الجزء الثاني والخمسون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والخمسون من تفسير سورة البقرة
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(257)
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين
من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل
المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات
والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك (
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[الأنعام:153] وقال تعالى:
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
[الأنعام:1] وقال تعالى:
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ
[النحل:48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن
أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال: يبعث أهل الأهواء
-أو قال: يبعث أهل الفتن-فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة،
ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية: ( اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ )
< 1-686 >
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ
(258)
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان بن كُوش بن
سام بن نوح. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح
والأول قول مجاهد وغيره.
قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران
فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمرود [بن كنعان] وبختنصر. فالله أعلم.
ومعنى قوله: ( أَلَمْ تَرَ ) أي: بقلبك يا محمد ( إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) أي: [في] وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه:
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
[القصص:38] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا
تجبره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يقال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه؛
ولهذا قال: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) وكأنه طلب من إبراهيم دليلا
على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم: ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ ) أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها،
وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم
تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده
لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج -وهو النمروذ-: ( أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة.
والظاهر -والله أعلم-أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم
ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه
هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت،
كما اقتدى به فرعون في قوله:
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: ( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ) أي: إذا كنت
كما تدعي من أنك [أنت الذي]
تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير
كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما
ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب. فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر
على المكابرة في هذا المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة.
قال الله تعالى
( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي: لا يلهمهم حجة ولا
برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وهذا التنـزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن
عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح
منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية. وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون
كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله
الحمد والمنة.
< 1-687 >
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج
إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه
المناظرة.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمروذ كان عنده طعام وكان الناس يغدون
إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة
ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام،
فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال: أشغل أهلي
عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام. فقامت امرأته سارة
إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما. فلما استيقظ
إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به. فعرف
أنه رزق رزقهموه الله عز وجل. قال
زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله
فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع
جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابا من
البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم
وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه
أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها
حتى أهلكه الله بها.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ
مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى
طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
تقدم قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ] )
وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه؟ ولهذا عطف عليه
بقوله: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا ) اختلفوا في هذا المار من هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن
رَوَّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن
علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير.
ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه. وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور.
وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا بن حلقيا. قال
محمد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال: وهو اسم الخضر عليه
السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: سمعت
سليمان بن محمد اليساري الجاري -من أهل الجار، ابن عم مطرف-قال: سمعت رجلا
من أهل الشام يقول: إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه: حزقيل بن
بورا.
وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل.
< 1-688 >