الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا
جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ
سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وقوله: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أي: ابتلينا
واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
غالب من اتبعه في أول البعثه، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد
والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قومُ نوح لنوح: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ الآية [هود: 27]، وكما قال هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [عن تلك] المسائل، فقال له: فهل اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل
والغرض: أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من
يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ بَيْنِنَا ) ؟ أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير -لو كان ما
صاروا إليه خيرا -ويدعنا، كما قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11]، وكما قال تعالى: وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا [مريم: 73].
قال الله تعالى في جواب ذلك: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا
[مريم: 74]، وقال في جوابهم حين قالوا: ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )
أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم
ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إليه صراطًا
مستقيما، كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرِمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ
الآية، قال: جاء عُتْبَة بن رَبيعة، وشَيْبَة بن ربيعة، ومُطعِم بن
عَدِيّ، والحارث بن نَوْفَل، وقَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من
بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن
أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم
في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله، عَزَّ وجل، هذه الآية: وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]
إلى قوله: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) قال: وكانوا
بلالا وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، ومن
الحلفاء: ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد
الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد -وأبو
مرثد من غنى حليف حمزة بن عبد المطلب -وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة
الكفر من قريش والموالي والحلفاء: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )
الآية. فلما نزلت، أقبل عمر، رضي الله عنه، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله،
عَزَّ وجل: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [فَقُلْ
سَلامٌ] ) الآية
وقوله: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبَشِّرهم برحمة الله
الواسعة الشاملة لهم؛ ولهذا قال: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ ) أي: أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا (
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ) قال بعض السلف: كل من
عصى الله، فهو جاهل.
وقال معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة في قوله: ( مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ) قال: الدنيا كلها جهالة. رواه ابن أبي حاتم.
( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ) أي: رجع عما كان عليه من
المعاصي، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل، ( فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ )
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر، عن همَّام بن منبه
قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما
قَضَى الله الخَلْقَ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". أخرجاه في الصحيحين وهكذا رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكذا رواه الليث وغيره، عن
محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
وقد روى ابن مَرْدُوَيه، من طريق الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ الله من القضاء بين
الخلق، أخرج كتابًا من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين،
فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا، مكتوب بين أعينهم. عُتَقَاء الله".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان
النَّهْدِي، عن سلمان في قوله: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ ) قال: إنا نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات
والأرض، وخلق مائة رحمة -أو: جعل مائة رحمة -قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق
الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال فبها
يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون وبها يتزاورون، وبها تحِنّ الناقة،
وبها تَثِجُّ البقرة، وبها تثغو الشاة، وبها تَتَابعُ الطير، وبها تَتَابع
الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما
عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]
ومما يناسب هذه الآية [الكريمة] من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا"، ثم قال: "أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم" وقد رواه الإمام أحمد، من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة [رضي الله عنه]
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ (59)
يقول تعالى: وكما بَيَّنَا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق
الهداية والرشاد، وذم المجادلة والعناد، ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )
أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ ) أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقرئ: (وليستبين سبيل المجرمين) أي: وليستبين يا محمد -أو يا مخاطب -سبيل المجرمين.
وقوله: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: على بصيرة من
شريعة الله التي أوحاها إلي ( وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ) أي: بالحق الذي جاءني
من [عند]
الله ( مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) أي: من العذاب، ( إِنِ
الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ) أي: إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عَجَّل
لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم؛ لما له في ذلك من الحكمة
العظيمة. ولهذا قال ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) أي: وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين
الحاكمين بين عباده.
وقوله: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ
الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي: لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي،
لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن
وَهْب، عن يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: "لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي
على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا
مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة
قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن
الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره
بما شئت فيهم". قال: "فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن
الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك
إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله،
لا يشرك به شيئا"، وهذا لفظ مسلم
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل
الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا، وبين قوله
تعالى في هذه الآية الكريمة: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) ؟
فالجواب -والله أعلم -: أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ
العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث، فليس فيه
أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق
عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا -فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم
وقوله: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ )
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن
شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا
فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]" .
وفي حديث عمر [رضي الله عنه]
أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان
والإحسان، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: "خمس لا
يعلمهن إلا الله "، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية [لقمان: 34].
وقوله: ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي: يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بَريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ:
وقوله: ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) أي: ويعلم
الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من
جنهم وإنسهم، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الرَّبيع، حدثنا أبو
الأحْوَص، عن سعيد بن مسروق، عن حسان النمري، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) قال: ما من شجرة في بر ولا بحر
إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.
وقوله: ( وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ
إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) قال محمد بن إسحاق، عن يحيي بن النضر، عن أبيه،
سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة
من الجن ما لو أنهم ظهروا -يعني لكم -لم تروا معهم نورًا، على كل زاوية من
زوايا الأرض
خاتم من خواتيم الله، عَزَّ وجل، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث
الله، عَزَّ وجل، إليه في كل يوم ملكا من عنده: أن احتفظ بما عندك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر
الزهري: حدثنا مالك بن سُعَيْر، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد
الله بن الحَارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها: رطوبتها إذا رطبت، ويَبَسها إذا يبست.
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير، به
ثم قال ابن أبي حاتم: ذُكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن رجل عن سعيد
بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: خلق الله النون -وهي الدواة -وخلق الألواح،
فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام،
أو عمل بر أو فجور وقرأ هذه الآية: ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) إلى آخر الآية.
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا
جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ
سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وقوله: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أي: ابتلينا
واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
غالب من اتبعه في أول البعثه، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد
والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قومُ نوح لنوح: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ الآية [هود: 27]، وكما قال هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [عن تلك] المسائل، فقال له: فهل اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل
والغرض: أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من
يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ بَيْنِنَا ) ؟ أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير -لو كان ما
صاروا إليه خيرا -ويدعنا، كما قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11]، وكما قال تعالى: وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا [مريم: 73].
قال الله تعالى في جواب ذلك: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا
[مريم: 74]، وقال في جوابهم حين قالوا: ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )
أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم
ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إليه صراطًا
مستقيما، كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرِمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ
الآية، قال: جاء عُتْبَة بن رَبيعة، وشَيْبَة بن ربيعة، ومُطعِم بن
عَدِيّ، والحارث بن نَوْفَل، وقَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من
بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن
أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم
في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله، عَزَّ وجل، هذه الآية: وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]
إلى قوله: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) قال: وكانوا
بلالا وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، ومن
الحلفاء: ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد
الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد -وأبو
مرثد من غنى حليف حمزة بن عبد المطلب -وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة
الكفر من قريش والموالي والحلفاء: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )
الآية. فلما نزلت، أقبل عمر، رضي الله عنه، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله،
عَزَّ وجل: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [فَقُلْ
سَلامٌ] ) الآية
وقوله: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبَشِّرهم برحمة الله
الواسعة الشاملة لهم؛ ولهذا قال: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ ) أي: أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا (
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ) قال بعض السلف: كل من
عصى الله، فهو جاهل.
وقال معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة في قوله: ( مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ) قال: الدنيا كلها جهالة. رواه ابن أبي حاتم.
( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ) أي: رجع عما كان عليه من
المعاصي، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل، ( فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ )
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر، عن همَّام بن منبه
قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما
قَضَى الله الخَلْقَ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". أخرجاه في الصحيحين وهكذا رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكذا رواه الليث وغيره، عن
محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
وقد روى ابن مَرْدُوَيه، من طريق الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ الله من القضاء بين
الخلق، أخرج كتابًا من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين،
فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا، مكتوب بين أعينهم. عُتَقَاء الله".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان
النَّهْدِي، عن سلمان في قوله: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ ) قال: إنا نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات
والأرض، وخلق مائة رحمة -أو: جعل مائة رحمة -قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق
الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال فبها
يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون وبها يتزاورون، وبها تحِنّ الناقة،
وبها تَثِجُّ البقرة، وبها تثغو الشاة، وبها تَتَابعُ الطير، وبها تَتَابع
الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما
عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]
ومما يناسب هذه الآية [الكريمة] من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا"، ثم قال: "أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم" وقد رواه الإمام أحمد، من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة [رضي الله عنه]
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ (59)
يقول تعالى: وكما بَيَّنَا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق
الهداية والرشاد، وذم المجادلة والعناد، ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )
أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ ) أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقرئ: (وليستبين سبيل المجرمين) أي: وليستبين يا محمد -أو يا مخاطب -سبيل المجرمين.
وقوله: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: على بصيرة من
شريعة الله التي أوحاها إلي ( وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ) أي: بالحق الذي جاءني
من [عند]
الله ( مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) أي: من العذاب، ( إِنِ
الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ) أي: إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عَجَّل
لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم؛ لما له في ذلك من الحكمة
العظيمة. ولهذا قال ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) أي: وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين
الحاكمين بين عباده.
وقوله: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ
الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي: لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي،
لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن
وَهْب، عن يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: "لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي
على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا
مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة
قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن
الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره
بما شئت فيهم". قال: "فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن
الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك
إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله،
لا يشرك به شيئا"، وهذا لفظ مسلم
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل
الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا، وبين قوله
تعالى في هذه الآية الكريمة: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) ؟
فالجواب -والله أعلم -: أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ
العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث، فليس فيه
أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق
عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا -فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم
وقوله: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ )
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن
شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا
فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]" .
وفي حديث عمر [رضي الله عنه]
أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان
والإحسان، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: "خمس لا
يعلمهن إلا الله "، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية [لقمان: 34].
وقوله: ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي: يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بَريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ:
فَــلا يَخْــفَى عليــه الـذَّر إمَّـا | تَـــرَاءىَ للنواظــر أو تَــوَارى |
الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من
جنهم وإنسهم، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الرَّبيع، حدثنا أبو
الأحْوَص، عن سعيد بن مسروق، عن حسان النمري، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) قال: ما من شجرة في بر ولا بحر
إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.
وقوله: ( وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ
إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) قال محمد بن إسحاق، عن يحيي بن النضر، عن أبيه،
سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة
من الجن ما لو أنهم ظهروا -يعني لكم -لم تروا معهم نورًا، على كل زاوية من
زوايا الأرض
خاتم من خواتيم الله، عَزَّ وجل، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث
الله، عَزَّ وجل، إليه في كل يوم ملكا من عنده: أن احتفظ بما عندك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر
الزهري: حدثنا مالك بن سُعَيْر، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد
الله بن الحَارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها: رطوبتها إذا رطبت، ويَبَسها إذا يبست.
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير، به
ثم قال ابن أبي حاتم: ذُكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن رجل عن سعيد
بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: خلق الله النون -وهي الدواة -وخلق الألواح،
فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام،
أو عمل بر أو فجور وقرأ هذه الآية: ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) إلى آخر الآية.
رد: الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع الجميل ..
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الرابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثاني من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الرابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثاني من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى