الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
(166)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا
لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
(167)
الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ
(168)
ثم قال تعالى:
( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ )
أي: فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء
الله وقدره، وله الحكمة في ذلك. [وقوله] ( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.
< 2-160 >
( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ) يعني [بذلك] أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في
أثناء الطريق، فاتبعهم من اتبعهم من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال
والمساعدة؛ ولهذا قال: ( أَوِ ادْفَعُوا ) قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن
جُبَير، والضحاك، وأبو صالح، والحسن، والسُّدِّي: يعني
كَثروا سواد المسلمين. وقال الحسن بن صالح: ادفعوا بالدعاء. وقال غيره:
رابطوا. فتعلَّلوا قائلين: ( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ) قال
مجاهد: يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالا.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد
بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو
بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كُلهم قد حدث قال: خَرَجَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم -يعني حين خرج إلى أحد-في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا
كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن
اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عَمرو
بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم
عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا
نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال:
أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى: ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلإيمَانِ ) استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال
أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب [إلى] الإيمان؛ لقوله: ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ )
ثم قال: ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )
يعني: أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا: ( لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ) فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد
جاءوا من بلاد بعيدة، يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم
بدر، وهم أضعاف المسلمين، أنه كائن بينهم قتال لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) .
وقوله: ( الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا
مَا قُتِلُوا ) أي: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما
قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: ( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي: إن كان القُعود يَسْلَم به الشخص من القتل والموت، فينبغي، أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في < 2-161 >
بروج مُشَيّدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد، عن
جابر بن عبد الله: نـزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول.
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
(169)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(170)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
(171)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
(172)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ
(173)
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عُمَر بن يونس، عن عِكْرِمة،
حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم الذين
أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري
أربعين أو سبعين. وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري، فخرج أولئك
النَّفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتَوْا غارا مُشْرِفا على الماء فقعدوا
فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أهْلَ هذا الماء؟ فقال -أرَاه ابن ملْحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخَرَج حتى أتى حيا [منهم]
فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر مَعُونة، إني رسولُ رسول الله
إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله
ورسوله. فخرج إليه رَجُل من كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من
الشق الآخر. فقال: الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة. فاتبعوا أثره حتى أتوا
أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن الطفيل. وقال إسحاق: حدثني أنس بن
مالك: أن الله [تعالى] أنزل فيهم قرآنا: بَلِّغُوا عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زَمَنًا وأنزل الله: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه: حدثنا محمد
بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمَشُ، عن عبد الله بن
مُرَّةَ، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ( وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال:
"أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ
بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ < 2-162 >
حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ
إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟
فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا
أَنَّهُمْ لَنْ
يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ
تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ
مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ،
لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".
انفرد به مسلم من طريق حماد .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان، عَن محمد بن علي بن رَبيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أما عَلِمْتَ
أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ
لَهُ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ:
إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ".
انفرد به أحمد من هذا الوجه
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -وهو عبد الله بن عَمْرو بن
حَرام الأنصاري رضي الله عنه-قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو
الوليد، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال: سمعت جابرا قال: لما قُتِل أبي
جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينْهَوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَبْكِهِ -أو: مَا تَبْكِيهِ -ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: لما قتلَ أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي... وذكر تمامة بنحوه .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق،
حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن
عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا
أُصِيبَ
إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ
خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي
إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا
طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ، < 2-163 >
وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم
قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا،
لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ ) وما بعدها".
هكذا رواه [الإمام] أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن إسماعيل بن عَيَّاش عن محمد بن إسحاق به
ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن
إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس
فذكره، وهذا أثبت . وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان عن إسماعيل
بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة
وأصحابه: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ثم قال: صحيح
على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.
حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان
أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير
بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة
الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذات يوم فقال: "يا جابر، مَا لِي أراك مُهْتَما؟" قال: قلت: يا
رسول الله، استشهد أبي وترك
دَينا وعيالا. قال: فقال: "ألا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا
قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا -قال
علي: الكفَاح: المواجهة -فَقَالَ: سَلْني أعْطكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أنْ
أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ
عَزَّ وَجَلَّ: إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا
يُرْجَعُونَ. قَالَ: أيْ رَبِّ: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي" . فَأَنزلَ
اللهُ [عَزَّ وجَلَّ] ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري، عن أبيه، عن
جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن
المديني، به .
< 2-164 >
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري، وهو عيسى بن عبد
الرحمن، إن شاء الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: "يَا جَابِرُ، ألا أُبَشِّرُكَ؟ قال: بلى. بشّرك الله بالخير. قال
شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا
شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ: يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ مَعَ نَبِيَّكَ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [لا] يَرْجعُ" .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق،
حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، رضي
الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ عَلَى
بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ
عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعَبَدة عن محمد بن إسحاق، به. وهو إسناد جيد .
وكان الشهداء أقسام: منهم من تسرح
أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن
يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك
ويراح، والله أعلم.
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه
تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة
والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم،
اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة؛ فإن الإمام
أحمد، رحمه الله، رواه عن [الإمام]
محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن
الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" .
قوله: "يعلق" أي: يأكل .
وفي هذا الحديث: "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ".
وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان.
< 2-165 >
وقوله: ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] ) أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله، وهم فَرحون مما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمد بن إسحاق ( وَيَسْتَبْشِرُونَ ) أي: ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.
[و]
قال السدي: يُؤتى الشهيد بكتاب فيه: "يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ
كَذَا وكَذَا، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، فَيُسَرُّ
بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ" .
وقال سعيد بن جبير: لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة
للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من
الكرامة، فإذا شهدوا للقتال
باشروها بأنفسهم، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأُخبِر
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي
ربهم-[أني]
قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستَبْشروا بذلك، فذلك
قوله: ( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ ) الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، في قصة أصحاب بئر مَعُونة
السبعين من الأنصار، الذين قتلوا في غداة واحدة، وقَنَت رسول الله صلى الله
عليه وسلم على الذين قتلوهم، يدعو عليهم ويَلْعَنهم، قال أنس: ونزل فيهم
قرآن قرأناه حتى رفع: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا
فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا" .
ثم قال: ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال محمد بن إسحاق: استبشروا
وسُرّوا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم.
وقوله: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ) هذا كان يوم "حمراء الأسد"، وذلك أن المشركين لما
أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا
في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة.
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم
ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر
الوقعة يوم أحد، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه -لما سنذكره-فانتدب
المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [عز وجل] ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
< 2-166 >
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن
عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا
قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد -أو: بئر أبي عيينة -الشك من سفيان-فقال المشركون: نرجع من قابل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعد غزوة، فأنزل
الله عز وجل: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ
مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا
أَجْرٌ عَظِيمٌ )
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره .
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان
الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرج
معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن
حرام فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال: يا
بَنَيّ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن،
ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي،
فتخلّف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فخرج معه. وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم
ليظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: حدثني
عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛
أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان
شَهد أحدا قال: شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، قلتُ لأخي -أو قال
لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من
دابَّة نركبها، وما منّا إلا جريح ثَقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]) قالت
لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، رضي الله عنهما،
لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه
المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: "مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ؟" فانتدبَ
منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما.
< 2-167 >
هكذا رواه البخاري منفردا به، بهذا السياق. وهكذا رواه الحاكم في
مستدركه عن الأصَم، عن العباس الدوري، عن أبي النضر، عن أبى سعيد المؤدب،
عن هشام بن عروة، به، ثم قال: صحيح ولم يخرجاه. كذا قال .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن البَهِيّ، عن عروة قال:
قالت لي عائشة: يا بُني، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما
أصابهم القرح. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
وروى ابن ماجة، عن هشام بن عمّار، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن
عيينة، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في
مسنده عن سفيان، به .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه. حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه،
أنبأنا سَمويه، أنبأنا عبد الله بن الزبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشام، عن
أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ كَانَ
أبَواك لَمن الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ: أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما" .
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده، لمخالفته رواية
الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه، ومن جهة معناه، فإن الزبير ليس هو
من آباء عائشة، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء
بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، [حدثني] عَمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما
كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا
سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا، وَقَدْ رَجَعَ، وَقَذَفَ اللهُ
فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ". وكانت وقعةُ أحد في شوال، وكان التجار يَقْدَمون
المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة، وإنهم قدموا
بعد وقعة أحد
وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
واشتد عليهم الذي أصابهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس
لينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين، وقال: "إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ
الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ
مُقْبِلٍ". فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم فأبى
عليه الناس أن يتبعوه، فقال: "إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ".
لأحضض الناس، فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر، < 2-168 >
وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن
مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في
طلب أبي سفيان، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله [عز وجل]
( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ [الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ
عَظِيمٌ] ) .
ثم قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين
والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. وقد مَر به -كما حدثني عبد الله
بن أبي بكر-معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي، وكانت خُزاعة -مسلمهم ومشركهم-عيبة
نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة، صَفْقَتُهم معه، لا يخفون
عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عَزّ
علينا ما أصابك في أصحابك، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه
بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وقالوا: أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم..
لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال:
ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله
قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا
على ما صنعوا، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك. ما
تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل
حتى ترى نواصي الخيل -قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم.
قال: فإني أنهاك عن ذلك. ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا
من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كـادَتْ تُهـدُّ مـنَ الأصـوات رَاحلتي | إذْ سَــالَت الأرضُ بـالجُرْدِ الأبـابيل | |
تَــرْدى بأسْــدٍ كــرام لا تَنَابلـة | عنْد اللّقــاء ولا ميــل مَعَـازيل | |
فَظَلْـتُ عَـدْوا أظُـنُّ الأرض مائلـةً | لَمَّـا سَـمَوا بـرئيس غـير مَخْـذول | |
فقلـتُ: ويـل ابـن حَـرْب من لقائكُمُ | إذا تَغَطْمَطَت البطــحاء بالجيــل | |
إنـي نذيـر لأهـل البَسْـل ضَاحيَـةً | لكــل ذي إرْبَــة منهـم ومعقـول | |
مـن جَـيْش أحـمدَ لا وَخْـشٍ تَنَابِلة | وليس يُـوصف مـا أنـذرت بـالقيـل |
ومر به ركب من بني عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ المدينة. قال: ولم؟ قالوا: < 2-169 >
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
بلغه رجوعهم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ
حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ" .
وقال الحسن البصري [في قوله]
( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ) إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما
أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ
قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [الرُّعْبَ] فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ؟" فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعُمَر، وعثمان، وعلي، وناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، فاتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه
وسلم، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال: ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا
وكذا، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا، وأنني راجع إليهم. فجاء التجار
فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) فأنزل الله هذه الآية.
وهكذا قال عِكْرِمة، وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن [غزوة] "حَمْراء الأسد"، وقيل: نزلت في بَدْر الموعد، والصحيح الأول.
وقوله: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]) أي: الذين توعدهم الناس [بالجموع] وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك، بل توكلوا على الله واستعانوا به ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبي
حَصين، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ ) قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد
صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ )
وقد رواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله،
كلاهما عن يحيى بن أبي بُكَير، عن أبي بكر -وهو ابن عياش-به. والعجب أن
الحاكم [أبا عبد الله] رواه من حديث أحمد بن يونس، به، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ثم رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن < 2-170 >
أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم، عليه السلام، حين ألقي في النار: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .
وقال عبد الرزاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشَّعْبِي، عن عبد
الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان. رواه
ابن جرير.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري
أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري، أنبأنا أبو بكر بن عياش، عن
حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم
أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فأنزل الله هذه الآية .
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي، عن أبيه، عن جده أبي
رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي
سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم قالوا: حسبنا
الله ونعم الوكيل. فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال ابن مَرْدُويه: حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد، أخبرنا الحسن بن سفيان،
أنبأنا أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد، أنبأنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بَقِيَّة، حدثنا بَحِير
بن سَعْد، عن خالد بن مَعْدان، عن سيف، عن عوف بن مالك أنه حدثهم: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي
الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ". فقال: "ما قلتَ؟". قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ
عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير، عن خالد، عن سَيْف
-وهو الشامي، ولم ينسب -عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
بنحوه .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا مُطَرِّف، عن عَطية، عن ابن عباس [في قوله:
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ
[المدثر: 8 ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ
وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ،
يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ". فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
فما نقول ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ < 2-171 >
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا".
وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيد وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب [بنت جحش] رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا فقالت زينب: زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن
وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب، ثم
قالت: كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله
ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين .
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شــــــــــــــــكرآآآآآآآآآآآآ لــــــــــــــــــــــــــــك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء اواحد والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء اواحد والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى