الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
.
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(225)
< 1-600 >
وقوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ )
أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا
يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في
الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل:
لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي
عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من
غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير
قصد، لتكون هذه بهذه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) كما قال في الآية الأخرى في المائدة:
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
[المائدة:89].
قال أبو داود: باب لغو اليمين: حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حسان -يعني ابن < 1-602 >
إبراهيم -حدثنا إبراهيم -يعني الصائغ -عن عطاء: في اللغو في اليمين، قال:
قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته:
كلا والله وبلى والله" .
ثم قال أبو داود: رواه داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ، عن
عطاء، عن عائشة موقوفًا. ورواه الزهري، وعبد الملك، ومالك بن مِعْول، كلهم
عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا أيضًا.
قلت: وكذا رواه ابن جريج، وابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا.
ورواه ابن جرير، عن هناد، عن وَكِيع، وعبدة، وأبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله:
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
[المائدة:89] قالت: لا والله، بلى والله.
ثم رواه عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه،
عنها. وبه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عنها. وبه، عن سلمة عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عنها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة في قوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله، وبلى والله، وكلا والله يتدارؤون في الأمر: لا تعقد عليه قلوبهم .
وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة
-يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله: ( لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) قالت: هو قول
الرجل: لا والله، وبلى والله.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني ابن لهيعة، عن أبي
الأسود، عن عروة قال: كانت عائشة تقول: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو
قول الرجل: لا والله، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما
عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله.
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله،
والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، ومجاهد في أحد
قوليه، وعروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة،
والزهري، نحو ذلك.
الوجه الثاني : قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني
الثقة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تتأول هذه الآية -يعني
قوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) وتقول:
هو الشيء يحلف عليه أحدكم، لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف
عليه.
ثم قال: وروي عن أبي هريرة، وابن عباس -في أحد قوليه -
وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد -في أحد قوليه -وإبراهيم النخعي -في أحد
قوليه -والحسن، وزرارة بن أوفى، < 1-603 >
وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن
أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى
بن سعيد، وربيعة، نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن موسى الحرشي
حدثنا عبد الله بن ميمون المرالي، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي
الحسن، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون -يعني: يرمون
-ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال:
أصبت والله وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث
الرجل يا رسول الله. قال: "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة"
هذا مرسل حسن عن الحسن .
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عائشة القولان جميعًا.
حدثنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا شيبان، عن جابر، عن عطاء بن
أبي رباح، عن عائشة قالت: هو قوله: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنه
صادق، ولا يكون كذلك.
أقوال أخر : قال عبد الرزاق، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه.
وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا، فهو هذا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا مسدد، حدثنا خالد،
أخبرنا عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وأخبرني أبي، أخبرنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني أبو بشر،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك،
فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب": حدثنا محمد بن المنهال، أنبأنا
يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن
أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت
تسألني عن القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية
عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك" .
وقوله: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) قال ابن
عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال
مجاهد وغيره: وهي كقوله:
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
الآية [المائدة:89]
< 1-604 >
( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي: غفور لعباده، حليم عليهم .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(226)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(227)
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا
يخلو: إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر
انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه
المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا، فنـزل
لتسع وعشرين، وقال: "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه
. فأما إن زادت المدة على
أربعة أشهر، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء -أي:
يجامع
-وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها. ولهذا قال
تعالى: ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ) أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه
دلالة على أن
الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. ( تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) أي:
ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال: ( فَإِنْ فَاءُوا ) أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع، قاله
ابن عباس، ومسروق والشعبي، وسعيد بن جبير، وغير واحد، ومنهم ابن جرير رحمه الله
( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
) أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله: ( فَإِنْ فَاءُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فيه دلالة لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن
الشافعي: أن المولي إذا
فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا
كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها
فتركها كفارتها" كما
رواه أحمد وأبو داود والذي
عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على
كل حالف، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم -في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر -الأثر الذي رواه
الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، في الموطأ، عن عمرو بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
< 1-605 >
فسأل عمر ابنته حفصة، رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر
المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من
الجيوش أكثر من ذلك .
وقال: محمد بن إسحاق، عن السائب بن جبير، مولى ابن عباس -
وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج
ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرا؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي] تقول.
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم، أو نحوه . وقد روى هذا من طرق، وهو من المشهورات .
وقوله: ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور ،وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة، وهو مروي
بأسانيد صحيحة عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن
ثابت، وبه يقول ابن سيرين، [ومسروق]
والقاسم، وسالم، والحسن، وأبو سلمة، وقتادة، وشريح القاضي، وقبيصة بن ذؤيب، وعطاء،
وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن طرخان التيمي، وإبراهيم النخعي، والربيع بن
أنس، والسدي.
ثم قيل: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية؛ قاله
سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومكحول، وربيعة،
والزهري، ومروان بن الحكم. وقيل إنها تطلق طلقة بائنة، روي عن علي، وابن مسعود،
وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه يقول: عطاء وجابر بن زيد، ومسروق
وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو
حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح، وكل من قال: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة، إلا ما روي عن ابن
عباس وأبي الشعثاء: أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها، وهو قول الشافعي،
والذي عليه الجمهور أنه
يوقف فيطالب إما بهذا أو هذا ولا
يقع عليها بمجرد
مضيها طلاق.
< 1-606 >
وروى مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى
الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر، حتى يوقف، فإما أن يطلق،
وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري .
وقال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى
بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
كلهم يوقف المولي قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر. ورواه الشافعي عن علي رضي الله
عنه: أنه وقف المولي. ثم قال: وهكذا نقول، وهو موافق لما رويناه عن عمر، وابن عمر،
وعائشة، وعن عثمان، وزيد بن ثابت، وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا قال الشافعي، رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب،
عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من
الصحابة عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر
فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
قلت: وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة
أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس. وبه يقول سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز،
ومجاهد، وطاوس، ومحمد بن كعب، والقاسم. وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل،
وأصحابهم، رحمهم الله، وهو اختيار ابن جرير أيضًا، وهو قول الليث [بن سعد] وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور،
وداود، وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم،
والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة.
وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في
العدة وهذا غريب جدا.
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(228)
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من
ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها
لها ثلاثة قروء؛ ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة
إذا طُلِّقت، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقُرْء لا
يتبعض فكُمّل
لها قرءان. ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني، عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان".
< 1-607 >
رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية. وقال الحافظ الدارقطني
وغيره: الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه.
ورواه ابن ماجه من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا
. قال الدارقطني: والصحيح ما رواه سالم
ونافع، عن ابن عمر قوله. وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب. قالوا: ولم يعرف بين الصحابة
خلاف. وقال بعض السلف: بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء، والله أعلم، حكى هذا القول
الشيخُ أبو عمر بن عبد البر، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر، وضعفه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا
إسماعيل -يعني ابن عَيّاش -عن
عمرو بن مهاجر، عن أبيه: أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طُلّقت على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنـزل الله، عز وجل، حين
طلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت أول من نـزلت فيها العدة للطلاق، يعني: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ ) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما
هو ؟ على قولين:
أحدهما : أن المراد بها:
الأطهار، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: انتقلت
حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال الزهري:
فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا:
إن الله تعالى يقول في كتابه: " ثلاثة قروء " فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما
الأقراءُ؟ إنما الأقراء: الأطهارُ .
وقال مالك: عن ابن شهاب، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:
ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة. وقال مالك: عن نافع،
عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة
الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها. وقال مالك: وهو الأمر عندنا. ورُوي مثله عن ابن
عباس وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد
الرحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباح، وقتادة، والزهري، وبقية الفقهاء
السبعة، وهو مذهب مالك، والشافعي [وغير واحد، وداود وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد،
واستدلوا عليه بقوله تعالى:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
[الطلاق: 1] أي: في الأطهار. ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا، دل على أنه أحد
الأقراء الثلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة < 1-608 >
تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة،
وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان] .
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر -وهو
الأعشى -:
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتى
ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها.
والقول الثاني : أن المراد
بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل
منها. وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة. قال
الثوري: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،
فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت مائي] وقد نـزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد الله -يعني ابن
مسعود -[ما ترى؟ قال] :
أراها امرأته، ما دون أن تحل لها الصلاة. قال [عمر:] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن
أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن
مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن
المسيب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة،
ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشعبي، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسدي،
ومكحول، والضحاك، وعطاء الخراساني، أنهم قالوا: الأقراء: الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصح الروايتين عن الإمام
أحمد بن حنبل، وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن
شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي،
من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لها: "دعي الصلاة أيام < 1-609 >
أقرائك" . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر
هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن جرير: أصلُ القرء في كلام العرب: "الوقت لمجيء
الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم". وهذه
العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الأصوليين فالله أعلم. وهذا قول الأصمعي:
أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض: قُرْءًا، وتسمي
الطهر: قرءا، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا: قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر:
لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر،
وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ) أي: من حَبَل أو حيض. قاله
ابن عباس، وابن عُمَر، ومجاهد، والشعبي، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس، والضحاك، وغير واحد.
وقوله: ( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) تهديد لهن على قول خلاف الحق. ودل هذا على أن
المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين، وتتعذر إقامة البينة غالبًا
على ذلك، فردّ الأمر إليهن، وتُوُعِّدْنَ فيه، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا
منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير
زيادة ولا نقصان.
وقوله: ( وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا ) أي: وزوجها
الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير.
وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نـزول هذه الآية مطلقة بائن،
وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نـزول هذه الآية فكان الرجل
أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث
تطليقات صار
للناس مطلقة بائن وغير بائن. وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين، من
استشهادهم على مسألة عود الضمير -هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا؟ -
بهذه الآية الكريمة، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه، والله أعلم.
وقوله: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما
للرجال
عليهن، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في
صحيح
مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة
الوداع:"فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة
الله، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك
فاضربوهن
ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" . وفي حديث بهز بن حكيم، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، عن
أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ < 1-610 >
قال: "أن تطعمها إذا طعمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا
تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
)
رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله: ( وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي: في الفضيلة في الخُلُق، والمنـزلة، وطاعة الأمر،
والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
[النساء:34]
.
وقوله: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ) أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(229)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء
الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة،
فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة
في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
) .
قال أبو داود، رحمه الله، في سننه: "باب في نسخ المراجعة
بعد الطلقات الثلاث": حدثنا أحمد ابن محمد المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد،
عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس:
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ
الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته
فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ) الآية.
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن
علي بن الحسين، به .
< 1-611 >
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة -
يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا
ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنـزل
الله عز وجل: ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ )
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد
الحميد، وابن إدريس. ورواه عبد بن حُمَيد في تفسيره، عن جعفر بن عون، كلهم عن هشام،
عن أبيه. قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن
رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك.
قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: ( الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ ) قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من طريق محمد بن سليمان،
عن يعلى بن شبيب -مولى الزبير -عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم.
ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس،
عن هشام، عن أبيه مرسلا. قال: هذا أصح .
ورواه الحاكم في مستدركه، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يعلى بن شبيب به، وقال
صحيح الإسناد .
ثم قال ابن مَردُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم،
حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلقُ الرجل
امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رَجل من الأنصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيِّمًا ولا ذات
زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت
العدة
أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنـزل الله عز وجل فيه: (الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )
فوقَّتَ الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره.
وهكذا رُوي
عن قتادة مرسلا. وذكره السدي، وابن زيد، وابن جرير كذلك، واختار أن هذا
تفسير هذه الآية.
وقوله: ( فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها
والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا
إليها، لا تظلمها من حقها شيئًا، ولا < 1-612 >
تُضارّ بها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل
امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فلا يظلمها من حقها شيئا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة،
أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، قال: سمعت أبا رَزِين
يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز
وجل: ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
)
أين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان".
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي
حكيم، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت قول الله: "الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان الثالثة" .
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصور، عن
خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي
رزين، به . وكذا رواه قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين
به مرسلا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من
طريق عبد الواحد بن
زياد، عن إسماعيل بن سميع، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره
. ثم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد
بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا
حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: "إمساك بمعروف أو
تسريح بإحسان" .
وقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] ) أي: لا
< 1-613 >
يحل لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن، ليفتدين منكم
بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء:19] فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها.
فقد قال تعالى:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
[النساء:4] وأما إذا تشاقق الزوجان،
ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما
أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ ) الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن
جرير:
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن
إبراهيم، حدثنا ابن علية -قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عمن حدثه، عن
ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير
بأس فحرام عليها رائحة الجنة" .
وهكذا رواه الترمذي، عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد
المجيد الثقفي به . وقال
حسن: قال: ويروى، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. ورواه بعضهم، عن
أيوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد،
عن أيوب، عن أبي قلابة -قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة
الجنة".
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن جرير، من حديث حماد
بن زيد، به .
طريق أخرى : قال ابن جرير:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما
امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، حَرّم الله عليها رائحة الجنة". وقال:"المختلعات هن المنافقات" .
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا، عن أبي كريب، عن مزاحم
بن ذَوّاد بن عُلْبَة، عن أبيه، عن ليث، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب، عن أبي زُرْعَة، عن أبي إدريس، عن ثوبان
قال:
< 1-614 >
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المختلعات هن
المنافقات". ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي .
حديث آخر : قال ابن جرير:
حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر، حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن
الحسن عن
ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب
من هذا الوجه ضعيف.
حديث آخر : قال ابن ماجه:
حدثنا بكر بن خلف أبو بشر،
حدثنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى بن ثَوْبان، عن عمه عمارةَ بن ثوبان، عن عطاء، عن
ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسألُ امرأة زوجها الطلاق في
غير كُنْهِه فَتَجِدَ ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" .
حديث آخر : قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" .
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز
الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية،
واحتجوا بقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ ] ) . قالوا:
فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عَدَمُه،
وممن ذهب إلى هذا ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، وعطاء، [والحسن] والجمهور، حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئًا وهو
مضارّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطلاق رجعيًا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ
الناسَ عليه
. وذهب
الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق، وعند الاتفاق
بطريق الأولى
والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في
كتاب"الاستذكار" له، عن بكر بن عبد الله المزني، أنه ذهب إلى أن الخلع
منسوخ بقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
[النساء: 20] . ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله. وقد ذكر ابن جرير،
رحمه الله، أن هذه الآية نـزلت في شأن ثابت
بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول. ولنذكر طرق حديثها،
واختلاف ألفاظه:
< 1-615 >
قال الإمام مالك في موطئه: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة بنت
عبد الرحمن بن سعد بن
زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن
شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند
بابه في الغَلَس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذه؟ " قالت: أنا حبيبة
بنت سهل. فقال: "ما شأنك؟ " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها -فلما جاء
زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة بنت سهل قد
ذكرت ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها". فأخذ منها وجلست في أهلها.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك
بإسناده -مثله .
ورواه أبو داود، عن القعنبي، عن مالك. والنسائي، عن محمد بن مسلمة، عن ابن القاسم،
عن مالك به .
حديث آخر : عن عائشة: قال أبو
داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن
عبد الله -بن أبي بكر -عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس
بن شماس، فضربها فكسر ن
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(225)
< 1-600 >
وقوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ )
أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا
يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في
الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل:
لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي
عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من
غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير
قصد، لتكون هذه بهذه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) كما قال في الآية الأخرى في المائدة:
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
[المائدة:89].
قال أبو داود: باب لغو اليمين: حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حسان -يعني ابن < 1-602 >
إبراهيم -حدثنا إبراهيم -يعني الصائغ -عن عطاء: في اللغو في اليمين، قال:
قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته:
كلا والله وبلى والله" .
ثم قال أبو داود: رواه داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ، عن
عطاء، عن عائشة موقوفًا. ورواه الزهري، وعبد الملك، ومالك بن مِعْول، كلهم
عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا أيضًا.
قلت: وكذا رواه ابن جريج، وابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا.
ورواه ابن جرير، عن هناد، عن وَكِيع، وعبدة، وأبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله:
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
[المائدة:89] قالت: لا والله، بلى والله.
ثم رواه عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه،
عنها. وبه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عنها. وبه، عن سلمة عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عنها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة في قوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله، وبلى والله، وكلا والله يتدارؤون في الأمر: لا تعقد عليه قلوبهم .
وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة
-يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله: ( لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) قالت: هو قول
الرجل: لا والله، وبلى والله.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني ابن لهيعة، عن أبي
الأسود، عن عروة قال: كانت عائشة تقول: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو
قول الرجل: لا والله، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما
عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله.
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله،
والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، ومجاهد في أحد
قوليه، وعروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة،
والزهري، نحو ذلك.
الوجه الثاني : قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني
الثقة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تتأول هذه الآية -يعني
قوله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) وتقول:
هو الشيء يحلف عليه أحدكم، لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف
عليه.
ثم قال: وروي عن أبي هريرة، وابن عباس -في أحد قوليه -
وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد -في أحد قوليه -وإبراهيم النخعي -في أحد
قوليه -والحسن، وزرارة بن أوفى، < 1-603 >
وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن
أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى
بن سعيد، وربيعة، نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن موسى الحرشي
حدثنا عبد الله بن ميمون المرالي، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي
الحسن، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون -يعني: يرمون
-ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال:
أصبت والله وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث
الرجل يا رسول الله. قال: "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة"
هذا مرسل حسن عن الحسن .
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عائشة القولان جميعًا.
حدثنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا شيبان، عن جابر، عن عطاء بن
أبي رباح، عن عائشة قالت: هو قوله: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنه
صادق، ولا يكون كذلك.
أقوال أخر : قال عبد الرزاق، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه.
وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا، فهو هذا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا مسدد، حدثنا خالد،
أخبرنا عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وأخبرني أبي، أخبرنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني أبو بشر،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك،
فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب": حدثنا محمد بن المنهال، أنبأنا
يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن
أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت
تسألني عن القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية
عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك" .
وقوله: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) قال ابن
عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال
مجاهد وغيره: وهي كقوله:
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
الآية [المائدة:89]
< 1-604 >
( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي: غفور لعباده، حليم عليهم .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(226)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(227)
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا
يخلو: إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر
انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه
المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا، فنـزل
لتسع وعشرين، وقال: "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه
. فأما إن زادت المدة على
أربعة أشهر، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء -أي:
يجامع
-وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها. ولهذا قال
تعالى: ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ) أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه
دلالة على أن
الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. ( تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) أي:
ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال: ( فَإِنْ فَاءُوا ) أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع، قاله
ابن عباس، ومسروق والشعبي، وسعيد بن جبير، وغير واحد، ومنهم ابن جرير رحمه الله
( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
) أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله: ( فَإِنْ فَاءُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فيه دلالة لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن
الشافعي: أن المولي إذا
فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا
كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها
فتركها كفارتها" كما
رواه أحمد وأبو داود والذي
عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على
كل حالف، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم -في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر -الأثر الذي رواه
الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، في الموطأ، عن عمرو بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ | | وأرقـني ألا خليـلَ ألاعِبُـهْ |
فواللـه لولا اللـه أني أراقبهْ | | لحرِّكَ من هذا السرير جوانبه |
< 1-605 >
فسأل عمر ابنته حفصة، رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر
المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من
الجيوش أكثر من ذلك .
وقال: محمد بن إسحاق، عن السائب بن جبير، مولى ابن عباس -
وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج
ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرا؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي] تقول.
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه | | وأرقنـي ألا ضجــيـعَ ألاعِبُــهْ |
ألاعبه طـورًا وطـورًا كأنما | | بدا قمـرًا في ظلمـة الليـل حاجبه |
يسرّ به مـن كان يلهو بقربه | | لطيـف الحشـا لا يحتويـه أقاربه |
فوالله لولا الله لا شيء غيره | | لنقض مـن هـذا السريـر جوانبه |
ولكنني أخشـى رقيـبًا موكلا | | بأنفسـنا لا يَفْتُـر الدهـرَ كاتبـه |
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم، أو نحوه . وقد روى هذا من طرق، وهو من المشهورات .
وقوله: ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور ،وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة، وهو مروي
بأسانيد صحيحة عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن
ثابت، وبه يقول ابن سيرين، [ومسروق]
والقاسم، وسالم، والحسن، وأبو سلمة، وقتادة، وشريح القاضي، وقبيصة بن ذؤيب، وعطاء،
وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن طرخان التيمي، وإبراهيم النخعي، والربيع بن
أنس، والسدي.
ثم قيل: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية؛ قاله
سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومكحول، وربيعة،
والزهري، ومروان بن الحكم. وقيل إنها تطلق طلقة بائنة، روي عن علي، وابن مسعود،
وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه يقول: عطاء وجابر بن زيد، ومسروق
وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو
حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح، وكل من قال: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة، إلا ما روي عن ابن
عباس وأبي الشعثاء: أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها، وهو قول الشافعي،
والذي عليه الجمهور أنه
يوقف فيطالب إما بهذا أو هذا ولا
يقع عليها بمجرد
مضيها طلاق.
< 1-606 >
وروى مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى
الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر، حتى يوقف، فإما أن يطلق،
وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري .
وقال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى
بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
كلهم يوقف المولي قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر. ورواه الشافعي عن علي رضي الله
عنه: أنه وقف المولي. ثم قال: وهكذا نقول، وهو موافق لما رويناه عن عمر، وابن عمر،
وعائشة، وعن عثمان، وزيد بن ثابت، وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا قال الشافعي، رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب،
عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من
الصحابة عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر
فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
قلت: وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة
أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس. وبه يقول سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز،
ومجاهد، وطاوس، ومحمد بن كعب، والقاسم. وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل،
وأصحابهم، رحمهم الله، وهو اختيار ابن جرير أيضًا، وهو قول الليث [بن سعد] وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور،
وداود، وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم،
والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة.
وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في
العدة وهذا غريب جدا.
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(228)
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من
ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها
لها ثلاثة قروء؛ ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة
إذا طُلِّقت، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقُرْء لا
يتبعض فكُمّل
لها قرءان. ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني، عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان".
< 1-607 >
رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية. وقال الحافظ الدارقطني
وغيره: الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه.
ورواه ابن ماجه من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا
. قال الدارقطني: والصحيح ما رواه سالم
ونافع، عن ابن عمر قوله. وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب. قالوا: ولم يعرف بين الصحابة
خلاف. وقال بعض السلف: بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء، والله أعلم، حكى هذا القول
الشيخُ أبو عمر بن عبد البر، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر، وضعفه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا
إسماعيل -يعني ابن عَيّاش -عن
عمرو بن مهاجر، عن أبيه: أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طُلّقت على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنـزل الله، عز وجل، حين
طلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت أول من نـزلت فيها العدة للطلاق، يعني: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ ) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما
هو ؟ على قولين:
أحدهما : أن المراد بها:
الأطهار، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: انتقلت
حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال الزهري:
فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا:
إن الله تعالى يقول في كتابه: " ثلاثة قروء " فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما
الأقراءُ؟ إنما الأقراء: الأطهارُ .
وقال مالك: عن ابن شهاب، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:
ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة. وقال مالك: عن نافع،
عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة
الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها. وقال مالك: وهو الأمر عندنا. ورُوي مثله عن ابن
عباس وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد
الرحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباح، وقتادة، والزهري، وبقية الفقهاء
السبعة، وهو مذهب مالك، والشافعي [وغير واحد، وداود وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد،
واستدلوا عليه بقوله تعالى:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
[الطلاق: 1] أي: في الأطهار. ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا، دل على أنه أحد
الأقراء الثلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة < 1-608 >
تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة،
وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان] .
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر -وهو
الأعشى -:
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة | | تَشُـدّ لأقصاهـا عَزِيمَ عَزَائِكا |
مُوَرَّثة عـدَّا، وفي الحيّ رفعة | | لما ضاع فيها من قُروء نسائكا |
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتى
ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها.
والقول الثاني : أن المراد
بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل
منها. وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة. قال
الثوري: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،
فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت مائي] وقد نـزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد الله -يعني ابن
مسعود -[ما ترى؟ قال] :
أراها امرأته، ما دون أن تحل لها الصلاة. قال [عمر:] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن
أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن
مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن
المسيب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة،
ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشعبي، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسدي،
ومكحول، والضحاك، وعطاء الخراساني، أنهم قالوا: الأقراء: الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصح الروايتين عن الإمام
أحمد بن حنبل، وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن
شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي،
من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لها: "دعي الصلاة أيام < 1-609 >
أقرائك" . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر
هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن جرير: أصلُ القرء في كلام العرب: "الوقت لمجيء
الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم". وهذه
العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الأصوليين فالله أعلم. وهذا قول الأصمعي:
أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض: قُرْءًا، وتسمي
الطهر: قرءا، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا: قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر:
لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر،
وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ) أي: من حَبَل أو حيض. قاله
ابن عباس، وابن عُمَر، ومجاهد، والشعبي، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس، والضحاك، وغير واحد.
وقوله: ( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) تهديد لهن على قول خلاف الحق. ودل هذا على أن
المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين، وتتعذر إقامة البينة غالبًا
على ذلك، فردّ الأمر إليهن، وتُوُعِّدْنَ فيه، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا
منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير
زيادة ولا نقصان.
وقوله: ( وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا ) أي: وزوجها
الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير.
وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نـزول هذه الآية مطلقة بائن،
وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نـزول هذه الآية فكان الرجل
أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث
تطليقات صار
للناس مطلقة بائن وغير بائن. وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين، من
استشهادهم على مسألة عود الضمير -هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا؟ -
بهذه الآية الكريمة، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه، والله أعلم.
وقوله: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما
للرجال
عليهن، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في
صحيح
مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة
الوداع:"فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة
الله، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك
فاضربوهن
ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" . وفي حديث بهز بن حكيم، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، عن
أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ < 1-610 >
قال: "أن تطعمها إذا طعمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا
تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
)
رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله: ( وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي: في الفضيلة في الخُلُق، والمنـزلة، وطاعة الأمر،
والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
[النساء:34]
.
وقوله: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ) أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(229)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء
الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة،
فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة
في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
) .
قال أبو داود، رحمه الله، في سننه: "باب في نسخ المراجعة
بعد الطلقات الثلاث": حدثنا أحمد ابن محمد المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد،
عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس:
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ
الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته
فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ) الآية.
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن
علي بن الحسين، به .
< 1-611 >
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة -
يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا
ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنـزل
الله عز وجل: ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ )
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد
الحميد، وابن إدريس. ورواه عبد بن حُمَيد في تفسيره، عن جعفر بن عون، كلهم عن هشام،
عن أبيه. قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن
رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك.
قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: ( الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ ) قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من طريق محمد بن سليمان،
عن يعلى بن شبيب -مولى الزبير -عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم.
ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس،
عن هشام، عن أبيه مرسلا. قال: هذا أصح .
ورواه الحاكم في مستدركه، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يعلى بن شبيب به، وقال
صحيح الإسناد .
ثم قال ابن مَردُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم،
حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلقُ الرجل
امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رَجل من الأنصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيِّمًا ولا ذات
زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت
العدة
أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنـزل الله عز وجل فيه: (الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )
فوقَّتَ الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره.
وهكذا رُوي
عن قتادة مرسلا. وذكره السدي، وابن زيد، وابن جرير كذلك، واختار أن هذا
تفسير هذه الآية.
وقوله: ( فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها
والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا
إليها، لا تظلمها من حقها شيئًا، ولا < 1-612 >
تُضارّ بها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل
امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فلا يظلمها من حقها شيئا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة،
أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، قال: سمعت أبا رَزِين
يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز
وجل: ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
)
أين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان".
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي
حكيم، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت قول الله: "الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان الثالثة" .
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصور، عن
خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي
رزين، به . وكذا رواه قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين
به مرسلا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من
طريق عبد الواحد بن
زياد، عن إسماعيل بن سميع، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره
. ثم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد
بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا
حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: "إمساك بمعروف أو
تسريح بإحسان" .
وقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] ) أي: لا
< 1-613 >
يحل لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن، ليفتدين منكم
بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء:19] فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها.
فقد قال تعالى:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
[النساء:4] وأما إذا تشاقق الزوجان،
ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما
أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ ) الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن
جرير:
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن
إبراهيم، حدثنا ابن علية -قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عمن حدثه، عن
ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير
بأس فحرام عليها رائحة الجنة" .
وهكذا رواه الترمذي، عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد
المجيد الثقفي به . وقال
حسن: قال: ويروى، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. ورواه بعضهم، عن
أيوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد،
عن أيوب، عن أبي قلابة -قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة
الجنة".
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن جرير، من حديث حماد
بن زيد، به .
طريق أخرى : قال ابن جرير:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما
امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، حَرّم الله عليها رائحة الجنة". وقال:"المختلعات هن المنافقات" .
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا، عن أبي كريب، عن مزاحم
بن ذَوّاد بن عُلْبَة، عن أبيه، عن ليث، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب، عن أبي زُرْعَة، عن أبي إدريس، عن ثوبان
قال:
< 1-614 >
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المختلعات هن
المنافقات". ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي .
حديث آخر : قال ابن جرير:
حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر، حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن
الحسن عن
ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب
من هذا الوجه ضعيف.
حديث آخر : قال ابن ماجه:
حدثنا بكر بن خلف أبو بشر،
حدثنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى بن ثَوْبان، عن عمه عمارةَ بن ثوبان، عن عطاء، عن
ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسألُ امرأة زوجها الطلاق في
غير كُنْهِه فَتَجِدَ ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" .
حديث آخر : قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" .
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز
الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية،
واحتجوا بقوله: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ ] ) . قالوا:
فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عَدَمُه،
وممن ذهب إلى هذا ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، وعطاء، [والحسن] والجمهور، حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئًا وهو
مضارّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطلاق رجعيًا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ
الناسَ عليه
. وذهب
الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق، وعند الاتفاق
بطريق الأولى
والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في
كتاب"الاستذكار" له، عن بكر بن عبد الله المزني، أنه ذهب إلى أن الخلع
منسوخ بقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
[النساء: 20] . ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله. وقد ذكر ابن جرير،
رحمه الله، أن هذه الآية نـزلت في شأن ثابت
بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول. ولنذكر طرق حديثها،
واختلاف ألفاظه:
< 1-615 >
قال الإمام مالك في موطئه: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة بنت
عبد الرحمن بن سعد بن
زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن
شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند
بابه في الغَلَس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذه؟ " قالت: أنا حبيبة
بنت سهل. فقال: "ما شأنك؟ " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها -فلما جاء
زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة بنت سهل قد
ذكرت ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها". فأخذ منها وجلست في أهلها.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك
بإسناده -مثله .
ورواه أبو داود، عن القعنبي، عن مالك. والنسائي، عن محمد بن مسلمة، عن ابن القاسم،
عن مالك به .
حديث آخر : عن عائشة: قال أبو
داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن
عبد الله -بن أبي بكر -عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس
بن شماس، فضربها فكسر ن
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الرابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الواحد والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والأربعون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى