الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) قال
الله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ
أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) أي: هؤلاء الذين أخلصوا
العبادة لله وحده لا شريك، له، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة،
المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن شعبة، عن
سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت ( وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟
فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن
عَلْقَمَة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون! ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما هو الشرك"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع وابن إدريس، عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: ( وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس كما تظنون، إنما قال [لقمان] لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
وحدثنا عمر بن شَبَّةَ النمري، حدثنا أبو أحمد،
حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله عن النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال:
"بشرك".
قال: ورُوي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وأُبيّ بن كعب، وسلمان، وحذيفة،
وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِي،
ومجاهد، وعِكْرِمة، والنَّخَعِي، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي نحو ذلك.
وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا الشافعي، حدثنا محمد بن شَدَّاد
المِسْمَعِيّ، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم،
عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قيل لي: أنت منهم"
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جَناب، عن زاذان، عن
جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما برزنا
من المدينة، إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأن
هذا الراكب إياكم يريد". فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين أقبلت؟" قال: من أهلي وولدي
وعشيرتي. قال: "فأين تريد؟"، قال: أريدُ رسول الله. قال: "فقد أصبته". قال:
يا رسول الله، علمني ما الإيمان؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله، وأن
محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت".
قال: قد أقررت. قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جُرْذَان، فهوى بعيره
وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل". فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن
اليمان فأقعداه، فقالا يا رسول الله، قبض الرجل! قال: فأعرض عنهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما
رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة،
فعلمت أنه مات جائعا"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من الذين
قال الله، عَزَّ وجل: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ )
ثم قال: "دونكم أخاكم". قال: فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه،
وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شَفِير
القبر فقال: "الحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا"
ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء، عن ثابت،
عن زاذان، عن جرير بن عبد الله، فذكر نحوه، وقال فيه: "هذا ممن عَمل قليلا
وأجر كثيرًا"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مِهْران بن أبي عمر، حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير
ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لقد خرجت
من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي
طعام إلا من خَضِر الأرض، فاعْرِضْ عَلَيّ. فعرض عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقبل فازدحمنا حوله، فدخل خف بَكْره في بيت جُرْذَان، فتردى
الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق والذي
بعثني بالحق، لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي،
وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض، أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر
كثيرا هذا منهم! أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الأمن وهم مهتدون؟ فإن هذا منهم"
[وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث محمد بن معلى -وكان نزل الري -حدثنا زياد بن
خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر" وسكت، قالوا: يا
رسول الله ما له؟ قال " : ( أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )
]
وقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) أي: وجهنا حجته على قومه.
قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله: وَكَيْفَ
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]
وقد صدقه الله، وحكم له بالأمن والهداية فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ ) ثم قال بعد ذلك كله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ )
قرئ بالإضافة وبلا إضافة، كما في سورة يوسف، وكلاهما قريب في المعنى.
وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) أي: حكيم في أفعاله وأقواله (
عَلِيمٌ ) أي: بمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما
قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96، 97] ؛ ولهذا قال هاهنا:
( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )
وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ
قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ
يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا
بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن في السن، وأيس هو
وامرأته "سارة" من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط،
فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 72، 73]، وبشروه مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعَقِبا، كما قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112]، وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
[هود: 71] أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما
قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد
الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم
"يعقوب"، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم، عليه
السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة
الله في الأرض، فعوضه الله، عَزَّ وجل، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من
صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال [تعالى] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم: 49]، وقال هاهنا: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا )
وقوله: ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبله، هديناه كما
هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح، عليه
السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به -وهم الذين صحبوه
في السفينة -جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح، وكذلك
الخليل إبراهيم، عليه السلام، لم يبعث الله، عَزَّ وجل، بعده نبيا إلا من
ذريته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الآية [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26]، وقال تعالى: أُولَئِكَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58].
وقوله في هذه الآية الكريمة: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) أي: وهدينا من
ذريته ( دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) الآية، وعود الضمير إلى "نوح"؛ لأنه أقرب
المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إلى
"إبراهيم"؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك "لوط"،
فإنه ليس من ذرية "إبراهيم"، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر؛ اللهم إلا أن
يقال: إنه دخل في الذرية تغليبًا، كما في قوله تعالى: أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبا.
[وكما قال في قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ
[الحجر: 30، 31] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة؛
لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وكان من الجن
وطبيعتهم النار والملائكة من النور]
وفي ذكر "عيسى"، عليه السلام، في ذرية "إبراهيم" أو "نوح"، على القول
الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال؛ لأن "عيسى"، عليه السلام،
إنما ينسب إلى "إبراهيم"، عليه السلام، بأمه "مريم" عليها السلام، فإنه لا
أب له.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي بن عابس
عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج
إلى يحيى بن يَعْمُر فقال: بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية
النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره
فلم أجده؟ قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ ) حتى بلغ ( وَيَحْيَى وَعِيسَى ) ؟ قال: بلى، قال: أليس
عيسى من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد
البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه
لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي:
وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيه أيضا، لما ثبت في صحيح البخاري، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، ولعل
الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون: هذا تجوز.
وقوله: ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ) ذكر
أصولهم وفروعهم. وذوي طبقتهم، وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم؛ ولهذا
قال: ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
ثم قال: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ ) أي: إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم، ( وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) تشديد لأمر الشرك،
وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كما قال [تعالى] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية [الزمر: 65]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله [تعالى] قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: 81]، وكقوله لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 17] وكقوله لَوْ
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4].
وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ) أي: أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم، ولطفا منا
بالخليقة، ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا ) أي: بالنبوة. ويحتمل أن يكون الضمير
عائدا على هذه الأشياء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة.
وقوله: ( هَؤلاءِ ) يعني: أهل مكة. قاله ابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب،
والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي. ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم
من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوما (
آخَرِينَ ) يعني: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، ( لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ ) أي: لا يجحدون شيئا منها، ولا يردون منها حرفًا
واحدًا، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
وإحسانه.
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: ( أُولَئِكَ
) يعني: الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان
وهم الأشباه ( الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) أي: هم أهل الهداية لا غيرهم، (
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) أي: اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى
الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه [لهم] ويأمرهم به.
قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن
جريج أخبرهم قال: أخبرني سليمان الأحول، أن مجاهدا أخبره، أنه سأل ابن
عباس: أفي(ص) سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) إلى
قوله: ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) ثم قال: هو منهم -زاد يزيد بن هارون،
ومحمد بن عبيد، وسهل بن يوسف، عن العوام، عن مجاهد قال: قلت لابن عباس،
فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم
وقوله: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي: لا أطلب منكم على
إبلاغي إياكم هذا القرآن ( أَجْرًا ) أي: أجرة، ولا أريد منكم شيئا، (
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) أي: يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من
العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
الله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ
أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) أي: هؤلاء الذين أخلصوا
العبادة لله وحده لا شريك، له، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة،
المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن شعبة، عن
سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت ( وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟
فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن
عَلْقَمَة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون! ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما هو الشرك"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع وابن إدريس، عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: ( وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس كما تظنون، إنما قال [لقمان] لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
وحدثنا عمر بن شَبَّةَ النمري، حدثنا أبو أحمد،
حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله عن النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال:
"بشرك".
قال: ورُوي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وأُبيّ بن كعب، وسلمان، وحذيفة،
وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِي،
ومجاهد، وعِكْرِمة، والنَّخَعِي، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي نحو ذلك.
وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا الشافعي، حدثنا محمد بن شَدَّاد
المِسْمَعِيّ، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم،
عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قيل لي: أنت منهم"
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جَناب، عن زاذان، عن
جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما برزنا
من المدينة، إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأن
هذا الراكب إياكم يريد". فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين أقبلت؟" قال: من أهلي وولدي
وعشيرتي. قال: "فأين تريد؟"، قال: أريدُ رسول الله. قال: "فقد أصبته". قال:
يا رسول الله، علمني ما الإيمان؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله، وأن
محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت".
قال: قد أقررت. قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جُرْذَان، فهوى بعيره
وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل". فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن
اليمان فأقعداه، فقالا يا رسول الله، قبض الرجل! قال: فأعرض عنهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما
رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة،
فعلمت أنه مات جائعا"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من الذين
قال الله، عَزَّ وجل: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ )
ثم قال: "دونكم أخاكم". قال: فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه،
وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شَفِير
القبر فقال: "الحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا"
ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء، عن ثابت،
عن زاذان، عن جرير بن عبد الله، فذكر نحوه، وقال فيه: "هذا ممن عَمل قليلا
وأجر كثيرًا"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مِهْران بن أبي عمر، حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير
ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لقد خرجت
من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي
طعام إلا من خَضِر الأرض، فاعْرِضْ عَلَيّ. فعرض عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقبل فازدحمنا حوله، فدخل خف بَكْره في بيت جُرْذَان، فتردى
الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق والذي
بعثني بالحق، لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي،
وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض، أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر
كثيرا هذا منهم! أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الأمن وهم مهتدون؟ فإن هذا منهم"
[وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث محمد بن معلى -وكان نزل الري -حدثنا زياد بن
خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر" وسكت، قالوا: يا
رسول الله ما له؟ قال " : ( أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )
]
وقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) أي: وجهنا حجته على قومه.
قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله: وَكَيْفَ
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]
وقد صدقه الله، وحكم له بالأمن والهداية فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ ) ثم قال بعد ذلك كله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ )
قرئ بالإضافة وبلا إضافة، كما في سورة يوسف، وكلاهما قريب في المعنى.
وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) أي: حكيم في أفعاله وأقواله (
عَلِيمٌ ) أي: بمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما
قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96، 97] ؛ ولهذا قال هاهنا:
( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )
وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ
قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ
يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا
بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن في السن، وأيس هو
وامرأته "سارة" من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط،
فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 72، 73]، وبشروه مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعَقِبا، كما قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112]، وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
[هود: 71] أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما
قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد
الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم
"يعقوب"، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم، عليه
السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة
الله في الأرض، فعوضه الله، عَزَّ وجل، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من
صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال [تعالى] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم: 49]، وقال هاهنا: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا )
وقوله: ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبله، هديناه كما
هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح، عليه
السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به -وهم الذين صحبوه
في السفينة -جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح، وكذلك
الخليل إبراهيم، عليه السلام، لم يبعث الله، عَزَّ وجل، بعده نبيا إلا من
ذريته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الآية [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26]، وقال تعالى: أُولَئِكَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58].
وقوله في هذه الآية الكريمة: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) أي: وهدينا من
ذريته ( دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) الآية، وعود الضمير إلى "نوح"؛ لأنه أقرب
المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إلى
"إبراهيم"؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك "لوط"،
فإنه ليس من ذرية "إبراهيم"، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر؛ اللهم إلا أن
يقال: إنه دخل في الذرية تغليبًا، كما في قوله تعالى: أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبا.
[وكما قال في قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ
[الحجر: 30، 31] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة؛
لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وكان من الجن
وطبيعتهم النار والملائكة من النور]
وفي ذكر "عيسى"، عليه السلام، في ذرية "إبراهيم" أو "نوح"، على القول
الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال؛ لأن "عيسى"، عليه السلام،
إنما ينسب إلى "إبراهيم"، عليه السلام، بأمه "مريم" عليها السلام، فإنه لا
أب له.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي بن عابس
عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج
إلى يحيى بن يَعْمُر فقال: بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية
النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره
فلم أجده؟ قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ ) حتى بلغ ( وَيَحْيَى وَعِيسَى ) ؟ قال: بلى، قال: أليس
عيسى من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد
البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه
لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونـــا بنــو أبنائنــا وبناتنــا | بنوهـن أبنـاء الرجـال الأجـانب |
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، ولعل
الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون: هذا تجوز.
وقوله: ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ) ذكر
أصولهم وفروعهم. وذوي طبقتهم، وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم؛ ولهذا
قال: ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
ثم قال: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ ) أي: إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم، ( وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) تشديد لأمر الشرك،
وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كما قال [تعالى] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية [الزمر: 65]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله [تعالى] قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: 81]، وكقوله لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 17] وكقوله لَوْ
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4].
وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ) أي: أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم، ولطفا منا
بالخليقة، ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا ) أي: بالنبوة. ويحتمل أن يكون الضمير
عائدا على هذه الأشياء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة.
وقوله: ( هَؤلاءِ ) يعني: أهل مكة. قاله ابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب،
والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي. ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم
من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوما (
آخَرِينَ ) يعني: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، ( لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ ) أي: لا يجحدون شيئا منها، ولا يردون منها حرفًا
واحدًا، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
وإحسانه.
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: ( أُولَئِكَ
) يعني: الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان
وهم الأشباه ( الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) أي: هم أهل الهداية لا غيرهم، (
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) أي: اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى
الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه [لهم] ويأمرهم به.
قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن
جريج أخبرهم قال: أخبرني سليمان الأحول، أن مجاهدا أخبره، أنه سأل ابن
عباس: أفي(ص) سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) إلى
قوله: ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) ثم قال: هو منهم -زاد يزيد بن هارون،
ومحمد بن عبيد، وسهل بن يوسف، عن العوام، عن مجاهد قال: قلت لابن عباس،
فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم
وقوله: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي: لا أطلب منكم على
إبلاغي إياكم هذا القرآن ( أَجْرًا ) أي: أجرة، ولا أريد منكم شيئا، (
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) أي: يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من
العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
|
رد: الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى