الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
لَقَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزل قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد، افتَقَرَ ربّك. يَسأل
عباده القرض؟ فأنـزل الله: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) الآية. رواه ابن
مردويه وابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عِكْرمة أنه حدثه عن
ابن عباس، رضي الله عنه، قال: دخل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بيت
المدراس، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له:
فِنْحَاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له: أشيع. فقال أبو بكر: ويحك يا فِنْحَاص
اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من
عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله -يا
أبا بكر-ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير. ما نتضرع إليه
كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما
يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه
ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر، رضي الله عنه، فضرب وجه
فِنْحَاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا الذي بيننا وبينك من
العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب
فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصر
ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما
حَمَلَكَ على ما صَنَعْت؟" فقال: يا رسول الله، إن عَدُوَّ الله قد قال
قولا عظيما، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله
مما قال، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص
وقال: ما قلتُ ذلك فأنـزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي
بكر: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) تهديد ووعيد؛ ولهذا قرنه بقوله: (
وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) أي: هذا قولهم في الله، وهذه
معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء؛ ولهذا قال: (
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
وقوله: ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا
نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ )
يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا
أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن
من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنـزل نار من السماء تأكلها. قاله
ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله تعالى: ( قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالحجج والبراهين ( وَبِالَّذِي
قُلْتُمْ ) أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ )
أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ( إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ) أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه
صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي: لا يهيدنك تكذيب
هؤلاء لك، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كُذبوا مع ما جاؤوا به من
البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة ( وَالزُّبُرِ ) وهي الكتب المتلقاة
من السماء، كالصحف المنـزلة على المرسلين ( وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي:
البَين الواضح الجلي.
كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولا.
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى
يموت، فإذا انقضت المدة وفَرَغَت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم
وانتهت البرية -أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها،
كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة؛ ولهذا قال: (
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللِّهْبِيّ عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن
علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، قال: لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم
وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل
البيت ورحمة الله وبركاته ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إن في
الله عَزَاءً من كل مُصِيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت،
فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب
قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر، عليه السلام .
وقوله: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ ) أي: من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة، فقد فاز كل الفوز.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا
محمد بن عَمْرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَوْضع سوط في الجنة خيرٌ من
الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) .
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من وجه آخر فقال:
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حُمَيْد بن
مسعدة، أنبأنا عمرو بن علي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لموضع سَوط أحَدكم في الجنة خير من الدنيا وما
فيها". قال: ثم تلا هذه الآية: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )
وتقدّم عند قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ما رواه الإمام أحمد، عن وَكيع
عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله
بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحَبَّ أن
يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة، فلتدركه مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم
الآخر، ولْيَأْتِ إلى الناس ما يُحِبُّ أن يؤتى إليه" .
وقوله: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) تصغيرًا لشأن الدنيا، وتحقيرًا لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17] [وقال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ [الرعد:26] وقال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ] [النحل:96]. وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60] وفي الحديث: "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ، فلينظر بِمَ تَرْجِع إليه؟" .
وقال قتادة في قوله: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ
الْغُرُورِ ) هي متاع، هي متاع، متروكة، أوشكت -والله الذي لا إله إلا
هو-أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) كقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ
وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] [البقرة:155، 156] أي: لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، إن
كان في دينه صلابة زيد في البلاء ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا ) يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر، مسليا
لهم عما نالهم
من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى
يفرج الله، فقال: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأمُورِ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي
حمزة، عن الزهري، أخبرني عُرْوة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما
أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا ) قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.
هكذا رواه مختصرا، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال:
حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير؛ أن أسامة
بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار، عليه قطيفة
فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن
الخزرج، قَبْل وقعة بَدْر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن
سَلُول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من
المسلمين والمشركين، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبدُ
الله بن رَوَاحة، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن
أبي أنفه بردائه وقال: "لا تُغَبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم وقف، فنـزل فدعاهم إلى الله عز وجل، وقرأ
عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبَي: أيها المَرْء، إنه لا أحْسَنَ مما
تقول، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص
عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى
الله عليه وسلم دَابته، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "يا سعد، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب -يريد عبد الله بن أبي-قال كذا وكذا". فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح فوَالله الذي أنـزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنـزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فَعَل
به ما رأيتَ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله،
ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأمُور] ) وقال تعالى: وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ
الآية [البقرة:109]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما
أمره الله به، حتى أذنَ الله فيهم، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول
ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد تَوَجّه، فبايعُوا الرسول
صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذَى، فما
له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله، عز وجل.
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزل قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد، افتَقَرَ ربّك. يَسأل
عباده القرض؟ فأنـزل الله: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) الآية. رواه ابن
مردويه وابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عِكْرمة أنه حدثه عن
ابن عباس، رضي الله عنه، قال: دخل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بيت
المدراس، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له:
فِنْحَاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له: أشيع. فقال أبو بكر: ويحك يا فِنْحَاص
اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من
عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله -يا
أبا بكر-ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير. ما نتضرع إليه
كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما
يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه
ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر، رضي الله عنه، فضرب وجه
فِنْحَاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا الذي بيننا وبينك من
العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب
فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصر
ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما
حَمَلَكَ على ما صَنَعْت؟" فقال: يا رسول الله، إن عَدُوَّ الله قد قال
قولا عظيما، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله
مما قال، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص
وقال: ما قلتُ ذلك فأنـزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي
بكر: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) تهديد ووعيد؛ ولهذا قرنه بقوله: (
وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) أي: هذا قولهم في الله، وهذه
معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء؛ ولهذا قال: (
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
وقوله: ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا
نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ )
يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا
أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن
من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنـزل نار من السماء تأكلها. قاله
ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله تعالى: ( قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالحجج والبراهين ( وَبِالَّذِي
قُلْتُمْ ) أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ )
أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ( إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ) أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه
صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي: لا يهيدنك تكذيب
هؤلاء لك، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كُذبوا مع ما جاؤوا به من
البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة ( وَالزُّبُرِ ) وهي الكتب المتلقاة
من السماء، كالصحف المنـزلة على المرسلين ( وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي:
البَين الواضح الجلي.
كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولا.
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى
يموت، فإذا انقضت المدة وفَرَغَت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم
وانتهت البرية -أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها،
كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة؛ ولهذا قال: (
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللِّهْبِيّ عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن
علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، قال: لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم
وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل
البيت ورحمة الله وبركاته ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إن في
الله عَزَاءً من كل مُصِيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت،
فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب
قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر، عليه السلام .
وقوله: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ ) أي: من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة، فقد فاز كل الفوز.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا
محمد بن عَمْرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَوْضع سوط في الجنة خيرٌ من
الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) .
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من وجه آخر فقال:
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حُمَيْد بن
مسعدة، أنبأنا عمرو بن علي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لموضع سَوط أحَدكم في الجنة خير من الدنيا وما
فيها". قال: ثم تلا هذه الآية: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )
وتقدّم عند قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ما رواه الإمام أحمد، عن وَكيع
عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله
بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحَبَّ أن
يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة، فلتدركه مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم
الآخر، ولْيَأْتِ إلى الناس ما يُحِبُّ أن يؤتى إليه" .
وقوله: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) تصغيرًا لشأن الدنيا، وتحقيرًا لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17] [وقال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ [الرعد:26] وقال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ] [النحل:96]. وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60] وفي الحديث: "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ، فلينظر بِمَ تَرْجِع إليه؟" .
وقال قتادة في قوله: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ
الْغُرُورِ ) هي متاع، هي متاع، متروكة، أوشكت -والله الذي لا إله إلا
هو-أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) كقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ
وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] [البقرة:155، 156] أي: لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، إن
كان في دينه صلابة زيد في البلاء ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا ) يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر، مسليا
لهم عما نالهم
من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى
يفرج الله، فقال: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأمُورِ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي
حمزة، عن الزهري، أخبرني عُرْوة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما
أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا ) قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.
هكذا رواه مختصرا، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال:
حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير؛ أن أسامة
بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار، عليه قطيفة
فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن
الخزرج، قَبْل وقعة بَدْر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن
سَلُول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من
المسلمين والمشركين، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبدُ
الله بن رَوَاحة، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن
أبي أنفه بردائه وقال: "لا تُغَبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم وقف، فنـزل فدعاهم إلى الله عز وجل، وقرأ
عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبَي: أيها المَرْء، إنه لا أحْسَنَ مما
تقول، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص
عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى
الله عليه وسلم دَابته، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "يا سعد، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب -يريد عبد الله بن أبي-قال كذا وكذا". فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح فوَالله الذي أنـزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنـزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فَعَل
به ما رأيتَ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله،
ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأمُور] ) وقال تعالى: وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ
الآية [البقرة:109]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما
أمره الله به، حتى أذنَ الله فيهم، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول
ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد تَوَجّه، فبايعُوا الرسول
صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذَى، فما
له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله، عز وجل.
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شــــــــــــــــكرآآآآآآآآآآآآ لــــــــــــــــــــــــــــك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء اواحد والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى