الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
قَالُوا
يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) (
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون ) وهذا
نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء.
ويقال: إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى
بلادهم، سجد موسى وهارون، عليهما السلام، قُدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاما
لما هموا به، وشَق "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا" ثيابهما ولاما قومهما
على ذلك، فيقال: إنهم رجموهما. وجرى أمر عظيم وخطر جليل.
وما أحسن ما أجاب به الصحابة، رضي الله عنهم
يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير، الذين
جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير، واقترب
منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف، في العُدة
والبَيْض واليَلب، فتكلم أبو بكر، رضي الله عنه، فأحسن، ثم تكلم من تكلم
من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشيروا
عليَّ أيها المسلمون". وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنهم
كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ [رضي الله عنه] كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، فوالذي
بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك، وما
تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في
الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه ذلك.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو حاتم
الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد عن أنس، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار إليه عمر، ثم
استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت
بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك
الغمَاد لاتبعناك.
ورواه الإمام أحمد، عن عبيدة بن حميد، الطويل، عن أنس، به. ورواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد به، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى، عن عبد الأعلى بن حماد، عن مَعْمَر بن سليمان، عن حميد، به.
وقال ابن مَرْدُويه: أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا إسماعيل بن عبد
الله، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا محمد بن شعيب، عن الحسن
بن أيوب، عن عبد الله بن ناسخ، عن عتبة بن عبد السلمي قال: قال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "ألا تقاتلون؟" قالوا: نعم، ولا نقول كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي، رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي، عن طارق -هو
ابن شهاب-: أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا
رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
هكذا رواه أحمد من هذا الوجه، وقد رواه من طريق أخرى فقال:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: قال
عبد الله -هو ابن مسعود-رضي الله عنه: لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن
أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به: أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
وهو يدعو على المشركين، فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ ) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك، وسره بذلك.
وهكذا رواه البخاري "في المغازي" وفي "التفسير" من طرق عن مخارق، به.
ولفظه في "كتاب التفسير" عن عبد الله قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول
الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن [نقول] امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البخاري: ورواه وَكِيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر
لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية، حين صَدّ
المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم: "إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت". فقال له المقداد بن الأسود: أما
والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
تتابعوا على ذلك.
وهذا. إن كان محفوظا يوم الحديبية، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر.
وقوله: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) يعني: لما نكل بنو
إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعيا عليهم: ( رَبِّ
إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ) أي: ليس أحد يطيعني منهم
فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون، ( فَافْرُقْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) قال العَوْفِي، عن ابن
عباس: يعني اقض بيني وبينهم. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق: افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر
وقوله تعالى: ( [قَالَ] فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]
) لما دعا عليهم موسى، عليه السلام، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم
بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا
يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة، وخوارق كثيرة، من تظليلهم
بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء
تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة
عينا تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن
عمران. وهناك أنزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد، ويقال
لها: قبة الزمان.
قال يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: ( فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ )
الآية. قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم
قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة
من حديث "الفتون"، ثم كانت وفاة هارون، عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاثة
سنين مات موسى الكليم، عليه السلام، وأقام الله فيهم "يوشع بن نون" عليه
السلام، نبيا خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك
المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى "يوشع" و "كالب"، ومن هاهنا قال بعض
المفسرين في قوله: ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هذا وقف
تام، وقوله: ( أَرْبَعِينَ سَنَةً ) منصوب بقوله: ( يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ
) فلما انقضت المدة خرج بهم "يوشع بن نون" عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب، وخَشي دخول السبت عليهم قال
"إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ"، فحبسها الله تعالى حتى
فتحها، وأمر الله "يوشع بن نون" أن يأمر بني إسرائيل، حين يدخلون بيت
المقدس، أن يدخلوا بابها سُجّدا، وهم يقولون: حطّة، أي: حط عنا ذنوبنا،
فبدلوا ما أمروا به، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حَبَّة في شَعْرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ،
حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قوله: ( فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ ) قال:
فتاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة،
فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم "يوشع بن نون"، وهو الذي قام بالأمر بعد
موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له: "اليوم يوم الجمعة" فهَمُّوا
بافتتاحها، ودنت
الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: "إني
مأمور وإنك مأمورة" فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله
قط، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال: فيكم الغلول، فدعا رءوس الأسباط، وهم
اثنا عشر رجلا فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك،
فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه
مع القربان، فأتت النار فأكلتها.
وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله: (
فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هو العامل في "أربعين سنة"، وأنهم
مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد.
قال: ثم خرجوا مع موسى، عليه السلام، ففتح بهم بيت المقدس. ثم احتج على ذلك
قال: بإجماع علماء أخبار الأولين أن
"عوج بن عنق" قتله موسى، عليه السلام، قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه
لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه. قال:
وأجمعوا على أن "بلعام بن باعورا" أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال:
وما ذاك إلا بعد التيه؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا
استدلاله، ثم قال:
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن أبي إسحاق، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع،
وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب "عوج" فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة.
وروي أيضا عن محمد بن بَشّار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْف البِكالي قال: كان سرير "عوج" ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب "عوجا" فأصاب كعبه، فسقط ميتا، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه.
وقوله تعالى: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك.
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم
به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع
أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك
الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله
بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون
لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود،
وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود،
وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود.
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ
لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31)
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني
آدم لصلبه -في قول الجمهور-وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر،
فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي
أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة،
وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) أي: واقصص على هؤلاء
البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم-خبر
ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.
وقوله: ( بِالْحَقِّ ) أي: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [ الكهف:13] وقال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] [مريم: 34]
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى كان
قد شرع لآدم، عليه السلام، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن
قالوا: كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر
البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دَميمةً، وأخت قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر
بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا، فمن تقبل منه فهي له،
فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قص
الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسرين هاهنا:
قال السُّدي -فيما ذكر-عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مُرَّة، عن ابن مسعود-وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان
لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا
البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له
ابنان يقال لهما: قابيل وهابيل
وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له
أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال:
هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها. فأمره أبوه
أن يزوجها هابيل، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق
بالجارية، وكان آدم، عليه السلام، قد غاب عنهما، أتى مكة ينظر إليها، قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال: اللهم لا قال: إن لي بيتا في مكة فأته. فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال، فأبت. فقال
لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا
قربانا، وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر
منك، وأنا وصي والدي. فلما قَربا، قرب هابيل جَذعَة سمنة، وقرب قابيل
حَزْمَة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت
قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي.
فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج، أخبرني ابن خُثَيْم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس
قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها،
وكان يولد له في كل بطن رجل
وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة،
فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي فقربا
قربانا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. إسناد جيد.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان
بن خُثَيْم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله ( إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَانًا ) فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض، وصاحب
الحرث بصَبرة من طعام، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إسناد جيد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عَوْف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وإنهما
أمرا أن يقربا قربانا، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها،
طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة
بها نفسه، وإن الله، عز وجل، تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب
الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال: وأيم الله، إن كان
المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط [يده] إلى أخيه.
وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا
بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه، فأحبه حتى
كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه
منه. فلما أمر بالقربان قربه لله، عز وجل، فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم، عليه السلام. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا القاسم بن عبد
الرحمن، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال: قال آدم، عليه السلام، لهابيل
وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا
قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم
فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة
من زرعه، فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما،
ثم جلسوا ثلاثتهم: آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا
كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل،
فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك
قربانك. فقال قابيل: أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه،
ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل: لأقتلنك فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك؟ [قال] قال: وبَعثتني له راعيا؟ لا أدري. فقال [له]
آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله.
وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي
قرباني، لأقتلنك. فقال هابيل: قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن
الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض، وحثى عليه شيئًا من التراب.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم أمر ابنه قابيل
أن ينكح أخته تَوأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل ، فسلم
لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن
هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة
الأرض، وأنا أحق بأختي -ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت
قابيل من أحسن الناس، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان-فقال له أبوه: يا بني، إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه. فقال له أبوه: يا بني، قرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما تُقُبِّل
قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رعاية
الماشية، فقرب قابيل قمحا، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه -وبعضهم يقول:
قرب بقرة-فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل،
وبذلك كان يُقْبَل القربان إذا قبله . رواه ابن جرير.
وقال العَوْفِيُّ، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله، أرسل إليه نارا فتأكله
وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار، فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان
الآخر حَرّاثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض
زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال
لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ
عليَّ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت خير مني. فقال: لأقتلنك. فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.
فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في
امرأة، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم، وهو ظاهر القرآن: ( إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ) فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه.
ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب
الطعام هو قابيل، وأنه تُقُبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره: إنه
الكبش الذي فدي به الذبيح، وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل.
كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا، ولكن
روى ابن جرير، عنه أنه قال: الذي قرب الزرع قابيل، وهو المتقبل منه، وهذا
خلاف المشهور، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم.
ومعنى قوله: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) أي: ممن اتقى الله في فعله ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، حدثني صَفْوان بن
عمرو، عن تَمِيم، يعني ابن مالك المقري، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن
أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن
الله يقول: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان -يعني
الرازي-عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون بن أبي حمزة قال: كنت جالسًا عند أبي
وائل، فدخل علينا رجل -يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ-فقال له شقيق بن
سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس
الناس في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كَنَف من
الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة، فيمرون إلى الجنة.
وقوله: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ ) يقول له أخوه الرجل الصالح، الذي تقبل الله قربانه لتقواه
حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: ( لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأقْتُلَكَ ) أي:
لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، (
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) أي: من أن أصنع كما تريد أن
تصنع، بل أصبر وأحتسب.
قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج، يعني الورع.
ولهذا ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا
تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول
الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا لَيْثُ بن سعد، عن عَيَّاش بن عباس، عن بكير بن عبد الله، عن بُسْر بن سعيد
؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير
من الماشي، والماشي خير من الساعي". قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده
إليَّ ليقتلني قال: "كن كابن آدم".
وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد وقال: هذا الحديث حسن، وفي الباب عن أبي هريرة، وخَباب بن الأرت، وأبي بَكْرَة وابن مسعود، وأبي واقد، وأبي موسى، وخَرَشَة. ورواه بعضهم عن الليث بن سعد، وزاد في الإسناد رجلا.
قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي.
قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي، حدثنا المفضل، عن عياش بن عباس عن بُكَيْر، عن بُسْر بن سعيد عن حسين
بن عبد الرحمن الأشجعي؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط
يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن كابن آدم" وتلا
يزيد: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
قال أيوب السَّخْتَياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة: (
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مَرْحوم، حدثني أبو عمران الجَوْني، عن عبد
الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا
وأردفني خلفه، وقال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع
أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟". قال: قال الله ورسوله أعلم. قال:
"تعفف" قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد، ويكون البيت فيه
بالعبد، يعني القبر، كيف تصنع؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "اصبر". قال:
"يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من
الدماء، كيف تصنع؟". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "اقعد في بيتك وأغلق عليك
بابك". قال: فإن لم أتْرَك؟ قال: "فأت من أنت منهم، فكن فيهم" قال: فآخذ سلاحي؟ قال: "إذًا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك".
رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي، من طرق عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق حماد بن زيد، عن أبي عمران، عن المُشَعَّث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه.
قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد.
وقال ابن مَرْدُويَه: حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن
حازم، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن رِبْعِيّ قال:
كنا في جنازة حُذَيفة، فسمعت رجلا يقول: سمعت هذا يقول في ناس: مما سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في
داري، فلألجنَّه، فلئن دخل عَليّ فلان لأقولن: ها بؤ بإثمي وإثمك، فأكون كخير ابني آدم".
وقوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) قال ابن عباس،
ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي، في قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي: بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك.
قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل
وزرها، وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛
لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه. يعني: ما رواه سفيان الثوري، عن منصور،
عن مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي ) قال: بقتلك إياي، (
وَإِثْمِكَ ) قال: بما كان منك قبل ذلك.
وكذا روى
عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثْله، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن
مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) يقول: إني
أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.
قلت: وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا، ولكن ليس به، فقال:
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثنَا يعقوب بن عبد
الله، حدثنا عتبة بن سعيد، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه".
وهذا بهذا لا يصح
ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل
على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص، وهو الغالب، فإن المقتول
يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت
على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح
الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من
أعظمها وأشدها، والله أعلم.
وأما ابن جرير فقال
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك
في قتلك إياي -وذلك هو معنى قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
) وأما معنى ( وَإِثْمِكَ ) فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله، عز وجل، في أعمال سواه.
وإنما قلنا هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه، وأن الله، عز وجل، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه، فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله: كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله، وإثم نفسه، مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله، بل يكف يده عنه، طالبًا -إنْ وقع قتل-أن يكون من أخيه لا منه.
قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر؛ ولهذا
قال: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي: تتحمل إثمي
وإثمك ( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ )
وقال ابن عباس: خوفه النار فلم ينته ولم ينزجر.
وقوله تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: فحسنت وسوّلت له نفسه، وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي: بعد هذه الموعظة وهذا الزجر.
وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر، وهو محمد بن علي بن الحسين: أنه قتله بحديدة في يده.
وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن
عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال،
فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له، وهو نائم فرفع صخرة، فشدخ بها
رأسه فمات، فتركه بالعَرَاء. رواه ابن جرير.
وعن بعض أهل الكتاب: أنه قتله خنقًا وعضًّا، كما تَقْتُل السباع، وقال ابن جرير لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الله بن وَهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال:
أخذ برأسه ليقتله، فاضطجع له، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله،
فجاءه
إبليس فقال: أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على
رأسه. قال: فأخذها، فألقاها عليه، فشَدَخ رأسه. ثم جاء إبليس إلى حواء
مسرعًا، فقال: يا حواء، إن قابيل قتل هابيل. فقالت له: ويحك. أيّ
شيء يكون القتل؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك. قالت: ذلك الموت. قال:
فهو الموت. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال: ما لك؟ فلم
تكلمه، فرجع إليها مرتين، فلم تكلمه. فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها برآء. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: في الدنيا والآخرة، وأيّ
خسارة أعظم من هذه؟ . و قد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية
ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله
بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتَل نفس ظلمًا،
إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".
وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق، عن الأعمش، به.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن
جُرَيْج: قال مجاهد: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ
إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من
نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج -قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد
ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ، عليه شطر عذابهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم
بن حكيم، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى أهل النار
رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم
القيامة، إلا لحق به منه شر، وذلك أنه أول من سَنّ القتل.
وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه.
رواه ابن جرير أيضًا.
وقوله تعالى: ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال السدي بإسناده المتقدم إلى
الصحابة: لما مات الغلام تركه بالعَرَاء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله
غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه. فلما رآه
قال: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فبَحَث
عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي )
وقال الضحاك، عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة، حتى
بعث الله الغُرابين، فرآهما يبحثان، فقال: ( أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ) فدفن أخاه.
وقال لَيْثُ بن أبي سليم، عن مجاهد: وكان يحمله على عاتقه مائة سنة
ميتًا، لا يدري ما يصنع به يحمله، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن
الغراب، فقال: ( يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ )
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال عطية العوفي: لما قتله ندم. فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سُقِط في
يديه، ولم يدر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أول قتيل في
بني آدم وأول ميت ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال: وزعم
أهل التوراة أن قابيلًا لما قتل أخاه هابيل، قال له الله، عز وجل: يا
قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا. فقال الله:
إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت
ف
يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) (
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون ) وهذا
نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء.
ويقال: إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى
بلادهم، سجد موسى وهارون، عليهما السلام، قُدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاما
لما هموا به، وشَق "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا" ثيابهما ولاما قومهما
على ذلك، فيقال: إنهم رجموهما. وجرى أمر عظيم وخطر جليل.
وما أحسن ما أجاب به الصحابة، رضي الله عنهم
يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير، الذين
جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير، واقترب
منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف، في العُدة
والبَيْض واليَلب، فتكلم أبو بكر، رضي الله عنه، فأحسن، ثم تكلم من تكلم
من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشيروا
عليَّ أيها المسلمون". وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنهم
كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ [رضي الله عنه] كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، فوالذي
بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك، وما
تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في
الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه ذلك.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو حاتم
الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد عن أنس، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار إليه عمر، ثم
استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت
بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك
الغمَاد لاتبعناك.
ورواه الإمام أحمد، عن عبيدة بن حميد، الطويل، عن أنس، به. ورواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد به، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى، عن عبد الأعلى بن حماد، عن مَعْمَر بن سليمان، عن حميد، به.
وقال ابن مَرْدُويه: أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا إسماعيل بن عبد
الله، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا محمد بن شعيب، عن الحسن
بن أيوب، عن عبد الله بن ناسخ، عن عتبة بن عبد السلمي قال: قال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "ألا تقاتلون؟" قالوا: نعم، ولا نقول كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي، رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي، عن طارق -هو
ابن شهاب-: أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا
رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
هكذا رواه أحمد من هذا الوجه، وقد رواه من طريق أخرى فقال:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: قال
عبد الله -هو ابن مسعود-رضي الله عنه: لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن
أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به: أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
وهو يدعو على المشركين، فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ ) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك، وسره بذلك.
وهكذا رواه البخاري "في المغازي" وفي "التفسير" من طرق عن مخارق، به.
ولفظه في "كتاب التفسير" عن عبد الله قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول
الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن [نقول] امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البخاري: ورواه وَكِيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر
لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية، حين صَدّ
المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم: "إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت". فقال له المقداد بن الأسود: أما
والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
تتابعوا على ذلك.
وهذا. إن كان محفوظا يوم الحديبية، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر.
وقوله: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) يعني: لما نكل بنو
إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعيا عليهم: ( رَبِّ
إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ) أي: ليس أحد يطيعني منهم
فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون، ( فَافْرُقْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) قال العَوْفِي، عن ابن
عباس: يعني اقض بيني وبينهم. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق: افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر
يَــا رب فــافرق بَيْنَــه وبَيْنـي | أشــدّ مــا فَــرقْت بَيْـن اثنيـن |
) لما دعا عليهم موسى، عليه السلام، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم
بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا
يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة، وخوارق كثيرة، من تظليلهم
بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء
تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة
عينا تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن
عمران. وهناك أنزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد، ويقال
لها: قبة الزمان.
قال يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: ( فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ )
الآية. قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم
قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة
من حديث "الفتون"، ثم كانت وفاة هارون، عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاثة
سنين مات موسى الكليم، عليه السلام، وأقام الله فيهم "يوشع بن نون" عليه
السلام، نبيا خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك
المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى "يوشع" و "كالب"، ومن هاهنا قال بعض
المفسرين في قوله: ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هذا وقف
تام، وقوله: ( أَرْبَعِينَ سَنَةً ) منصوب بقوله: ( يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ
) فلما انقضت المدة خرج بهم "يوشع بن نون" عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب، وخَشي دخول السبت عليهم قال
"إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ"، فحبسها الله تعالى حتى
فتحها، وأمر الله "يوشع بن نون" أن يأمر بني إسرائيل، حين يدخلون بيت
المقدس، أن يدخلوا بابها سُجّدا، وهم يقولون: حطّة، أي: حط عنا ذنوبنا،
فبدلوا ما أمروا به، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حَبَّة في شَعْرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ،
حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قوله: ( فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ ) قال:
فتاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة،
فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم "يوشع بن نون"، وهو الذي قام بالأمر بعد
موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له: "اليوم يوم الجمعة" فهَمُّوا
بافتتاحها، ودنت
الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: "إني
مأمور وإنك مأمورة" فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله
قط، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال: فيكم الغلول، فدعا رءوس الأسباط، وهم
اثنا عشر رجلا فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك،
فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه
مع القربان، فأتت النار فأكلتها.
وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله: (
فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هو العامل في "أربعين سنة"، وأنهم
مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد.
قال: ثم خرجوا مع موسى، عليه السلام، ففتح بهم بيت المقدس. ثم احتج على ذلك
قال: بإجماع علماء أخبار الأولين أن
"عوج بن عنق" قتله موسى، عليه السلام، قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه
لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه. قال:
وأجمعوا على أن "بلعام بن باعورا" أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال:
وما ذاك إلا بعد التيه؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا
استدلاله، ثم قال:
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن أبي إسحاق، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع،
وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب "عوج" فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة.
وروي أيضا عن محمد بن بَشّار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْف البِكالي قال: كان سرير "عوج" ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب "عوجا" فأصاب كعبه، فسقط ميتا، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه.
وقوله تعالى: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك.
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم
به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع
أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك
الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله
بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون
لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود،
وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود،
وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود.
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ
لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31)
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني
آدم لصلبه -في قول الجمهور-وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر،
فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي
أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة،
وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) أي: واقصص على هؤلاء
البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم-خبر
ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.
وقوله: ( بِالْحَقِّ ) أي: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [ الكهف:13] وقال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] [مريم: 34]
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى كان
قد شرع لآدم، عليه السلام، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن
قالوا: كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر
البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دَميمةً، وأخت قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر
بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا، فمن تقبل منه فهي له،
فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قص
الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسرين هاهنا:
قال السُّدي -فيما ذكر-عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مُرَّة، عن ابن مسعود-وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان
لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا
البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له
ابنان يقال لهما: قابيل وهابيل
وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له
أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال:
هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها. فأمره أبوه
أن يزوجها هابيل، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق
بالجارية، وكان آدم، عليه السلام، قد غاب عنهما، أتى مكة ينظر إليها، قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال: اللهم لا قال: إن لي بيتا في مكة فأته. فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال، فأبت. فقال
لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا
قربانا، وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر
منك، وأنا وصي والدي. فلما قَربا، قرب هابيل جَذعَة سمنة، وقرب قابيل
حَزْمَة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت
قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي.
فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج، أخبرني ابن خُثَيْم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس
قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها،
وكان يولد له في كل بطن رجل
وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة،
فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي فقربا
قربانا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. إسناد جيد.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان
بن خُثَيْم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله ( إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَانًا ) فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض، وصاحب
الحرث بصَبرة من طعام، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إسناد جيد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عَوْف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وإنهما
أمرا أن يقربا قربانا، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها،
طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة
بها نفسه، وإن الله، عز وجل، تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب
الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال: وأيم الله، إن كان
المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط [يده] إلى أخيه.
وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا
بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه، فأحبه حتى
كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه
منه. فلما أمر بالقربان قربه لله، عز وجل، فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم، عليه السلام. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا القاسم بن عبد
الرحمن، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال: قال آدم، عليه السلام، لهابيل
وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا
قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم
فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة
من زرعه، فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما،
ثم جلسوا ثلاثتهم: آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا
كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل،
فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك
قربانك. فقال قابيل: أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه،
ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل: لأقتلنك فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك؟ [قال] قال: وبَعثتني له راعيا؟ لا أدري. فقال [له]
آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله.
وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي
قرباني، لأقتلنك. فقال هابيل: قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن
الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض، وحثى عليه شيئًا من التراب.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم أمر ابنه قابيل
أن ينكح أخته تَوأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل ، فسلم
لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن
هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة
الأرض، وأنا أحق بأختي -ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت
قابيل من أحسن الناس، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان-فقال له أبوه: يا بني، إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه. فقال له أبوه: يا بني، قرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما تُقُبِّل
قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رعاية
الماشية، فقرب قابيل قمحا، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه -وبعضهم يقول:
قرب بقرة-فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل،
وبذلك كان يُقْبَل القربان إذا قبله . رواه ابن جرير.
وقال العَوْفِيُّ، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله، أرسل إليه نارا فتأكله
وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار، فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان
الآخر حَرّاثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض
زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال
لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ
عليَّ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت خير مني. فقال: لأقتلنك. فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.
فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في
امرأة، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم، وهو ظاهر القرآن: ( إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ) فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه.
ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب
الطعام هو قابيل، وأنه تُقُبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره: إنه
الكبش الذي فدي به الذبيح، وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل.
كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا، ولكن
روى ابن جرير، عنه أنه قال: الذي قرب الزرع قابيل، وهو المتقبل منه، وهذا
خلاف المشهور، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم.
ومعنى قوله: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) أي: ممن اتقى الله في فعله ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، حدثني صَفْوان بن
عمرو، عن تَمِيم، يعني ابن مالك المقري، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن
أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن
الله يقول: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان -يعني
الرازي-عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون بن أبي حمزة قال: كنت جالسًا عند أبي
وائل، فدخل علينا رجل -يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ-فقال له شقيق بن
سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس
الناس في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كَنَف من
الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة، فيمرون إلى الجنة.
وقوله: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ ) يقول له أخوه الرجل الصالح، الذي تقبل الله قربانه لتقواه
حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: ( لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأقْتُلَكَ ) أي:
لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، (
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) أي: من أن أصنع كما تريد أن
تصنع، بل أصبر وأحتسب.
قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج، يعني الورع.
ولهذا ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا
تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول
الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا لَيْثُ بن سعد، عن عَيَّاش بن عباس، عن بكير بن عبد الله، عن بُسْر بن سعيد
؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير
من الماشي، والماشي خير من الساعي". قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده
إليَّ ليقتلني قال: "كن كابن آدم".
وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد وقال: هذا الحديث حسن، وفي الباب عن أبي هريرة، وخَباب بن الأرت، وأبي بَكْرَة وابن مسعود، وأبي واقد، وأبي موسى، وخَرَشَة. ورواه بعضهم عن الليث بن سعد، وزاد في الإسناد رجلا.
قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي.
قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي، حدثنا المفضل، عن عياش بن عباس عن بُكَيْر، عن بُسْر بن سعيد عن حسين
بن عبد الرحمن الأشجعي؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط
يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن كابن آدم" وتلا
يزيد: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
قال أيوب السَّخْتَياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة: (
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مَرْحوم، حدثني أبو عمران الجَوْني، عن عبد
الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا
وأردفني خلفه، وقال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع
أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟". قال: قال الله ورسوله أعلم. قال:
"تعفف" قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد، ويكون البيت فيه
بالعبد، يعني القبر، كيف تصنع؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "اصبر". قال:
"يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من
الدماء، كيف تصنع؟". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "اقعد في بيتك وأغلق عليك
بابك". قال: فإن لم أتْرَك؟ قال: "فأت من أنت منهم، فكن فيهم" قال: فآخذ سلاحي؟ قال: "إذًا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك".
رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي، من طرق عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق حماد بن زيد، عن أبي عمران، عن المُشَعَّث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه.
قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد.
وقال ابن مَرْدُويَه: حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن
حازم، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن رِبْعِيّ قال:
كنا في جنازة حُذَيفة، فسمعت رجلا يقول: سمعت هذا يقول في ناس: مما سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في
داري، فلألجنَّه، فلئن دخل عَليّ فلان لأقولن: ها بؤ بإثمي وإثمك، فأكون كخير ابني آدم".
وقوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) قال ابن عباس،
ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي، في قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي: بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك.
قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل
وزرها، وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛
لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه. يعني: ما رواه سفيان الثوري، عن منصور،
عن مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي ) قال: بقتلك إياي، (
وَإِثْمِكَ ) قال: بما كان منك قبل ذلك.
وكذا روى
عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثْله، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن
مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) يقول: إني
أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.
قلت: وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا، ولكن ليس به، فقال:
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثنَا يعقوب بن عبد
الله، حدثنا عتبة بن سعيد، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه".
وهذا بهذا لا يصح
ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل
على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص، وهو الغالب، فإن المقتول
يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت
على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح
الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من
أعظمها وأشدها، والله أعلم.
وأما ابن جرير فقال
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك
في قتلك إياي -وذلك هو معنى قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
) وأما معنى ( وَإِثْمِكَ ) فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله، عز وجل، في أعمال سواه.
وإنما قلنا هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه، وأن الله، عز وجل، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه، فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله: كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله، وإثم نفسه، مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله، بل يكف يده عنه، طالبًا -إنْ وقع قتل-أن يكون من أخيه لا منه.
قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر؛ ولهذا
قال: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي: تتحمل إثمي
وإثمك ( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ )
وقال ابن عباس: خوفه النار فلم ينته ولم ينزجر.
وقوله تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: فحسنت وسوّلت له نفسه، وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي: بعد هذه الموعظة وهذا الزجر.
وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر، وهو محمد بن علي بن الحسين: أنه قتله بحديدة في يده.
وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن
عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال،
فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له، وهو نائم فرفع صخرة، فشدخ بها
رأسه فمات، فتركه بالعَرَاء. رواه ابن جرير.
وعن بعض أهل الكتاب: أنه قتله خنقًا وعضًّا، كما تَقْتُل السباع، وقال ابن جرير لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الله بن وَهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال:
أخذ برأسه ليقتله، فاضطجع له، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله،
فجاءه
إبليس فقال: أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على
رأسه. قال: فأخذها، فألقاها عليه، فشَدَخ رأسه. ثم جاء إبليس إلى حواء
مسرعًا، فقال: يا حواء، إن قابيل قتل هابيل. فقالت له: ويحك. أيّ
شيء يكون القتل؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك. قالت: ذلك الموت. قال:
فهو الموت. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال: ما لك؟ فلم
تكلمه، فرجع إليها مرتين، فلم تكلمه. فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها برآء. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: في الدنيا والآخرة، وأيّ
خسارة أعظم من هذه؟ . و قد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية
ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله
بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتَل نفس ظلمًا،
إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".
وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق، عن الأعمش، به.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن
جُرَيْج: قال مجاهد: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ
إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من
نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج -قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد
ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ، عليه شطر عذابهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم
بن حكيم، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى أهل النار
رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم
القيامة، إلا لحق به منه شر، وذلك أنه أول من سَنّ القتل.
وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه.
رواه ابن جرير أيضًا.
وقوله تعالى: ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال السدي بإسناده المتقدم إلى
الصحابة: لما مات الغلام تركه بالعَرَاء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله
غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه. فلما رآه
قال: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فبَحَث
عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي )
وقال الضحاك، عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة، حتى
بعث الله الغُرابين، فرآهما يبحثان، فقال: ( أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ) فدفن أخاه.
وقال لَيْثُ بن أبي سليم، عن مجاهد: وكان يحمله على عاتقه مائة سنة
ميتًا، لا يدري ما يصنع به يحمله، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن
الغراب، فقال: ( يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ )
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال عطية العوفي: لما قتله ندم. فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سُقِط في
يديه، ولم يدر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أول قتيل في
بني آدم وأول ميت ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال: وزعم
أهل التوراة أن قابيلًا لما قتل أخاه هابيل، قال له الله، عز وجل: يا
قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا. فقال الله:
إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت
ف
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى