يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم] .
وقوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: هم اليهود والنصارى.
وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، وعبد الله بن
عمران الأصبهاني، قالا حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه،
عن عمر بن الخطاب ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: إذا مر بذكر الجنة
سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار .
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن
يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنـزله الله، ولا يحرف الكلم عن
مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود.
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يُحِلُّون حلاله ويُحَرِّمُون حرامه، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا
ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ الشمس : 2 ] ، يقول: اتَّبَعَها. قال: ورُوِيَ عن عكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبي رزين، وإبراهيم النخَعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثوري: حدثنا زُبَيد، عن مُرَّة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: يتبعونه حق اتباعه.
قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال:
"يتبعونه حق اتباعه" ، ثم قال: في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره
الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به
على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية
رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا
المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا
مرَّ بآية عذاب تعوذ.
وقوله: ( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) خَبَر عن ( الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) أي: من أقام كتابه
من أهل الكتب المنـزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك
به يا محمد، كما قال تعالى: وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ الآية [ المائدة : 66 ] . وقال: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
[ المائدة : 68 ] ، أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حَقَّ
الإيمان، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم
ونَعْتِه وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع
الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى: قُلْ
آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا. وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [ القصص : 52 -54] . وقال تعالى: وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود : 17 ] . وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار" .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا
يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته. يحذرهم
من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله
عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على
ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على
مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى
يوم الدين.
وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى
قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) أي: واذكر -يا محمد -لهؤلاء
المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما
الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي ( فَأَتَمَّهُنَّ ) أي: قام بهن كلهن، كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] ، أي: وفى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النحل : 120 -123 ]، وقال تعالى: قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى: ( بِكَلِمَاتٍ ) أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات
تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه]ِ
[ الأنعام : 115 ] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن
كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) أي: قام بهن. قال: (
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام
بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى
حذوه.
وقد اختلف [العلماء] في تفسير الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل، عليه السلام. فروي عن ابن عباس في ذلك روايات:
فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال ابن عباس: ابتلاه الله
بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق -أيضًا -: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن
عباس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) قال: ابتلاه
الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قَص الشارب،
والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار،
وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .
قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء
اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط،
وحلق العانة، وانتقاص الماء" [قال مصعب] ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء .
وفي الصحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الفطرة
خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". ولفظه
لمسلم .
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن هُبيرة، عن حَنَش
بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال: عَشْرٌ،
ست في الإنسان، وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف
الإبط، والختان. وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم
الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر:
الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله
إلا إبراهيم، قال الله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قلت له: وما الكلماتُ التي ابتلى الله
إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آيات في براءة: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [الْحَامِدُونَ ] إلى آخر الآية [ التوبة : 112 ] وعشر آيات في أول سورة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) و ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) وعشر آيات في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن، فكتبت له براءة. قال الله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] .
هكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند، به . وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن
عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه -في
الله -حين أمر بمفارقتهم. ومحاجَّته نمروذ
-في الله -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره
على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في الله -على هول ذلك من أمرهم. والهجرة
بعد ذلك من وطنه وبلاده -في الله -حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من
الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره
بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة،
عن أبي رجاء، عن الحسن -يعني البصري -: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ]
) قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس
فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه
بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد،
عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه
بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه
دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من
المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا
إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه الله بذبح
ابنه والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] )
قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، والكواكب والشمس، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا سَلْم بن قتيبة، حدثنا
أبو هلال، عن الحسن ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ )
قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس، والقمر، فوجده صابرًا.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) فمنهن: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا ) ومنهن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ومنهن: الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن
ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال الله لإبراهيم: إني
مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا. قال: نعم. قال: ومن ذريتي؟
( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: تجعل البيت مثابة للناس؟
قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال:
نعم.
قال ابن أبي نَجِيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال: ابتلي بالآيات
التي بعدها: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] ) قال: الكلمات: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وقوله وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الآية، وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
وقال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] .
[وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن
المسيب يقول: إبراهيم، عليه السلام، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول
من استحد، وأول من قَلَّم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى
الشيب، قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي
شيبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم،
عليه السلام، قال غيره: وأول من برَّد البريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من
استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي
إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت: هذا حديث لا يثبت،
والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام
الشرعية] .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ
ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ
على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا
بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال: غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك
خبران، أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب، حدثنا رشدين بن سعد، حدثني زبان بن
فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية" .
قال: والآخر منهما: حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن، عن عطية، أخبرنا
إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أتدرون ما وفى؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وفَّى عمل يومه، أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره، عن حماد بن سلمة. وعبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن جعفر بن الزبير، به .
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز
روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلا من السندين
مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه
[والله أعلم] .
ثم قال ابن جرير: ولو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا، فإن قوله: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت: والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي
جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله
أعلم.
وقوله: ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ ) لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ
من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا
ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب
إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنـزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه .
وأما قوله تعالى: ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) فقد
اختلفوا في ذلك، فقال خَصِيف، عن مجاهد في قوله: ( قَالَ لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] . وفي رواية: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به. وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا شريك، عن
منصور، عن مجاهد، في قوله: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) قال: أما من كان منهم
صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ
عَيْنٍ.
وقال سعيد بن جبير: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) المراد به المشرك، لا يكون إمام ظالم. يقول: لا يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلت
لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن ثور القيساري
فيما كتب إلي، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأبى أن يفعل، ثم قال: ( لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن
عباس: ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده -ولا ينبغي [له] أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله -ومحسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ( لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته
فانتقضه .
وروي عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
وقال الثوري، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، في قوله: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا ينال عهدُ الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ الصافات : 113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية، وعطاء، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر، عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد،
حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني،
حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن
علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ ) قال: "لا طاعة إلا في المعروف" .
وقال السدي: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) يقول: عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير، وابن أبي
حاتم، رحمهما الله تعالى. واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في
الخبر -أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما. ففيها إعلام من الله
لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه، كما
تقدم عن مجاهد وغيره، والله أعلم.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125)
قال العوفي، عن ابن عباس: قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) يقول: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى
أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) يقول: يثوبون.
رواهما ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا
إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن،
وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني عبد
الكريم بن أبي عمير، حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو -يعني
الأوزاعي -حدثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد
قضى منه وطرًا.
وحدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ( وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: يثوبون إليه من البُلْدان كلها
ويأتونه.
[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي :
وقال سعيد بن جبير -في الرواية الأخرى -وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني ( مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) أي: مجمعا.
( وَأَمْنًا ) قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: ( وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) يقول: أمنًا من
العدو، وأن يُحْمَل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من
حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت
وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا
تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ
عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السلام، في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إلى أن قال: رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [ إبراهيم : 37 -40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَعْرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [ المائدة : 97 ] أي: يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها
السوءُ، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ
على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن، كما قال
تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [ الحج : 26 ] وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آل عمران : 96 ، 97 ] .
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده.
فقال: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقد اختلف
المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة
النميري، حدثنا أبو خلف -يعني عبد الله بن عيسى-حدثنا داود بن أبي هند، عن
مجاهد، عن ابن عباس: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال [أيضا]
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء
عن ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) فقال: سمعت ابن
عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا، فمقام إبراهيم هذا الذي
في المسجد، ثم قال: و ( مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ) يعد كثير، " مقام إبراهيم "
الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى،
ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا
ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلت: أسمعت ذلك؟ لهذا أجمع. قال: نعم،
سمعته منه.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) قال: الحَجر مقام
إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل
الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.
[وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم
حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي، وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن
الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الوهاب بن
عطاء، عن ابن جُرَيج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرًا يحدث عن حجة
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له
عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنـزل
الله، عز وجل: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن
أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم،
قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى ) .
وقال ابن مَرْدويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا غيلان بن عبد الصمد،
حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق عن عمرو
بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله،
أليس نقوم مقام خليل ربنا ؟ قال: "بلى". قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد
بن أحمد بن محمد القزويني، حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا هشام بن
خالد، حدثنا الوليد، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر،
قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم،
قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: ( وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ؟ قال: "نعم". قال الوليد: قلت
لمالك: هكذا حدثك ( وَاتَّخِذُوا ) قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية. وهو
غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه .
وقال البخاري: باب قوله: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) مثابة يثوبون يرجعون.
حدثنا مُسدَّد، حدثنا يحيى، عن حميد، عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن
الخطاب وافقتُ ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو
اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو
أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنـزل الله آية الحجاب . وقال: وبلغني
مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن
فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه،
فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت؟! فأنـزل
الله: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ الآية [ التحريم : 5 ] .
وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنسًا عن عمر، رضي الله عنهما .
هكذا ساقه البخاري هاهنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم
المعروف بابن أبي مريم المصري. وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب
الكتب الستة. وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده؛ لأن يحيى بن أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإمام أحمد فيه: هو سيئ الحفظ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه
وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم
مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقلت:
يا رسول الله، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟
فنـزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في
الغيرة فقلت
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قال ابن جرير: يعني بقوله
جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) وليست اليهود -يا محمد -ولا النصارى براضية عنك
أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى
ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي: قل يا
محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح
الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) قال:
خصومة عَلَّمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل
الضلالة. قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا
تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى
يأتي أمر الله".
قلت: هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو .
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) فيه تهديد
ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما عَلِموا من
القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.
[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: ( حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
[الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه
سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة، وهذا مذهب الشافعي وأبي
حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا
يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم] .
وقوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: هم اليهود والنصارى.
وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، وعبد الله بن
عمران الأصبهاني، قالا حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه،
عن عمر بن الخطاب ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: إذا مر بذكر الجنة
سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار .
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن
يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنـزله الله، ولا يحرف الكلم عن
مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود.
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يُحِلُّون حلاله ويُحَرِّمُون حرامه، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا
ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ الشمس : 2 ] ، يقول: اتَّبَعَها. قال: ورُوِيَ عن عكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبي رزين، وإبراهيم النخَعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثوري: حدثنا زُبَيد، عن مُرَّة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال: يتبعونه حق اتباعه.
قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) قال:
"يتبعونه حق اتباعه" ، ثم قال: في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره
الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به
على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية
رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا
المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا
مرَّ بآية عذاب تعوذ.
وقوله: ( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) خَبَر عن ( الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) أي: من أقام كتابه
من أهل الكتب المنـزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك
به يا محمد، كما قال تعالى: وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ الآية [ المائدة : 66 ] . وقال: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
[ المائدة : 68 ] ، أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حَقَّ
الإيمان، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم
ونَعْتِه وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع
الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى: قُلْ
آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا. وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [ القصص : 52 -54] . وقال تعالى: وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود : 17 ] . وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار" .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا
يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته. يحذرهم
من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله
عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على
ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على
مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى
يوم الدين.
وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى
قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) أي: واذكر -يا محمد -لهؤلاء
المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما
الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي ( فَأَتَمَّهُنَّ ) أي: قام بهن كلهن، كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] ، أي: وفى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النحل : 120 -123 ]، وقال تعالى: قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى: ( بِكَلِمَاتٍ ) أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات
تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه]ِ
[ الأنعام : 115 ] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن
كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) أي: قام بهن. قال: (
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام
بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى
حذوه.
وقد اختلف [العلماء] في تفسير الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل، عليه السلام. فروي عن ابن عباس في ذلك روايات:
فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال ابن عباس: ابتلاه الله
بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق -أيضًا -: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن
عباس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) قال: ابتلاه
الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قَص الشارب،
والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار،
وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .
قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء
اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط،
وحلق العانة، وانتقاص الماء" [قال مصعب] ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء .
وفي الصحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الفطرة
خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". ولفظه
لمسلم .
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن هُبيرة، عن حَنَش
بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال: عَشْرٌ،
ست في الإنسان، وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف
الإبط، والختان. وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم
الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر:
الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله
إلا إبراهيم، قال الله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قلت له: وما الكلماتُ التي ابتلى الله
إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آيات في براءة: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [الْحَامِدُونَ ] إلى آخر الآية [ التوبة : 112 ] وعشر آيات في أول سورة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) و ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) وعشر آيات في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن، فكتبت له براءة. قال الله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] .
هكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند، به . وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن
عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه -في
الله -حين أمر بمفارقتهم. ومحاجَّته نمروذ
-في الله -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره
على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في الله -على هول ذلك من أمرهم. والهجرة
بعد ذلك من وطنه وبلاده -في الله -حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من
الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره
بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة،
عن أبي رجاء، عن الحسن -يعني البصري -: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ]
) قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس
فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه
بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد،
عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه
بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه
دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من
المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا
إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه الله بذبح
ابنه والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: ( وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] )
قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، والكواكب والشمس، والقمر.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا سَلْم بن قتيبة، حدثنا
أبو هلال، عن الحسن ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ )
قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس، والقمر، فوجده صابرًا.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) فمنهن: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا ) ومنهن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ومنهن: الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد بعث في دينهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن
ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال الله لإبراهيم: إني
مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا. قال: نعم. قال: ومن ذريتي؟
( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: تجعل البيت مثابة للناس؟
قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال:
نعم.
قال ابن أبي نَجِيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد، فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال: ابتلي بالآيات
التي بعدها: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] ) قال: الكلمات: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وقوله وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الآية، وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
وقال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] .
[وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن
المسيب يقول: إبراهيم، عليه السلام، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول
من استحد، وأول من قَلَّم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى
الشيب، قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب، زدني وقارًا. وذكر ابن أبي
شيبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم،
عليه السلام، قال غيره: وأول من برَّد البريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من
استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي
إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت: هذا حديث لا يثبت،
والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام
الشرعية] .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ
ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ
على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا
بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال: غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك
خبران، أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب، حدثنا رشدين بن سعد، حدثني زبان بن
فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الَّذِي وَفَّى [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية" .
قال: والآخر منهما: حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن، عن عطية، أخبرنا
إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أتدرون ما وفى؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وفَّى عمل يومه، أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره، عن حماد بن سلمة. وعبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن جعفر بن الزبير، به .
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز
روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلا من السندين
مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه
[والله أعلم] .
ثم قال ابن جرير: ولو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا، فإن قوله: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت: والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي
جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله
أعلم.
وقوله: ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ ) لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ
من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا
ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب
إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنـزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه .
وأما قوله تعالى: ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) فقد
اختلفوا في ذلك، فقال خَصِيف، عن مجاهد في قوله: ( قَالَ لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] . وفي رواية: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به. وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا شريك، عن
منصور، عن مجاهد، في قوله: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) قال: أما من كان منهم
صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ
عَيْنٍ.
وقال سعيد بن جبير: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) المراد به المشرك، لا يكون إمام ظالم. يقول: لا يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلت
لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن ثور القيساري
فيما كتب إلي، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأبى أن يفعل، ثم قال: ( لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن
عباس: ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده -ولا ينبغي [له] أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله -ومحسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ( لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته
فانتقضه .
وروي عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
وقال الثوري، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، في قوله: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال: لا ينال عهدُ الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ الصافات : 113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية، وعطاء، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر، عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد،
حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني،
حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن
علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ ) قال: "لا طاعة إلا في المعروف" .
وقال السدي: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) يقول: عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير، وابن أبي
حاتم، رحمهما الله تعالى. واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في
الخبر -أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما. ففيها إعلام من الله
لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه، كما
تقدم عن مجاهد وغيره، والله أعلم.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125)
قال العوفي، عن ابن عباس: قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) يقول: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى
أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) يقول: يثوبون.
رواهما ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا
إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن،
وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني عبد
الكريم بن أبي عمير، حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو -يعني
الأوزاعي -حدثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد
قضى منه وطرًا.
وحدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ( وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) قال: يثوبون إليه من البُلْدان كلها
ويأتونه.
[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي :
جـــعل البيـــت مثابًــا لهــم | ليس منـه الدهـر يقضـون الوَطَـرْ] |
( وَأَمْنًا ) قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: ( وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) يقول: أمنًا من
العدو، وأن يُحْمَل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من
حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت
وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا
تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ
عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السلام، في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إلى أن قال: رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [ إبراهيم : 37 -40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَعْرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [ المائدة : 97 ] أي: يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها
السوءُ، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ
على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن، كما قال
تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [ الحج : 26 ] وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آل عمران : 96 ، 97 ] .
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده.
فقال: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقد اختلف
المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة
النميري، حدثنا أبو خلف -يعني عبد الله بن عيسى-حدثنا داود بن أبي هند، عن
مجاهد، عن ابن عباس: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال [أيضا]
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء
عن ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) فقال: سمعت ابن
عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا، فمقام إبراهيم هذا الذي
في المسجد، ثم قال: و ( مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ) يعد كثير، " مقام إبراهيم "
الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى،
ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا
ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلت: أسمعت ذلك؟ لهذا أجمع. قال: نعم،
سمعته منه.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) قال: الحَجر مقام
إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل
الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.
[وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم
حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي، وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن
الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الوهاب بن
عطاء، عن ابن جُرَيج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرًا يحدث عن حجة
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له
عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنـزل
الله، عز وجل: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن
أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم،
قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى ) .
وقال ابن مَرْدويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا غيلان بن عبد الصمد،
حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق عن عمرو
بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله،
أليس نقوم مقام خليل ربنا ؟ قال: "بلى". قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد
بن أحمد بن محمد القزويني، حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا هشام بن
خالد، حدثنا الوليد، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر،
قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم،
قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: ( وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ؟ قال: "نعم". قال الوليد: قلت
لمالك: هكذا حدثك ( وَاتَّخِذُوا ) قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية. وهو
غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه .
وقال البخاري: باب قوله: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) مثابة يثوبون يرجعون.
حدثنا مُسدَّد، حدثنا يحيى، عن حميد، عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن
الخطاب وافقتُ ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو
اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو
أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنـزل الله آية الحجاب . وقال: وبلغني
مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن
فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه،
فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت؟! فأنـزل
الله: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ الآية [ التحريم : 5 ] .
وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنسًا عن عمر، رضي الله عنهما .
هكذا ساقه البخاري هاهنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم
المعروف بابن أبي مريم المصري. وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب
الكتب الستة. وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده؛ لأن يحيى بن أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإمام أحمد فيه: هو سيئ الحفظ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه
وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم
مصلى؟ فنـزلت: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وقلت:
يا رسول الله، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟
فنـزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في
الغيرة فقلت
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك vvvvvvvvvvv
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثامن والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى