الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) أي: ما نمح من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، نحو ذلك.
وقال الضحاك: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما نُنْسِكَ. وقال عطاء: أما ( مَا نَنْسَخْ ) فما نترك من القرآن. قال ابن أبي حاتم: يعني: تُرِكَ فلم ينـزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) نسخها: قبضها. وقال ابن أبي
حاتم: يعني: قبضها: رفعها، مثل قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة. وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا".
وقال ابن جرير: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما ينقل من حكم آية إلى
غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح
محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر
والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى
نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى
غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء
الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ
الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص
بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل،
وعكسه، والنسخ لا إلى بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه
فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
وقال الطبراني: حدثنا أبو شبيل
عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل، عن
سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان،
فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مما نسخ وأنسي،
فالهوا عنها". فكان الزهري يقرؤها: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا ) بضم النون خفيفة . سليمان بن أرقم ضعيف.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن نصر بن داود، عن أبي عبيد،
عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس وعبيد وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعًا، ذكره القرطبي ] .
وقوله تعالى: ( أَوْ نُنْسِهَا )
فقرئ على وجهين: "ننسأها ونُنْسها". فأما من قرأها: "نَنسأها" -بفتح النون
والهمزة بعد السين-فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا ) يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها
لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: ( أَوْ نَنسأَهَا ) نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال
عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء: ( أَوْ نَنسَأهَا ) نؤخرها ونرجئها. وقال
عطية العوفي: ( أَوْ نَنسأهَا ) نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا،
وكذا [قال]
الربيع بن أنس. وقال الضحاك: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا )
يعني: الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نَنسأهَا ) أي: نؤخرها عندنا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، حدثنا خلف،
حدثنا الخفاف، عن إسماعيل -يعني ابن مسلم-عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال:
خطبنا عمر، رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا ) أي: نؤخرها.
وأما على قراءة: ( أَوْ نُنْسِهَا ) فقال عبد الرزاق، عن قتادة في قوله:
( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ) قال: كان الله تعالى ينسي
نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: حدثنا سواد بن عبد الله، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: ( أَوْ نُنْسِهَا ) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج -يعني الجزري
-عن عِكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مما ينـزل على النبي صلى الله عليه
وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنـزل الله، عز وجل: ( مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا )
قال أبو حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جَزَري.
وقال عبيد بن عمير: ( أَوْ نُنْسِهَا ) نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، عن يعلى بن
عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: " ما نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَو تَنْسَهَا" قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ: "أَو
تُنْسَها". قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينـزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال الله، جل ثناؤه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [الأعلى: 6] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24]. .
وكذا رواه عبد الرزاق، عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، به. وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب، وقتادة وعكرمة، نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: عليٌّ أقضانا، وأُبيٌّ
أقرؤنا، وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ، وأبيّ يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول، فلن أدعه لشيء. والله يقول: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نَنسَأها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) .
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا علي،
وإنا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا )
وقوله: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) أي: في الحكم
بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) فلا نعمل بها، ( أَوْ نَنسأهَا ) أي: نرجئها عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) يرشد تعالى بهذا
إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما
يخلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من
يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما
يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما
يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم
لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى
عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في
تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد
عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله -في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا،ً وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا
محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما
فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ
وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر
فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه
وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ
أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما
بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله
أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم
السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ
ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السلام، بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور
بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم
القتل ].
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر
والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛
لأنه يحكم ما يشاء كما يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة
وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح
لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان
نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما
بعدها. وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب
به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا تصرف الدلالة في المعنى، إذ هو
المقصود، كما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر
باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته، عليه السلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على
شريعته. وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته، عليه السلام،
فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، ردا على اليهود، عليهم لعائن
الله، حيث قال تعالى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ )
الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل عمران، التي نـزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلهم متفقون على جواز
النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال
بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن،
وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن
ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول،
وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب بشيء،
ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك
نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله
أعلم.
أَمْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ (108)
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَـزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ
[المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نـزولها تبين لكم، ولا
تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في
الصحيح: " أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل
مسألته"
. ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا
فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى
الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنـزل الله تعالى حكم الملاعنة
. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال
وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"
. وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل
عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال،
عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم
قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا إسحاق
بن سليمان، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: إن كان
ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء
فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب.
وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي
عشرة مسألة، كلها في القرآن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] ، و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة: 217] ، و وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه .
وقوله تعالى: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) أي: بل تريدون. أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد [بن جبير]
عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة -أو وهب بن زيد-: يا محمد،
ائتنا بكتاب تُنـزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك
ونصدقك. فأنـزل الله من قولهم: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا
رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى:
( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ ) قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها -ثلاثًا-ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت
بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها،
فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في
الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل". قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
[النساء: 110] ، وقال: "الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما
بينهن". وقال: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة
واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر
أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك". فأنـزل الله: ( أَمْ تُرِيدُونَ
أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ )
وقال مجاهد: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمدا صلى
الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة
لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء، على
وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السلام، تعنتًا
وتكذيبًا وعنادًا، قال الله تعالى: ( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإيمَانِ ) أي: من يَشْتَر الكفر بالإيمان ( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي: فقد خرج عن
الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق
الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم
بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم: 28، 29] .
وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
يحذر تعالى
عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم
لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم
بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى
يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي
محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان حُيَيُّ بن أخطب
وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا، إذْ خَصهم الله برسوله صلى
الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا،
فأنـزل الله فيهما: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ ) الآية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الزهري، في قوله تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) قال: هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن
الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن
الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنـزل الله: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ) إلى قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا )
وقال الضحاك، عن ابن عباس: أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال الله
تعالى: ( كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه
شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة،
وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان
والإقرار بما أنـزل عليهم وما أنـزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: ( مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) من قبل أنفسهم. وقال
أبو العالية: ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) من بعد ما
تبين [لهم]
أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به
حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
وقوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) مثل قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ
[التوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو العالية، والربيع
بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا
قوله: ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان
أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عُرْوَة بن الزبير: أن أسامة بن زيد
أخبره، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين
وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: ( فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما
أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش
.
وهذا إسناده صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] .
وقوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) يَحُثُّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[غافر: 52] ؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
) يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو
شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من
المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرا أو علانية، فهو به بصير لا
يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام
وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه
أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا
لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال: ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) وليحذروا معصيته.
قال: وأما قوله: ( بصير ) فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى "بديع"، ومؤلم إلى "أليم"، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَير، حدثني ابن
لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر في هذه الآية ( سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يقول: بكل شيء بصير .
وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من
اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله
عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من
دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ
عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل
ولا حجة ولا بينة، فقال ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )
وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.
ثم قال: ( قُلْ ) أي: يا محمد، ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ )
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك. ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) كما تدعونه .
ثم قال تعالى: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ الآية [آل عمران: 20].
وقال أبو العالية والربيع: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) يقول: من أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) أخلص، ( وَجْهَهُ ) قال:
دينه، ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن
للعمل
المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا
موافقا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم
من حديث عائشة، عنه، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم يخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور: 39] .
روي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص
عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين،
كما قال تعالى: إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلا قَلِيلا [النساء: 142] ، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 4 -7] ، ولهذا قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] . وقال في هذه الآية الكريمة: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )
وقوله: ( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما
يخافونه من المحذور فـ ( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه، ( وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير: فـ ( لا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) يعني: في الآخرة ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [يعني: لا يحزنون]
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) أي: ما نمح من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، نحو ذلك.
وقال الضحاك: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما نُنْسِكَ. وقال عطاء: أما ( مَا نَنْسَخْ ) فما نترك من القرآن. قال ابن أبي حاتم: يعني: تُرِكَ فلم ينـزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) نسخها: قبضها. وقال ابن أبي
حاتم: يعني: قبضها: رفعها، مثل قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة. وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا".
وقال ابن جرير: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ما ينقل من حكم آية إلى
غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح
محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر
والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى
نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى
غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء
الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ
الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص
بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل،
وعكسه، والنسخ لا إلى بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه
فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
وقال الطبراني: حدثنا أبو شبيل
عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل، عن
سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان،
فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مما نسخ وأنسي،
فالهوا عنها". فكان الزهري يقرؤها: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا ) بضم النون خفيفة . سليمان بن أرقم ضعيف.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن نصر بن داود، عن أبي عبيد،
عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس وعبيد وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعًا، ذكره القرطبي ] .
وقوله تعالى: ( أَوْ نُنْسِهَا )
فقرئ على وجهين: "ننسأها ونُنْسها". فأما من قرأها: "نَنسأها" -بفتح النون
والهمزة بعد السين-فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا ) يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها
لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: ( أَوْ نَنسأَهَا ) نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال
عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء: ( أَوْ نَنسَأهَا ) نؤخرها ونرجئها. وقال
عطية العوفي: ( أَوْ نَنسأهَا ) نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا،
وكذا [قال]
الربيع بن أنس. وقال الضحاك: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا )
يعني: الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نَنسأهَا ) أي: نؤخرها عندنا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، حدثنا خلف،
حدثنا الخفاف، عن إسماعيل -يعني ابن مسلم-عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال:
خطبنا عمر، رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنسأهَا ) أي: نؤخرها.
وأما على قراءة: ( أَوْ نُنْسِهَا ) فقال عبد الرزاق، عن قتادة في قوله:
( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ) قال: كان الله تعالى ينسي
نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: حدثنا سواد بن عبد الله، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: ( أَوْ نُنْسِهَا ) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج -يعني الجزري
-عن عِكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مما ينـزل على النبي صلى الله عليه
وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنـزل الله، عز وجل: ( مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا )
قال أبو حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جَزَري.
وقال عبيد بن عمير: ( أَوْ نُنْسِهَا ) نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، عن يعلى بن
عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: " ما نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَو تَنْسَهَا" قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ: "أَو
تُنْسَها". قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينـزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال الله، جل ثناؤه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [الأعلى: 6] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24]. .
وكذا رواه عبد الرزاق، عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، به. وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب، وقتادة وعكرمة، نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: عليٌّ أقضانا، وأُبيٌّ
أقرؤنا، وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ، وأبيّ يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول، فلن أدعه لشيء. والله يقول: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نَنسَأها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) .
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا علي،
وإنا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا )
وقوله: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) أي: في الحكم
بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) فلا نعمل بها، ( أَوْ نَنسأهَا ) أي: نرجئها عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) يرشد تعالى بهذا
إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما
يخلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من
يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما
يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما
يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم
لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى
عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في
تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد
عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله -في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا،ً وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا
محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما
فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ
وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر
فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه
وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ
أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما
بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله
أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم
السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ
ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السلام، بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور
بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم
القتل ].
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر
والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛
لأنه يحكم ما يشاء كما يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة
وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح
لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان
نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما
بعدها. وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب
به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا تصرف الدلالة في المعنى، إذ هو
المقصود، كما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر
باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته، عليه السلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على
شريعته. وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته، عليه السلام،
فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، ردا على اليهود، عليهم لعائن
الله، حيث قال تعالى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ )
الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل عمران، التي نـزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلهم متفقون على جواز
النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال
بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن،
وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن
ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول،
وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب بشيء،
ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك
نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله
أعلم.
أَمْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ (108)
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَـزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ
[المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نـزولها تبين لكم، ولا
تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في
الصحيح: " أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل
مسألته"
. ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا
فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى
الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنـزل الله تعالى حكم الملاعنة
. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال
وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"
. وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل
عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال،
عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم
قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا إسحاق
بن سليمان، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: إن كان
ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء
فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب.
وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي
عشرة مسألة، كلها في القرآن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] ، و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة: 217] ، و وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه .
وقوله تعالى: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) أي: بل تريدون. أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد [بن جبير]
عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة -أو وهب بن زيد-: يا محمد،
ائتنا بكتاب تُنـزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك
ونصدقك. فأنـزل الله من قولهم: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا
رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى:
( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ ) قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها -ثلاثًا-ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت
بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها،
فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في
الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل". قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
[النساء: 110] ، وقال: "الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما
بينهن". وقال: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة
واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر
أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك". فأنـزل الله: ( أَمْ تُرِيدُونَ
أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ )
وقال مجاهد: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمدا صلى
الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة
لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء، على
وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السلام، تعنتًا
وتكذيبًا وعنادًا، قال الله تعالى: ( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإيمَانِ ) أي: من يَشْتَر الكفر بالإيمان ( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي: فقد خرج عن
الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق
الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم
بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم: 28، 29] .
وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
يحذر تعالى
عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم
لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم
بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى
يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي
محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان حُيَيُّ بن أخطب
وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا، إذْ خَصهم الله برسوله صلى
الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا،
فأنـزل الله فيهما: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ ) الآية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الزهري، في قوله تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) قال: هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن
الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن
الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنـزل الله: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ) إلى قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا )
وقال الضحاك، عن ابن عباس: أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال الله
تعالى: ( كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه
شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة،
وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان
والإقرار بما أنـزل عليهم وما أنـزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: ( مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) من قبل أنفسهم. وقال
أبو العالية: ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) من بعد ما
تبين [لهم]
أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به
حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
وقوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) مثل قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ
[التوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو العالية، والربيع
بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا
قوله: ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان
أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عُرْوَة بن الزبير: أن أسامة بن زيد
أخبره، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين
وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: ( فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما
أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش
.
وهذا إسناده صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] .
وقوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) يَحُثُّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[غافر: 52] ؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
) يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو
شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من
المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرا أو علانية، فهو به بصير لا
يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام
وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه
أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا
لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال: ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) وليحذروا معصيته.
قال: وأما قوله: ( بصير ) فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى "بديع"، ومؤلم إلى "أليم"، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَير، حدثني ابن
لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر في هذه الآية ( سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يقول: بكل شيء بصير .
وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من
اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله
عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من
دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ
عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل
ولا حجة ولا بينة، فقال ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )
وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.
ثم قال: ( قُلْ ) أي: يا محمد، ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ )
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك. ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) كما تدعونه .
ثم قال تعالى: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ الآية [آل عمران: 20].
وقال أبو العالية والربيع: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) يقول: من أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) أخلص، ( وَجْهَهُ ) قال:
دينه، ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن
للعمل
المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا
موافقا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم
من حديث عائشة، عنه، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم يخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور: 39] .
روي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص
عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين،
كما قال تعالى: إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلا قَلِيلا [النساء: 142] ، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 4 -7] ، ولهذا قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] . وقال في هذه الآية الكريمة: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )
وقوله: ( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما
يخافونه من المحذور فـ ( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه، ( وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير: فـ ( لا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) يعني: في الآخرة ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [يعني: لا يحزنون]
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 27
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الواحد والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الواحد والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الواحد والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الواحد والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الواحد والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى