الجزء الثالث من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث من تفسير سورة الأنعام
قُلْ
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
ثم قال: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) أي: من أعظم الأشياء [شهادة]
( قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي: هو العالم بما جئتكم
به، وما أنتم قائلون لي: ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي: وهو نذير لكل من بلغه، كما قال
تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو
خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: ( وَمَنْ بَلَغَ ) [قال] من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم -زاد أبو خالد: وكَلّمه.
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( لأنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ ) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "بلغوا عن الله،
فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله".
وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر كالذي أنذر.
وقوله: ( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ) [أي] أيها المشركون ( أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ ) كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام: 150]، ( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه
وصفته، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا: ( الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي: خسروا كل الخسارة، ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )
بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان
وحديثه.
ثم قال: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي: لا أظلم ممن تَقَوَّل
على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات
الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي:
لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) يوم
القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا
[لهم] ( أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) كما قال تعالى في سورة القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [ الآية: 62] .
وقوله: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) أي: حجتهم. وقال عطاء
الخراساني، عن ابن عباس: أي: معذرتهم. وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج، عن
ابن عباس: أي قيلهم. وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني: ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
وقال ابن جرير: والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن
عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن
عباس قال: أتاه رجل فقال يا أبا
عباس. سمعت الله يقول: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
قال: أما قوله: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فإنهم رأوا
أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا: تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم
الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في
قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نـزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نـزلت في المنافقين آية المجادلة: يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ]
[المجادلة: 18]، وهكذا قال في حق هؤلاء: ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) كَمَا قَالَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ] [غافر: 73، 74].
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) أي: يجيؤوك
ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا؛ لأن الله جعل ( عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً ) أي: أغطية لئلا يفهموا القرآن ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا )
أي: صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى: وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا
دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ] [البقرة: 171].
وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) أي: مهما
رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات،لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم
ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ [وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] [الأنفال: 23].
وقوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ ) أي يحاجونك ويناظرونك
في الحق بالباطل ( يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ
الأوَّلِينَ ) أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول
عنهم .
وقوله: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) وفي معنى (
يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قولان: أحدهما: أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع
الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينأون عنه أي: [ويبتعدون هم عنه،
فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون] ولا يتركون أحدًا ينتفع [ويتباعدون] قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد. وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني: رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن
عباس يقول في قوله: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: نـزلت في أبي طالب
كان ينهى [الناس] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار:
إنها نـزلت في أبي طالب. وقال سعيد بن أبي هلال : نـزلت في عمومة النبي،
صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد
الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي: ينهون الناس عن قتله.
[و] قوله: ( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) أي: يتباعدون منه ( وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) أي: وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون.
وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما
فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند
ذلك قالوا ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا،
ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين.
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
ثم قال: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) أي: من أعظم الأشياء [شهادة]
( قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي: هو العالم بما جئتكم
به، وما أنتم قائلون لي: ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي: وهو نذير لكل من بلغه، كما قال
تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو
خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: ( وَمَنْ بَلَغَ ) [قال] من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم -زاد أبو خالد: وكَلّمه.
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( لأنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ ) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "بلغوا عن الله،
فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله".
وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر كالذي أنذر.
وقوله: ( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ) [أي] أيها المشركون ( أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ ) كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام: 150]، ( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه
وصفته، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا: ( الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي: خسروا كل الخسارة، ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )
بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان
وحديثه.
ثم قال: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي: لا أظلم ممن تَقَوَّل
على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات
الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي:
لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) يوم
القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا
[لهم] ( أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) كما قال تعالى في سورة القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [ الآية: 62] .
وقوله: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) أي: حجتهم. وقال عطاء
الخراساني، عن ابن عباس: أي: معذرتهم. وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج، عن
ابن عباس: أي قيلهم. وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني: ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
وقال ابن جرير: والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن
عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن
عباس قال: أتاه رجل فقال يا أبا
عباس. سمعت الله يقول: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
قال: أما قوله: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فإنهم رأوا
أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا: تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم
الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في
قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نـزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نـزلت في المنافقين آية المجادلة: يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ]
[المجادلة: 18]، وهكذا قال في حق هؤلاء: ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) كَمَا قَالَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ] [غافر: 73، 74].
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) أي: يجيؤوك
ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا؛ لأن الله جعل ( عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً ) أي: أغطية لئلا يفهموا القرآن ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا )
أي: صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى: وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا
دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ] [البقرة: 171].
وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) أي: مهما
رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات،لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم
ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ [وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] [الأنفال: 23].
وقوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ ) أي يحاجونك ويناظرونك
في الحق بالباطل ( يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ
الأوَّلِينَ ) أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول
عنهم .
وقوله: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) وفي معنى (
يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قولان: أحدهما: أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع
الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينأون عنه أي: [ويبتعدون هم عنه،
فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون] ولا يتركون أحدًا ينتفع [ويتباعدون] قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد. وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني: رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن
عباس يقول في قوله: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: نـزلت في أبي طالب
كان ينهى [الناس] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار:
إنها نـزلت في أبي طالب. وقال سعيد بن أبي هلال : نـزلت في عمومة النبي،
صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد
الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي: ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي: ينهون الناس عن قتله.
[و] قوله: ( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) أي: يتباعدون منه ( وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) أي: وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون.
وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما
فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند
ذلك قالوا ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا،
ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين.
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع الجميل ..
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الأنعام
شكرا لك على المضووع المميز
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثالث والعشرون والاخير من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الرابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العشرون من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثالث والعشرون والاخير من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الرابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العشرون من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى