الجزء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام
فَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
يقول تعالى: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلامِ ) أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامة على الخير،
كقوله تعالى: أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
[فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ] [الزمر : 22] ، وقال تعالى: وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات : 7] .
قال ابن عباس : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) يقول: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو
مالك، وغير واحد. وهو ظاهر.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مُرَّة، عن
أبي جعفر قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمنين أكيس؟ قال:
"أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادًا". قال: وسئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول
الله؟ قال: "نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح". قالوا: فهل لذلك من أمارة
يُعرف بها؟ قال: "الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور،
والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" .
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا قَبِيصَة، عن سفيان -يعني الثوري
-عن عمرو بن مُرَّة، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن، قال: سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: كان يسكن المدائن، ( فَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ] ) فذكر نحو ما تقدم .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن
الفرات القزاز، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإسْلامِ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الإيمان القلب
انفسح له القلب وانشرح قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال: "نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت".
وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر فذكره .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
عمرو بن قَيْس، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن المِسْوَر قال : تلا رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا: : يا رسول الله، ما هذا
الشرح؟ قال: "نور يقذف به في القلب". قالوا: يا رسول الله، فهل لذلك من
أمارة ؟ قال "نعم" قالوا: وما هي؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت" .
وقال ابن جرير أيضا: حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سَلمَة، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنَيْسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل النور القلب انفسح
وانشرح". قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: "الإنابة إلى دار
الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت" .
وقد رواه [ابن جرير]
من وجه آخر، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال: حدثني بن سِنان القزاز،
حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن
عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ )
قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشْرَح صدره؟ قال: "يدخل الجنة فينفسح". قالوا:
وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت" .
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضا، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] )
قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون: ( ضَيِّقًا )تشديد الياء وكسرها،
وهما لغتان: كَهَيْن وهَيّن. وقرأ بعضهم: ( حَرِجًا ) بفتح الحاء وكسر
الراء، قيل: بمعنى آثم. وقال
السُّدِّي. وقيل: بمعنى القراءة الأخرى ( حَرَجًا ) فتح الحاء والراء، وهو
الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا
ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج: ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر، رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .
وقال العَوْفي عن ابن عباس: يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : 78] ، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وقال مجاهد والسُّدِّي: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) شاكا. وقال عطاء
الخراساني: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ): ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن المبارك،
عن ابن جُرَيْج ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) : بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن
تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جُبَيْر: يجعل
صدره ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) قال: لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا.
وقال السُّدِّي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في
السماء. وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء،
فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الأوزاعي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في
شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول: فمثله في امتناعه من قبول
الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛
لأنه ليس في وسعه وطاقته.
وقال في قوله: ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ ) يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا، كذلك
يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه
ويصده عن سبيل الله .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الرجس: الشيطان. وقال مجاهد: الرجس: كل
ما لا خير فيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب.
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
لما ذكر تعالى طريقة الضالين عن سبيله، الصادين عنها، نبه على أشرف ما أرْسل به رسوله من الهدى ودين الحق
فقال: ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) منصوب على الحال، أي: هذا
الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن، وهو صراط الله
المستقيم، كما تقدم في حديث الحارث، عن علي [رضي الله عنه] في نعت القرآن: "هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم". رواه أحمد والترمذي بطوله .
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ) أي: [قد] وضحناها وبيناها وفسرناها، ( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أي: لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله.
( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ ) وهي: الجنة، ( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: يوم القيامة. وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام
لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم،
فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام.
( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ) أي: والسلام -وهو الله -وليهم، أي: حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: جزاء [على] أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة، بمنّه وكرمه.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ
النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
يقول تعالى: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به ( وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) يعني: الجن وأولياءهم ( مِنَ الإنْسِ ) الذين
كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض
زخرف القول غرورا. ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الإنْسِ ) أي: ثم يقول: يا معشر الجن. وسياق الكلام يدل على المحذوف.
ومعنى قوله: ( قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي: من إضلالهم وإغوائهم، كما قال [تعالى] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس : 60 -62] .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) يعني: أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد،
والحسن، وقتادة.
( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا
بِبَعْضٍ ) يعني: أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك
بهذا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة، حدثنا
عَوْف، عن الحسن في هذه الآية قال: استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة،
فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض. قال الحسن: وما كان
استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس.
وقال محمد بن كعب في قوله : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) قال : الصحابة في الدنيا.
وقال ابن جُرَيْج: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض، فيقول: "أعوذ بكبير هذا الوادي": فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة.
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان -فيما ذكر -ما ينال الجنّ من الإنس
من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن.
( وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) قال السدي: أي الموت.
قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ ) أي: مأواكم ومنـزلكم أنتم وأولياؤكم. (
خَالِدِينَ فِيهَا ) أي: ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله.
قال بعضهم: يرجع معنى [هذا] الاستثناء إلى البرزخ. وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا. وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [إن شاء الله] عند قوله تعالى في سورة هود: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [الآية : 107] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن
صالح -كاتب الليث-: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ
اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي
لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينـزلهم جنة ولا نارًا.
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قال سعيد، عن قتادة في تفسيرها: وإنما يولي الله
الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر
أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره ابن جرير.
وقال معمر، عن قتادة في تفسيرها: ( نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) في النار، يتبع بعضهم بعضا.
وقال مالك بن دينار: قرأت في الزبور: إني أنتقم من المنافقين
بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعا، وذلك في كتاب الله قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا )
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف : 36] ، قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد، من طريق سعيد بن
عبد الجبار الكرابيسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرِّ، عن ابن مسعود
مرفوعا: "من أعان ظالما سلطه الله عليه" .
وهذا حديث غريب، وقال بعض الشعراء:
ومعنى
الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي
أغْوَتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم
ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم
القيامة، حيث يسألهم -وهو أعلم -: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهامُ
تقرير: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ ) أي: من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما
[قد] نص على ذلك مجاهد، وابن جُرَيْج، وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.
وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُر.
وحكى ابن جرير، عن الضحاك بن مُزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج
بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست
بصريحة، وهي -والله أعلم -كقوله [تعالى] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ إلى أن قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن : 19 -22] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج من الملح لا من الحلو. وهذا واضح، ولله الحمد. وقد نص على هذا الجواب بعينه ابن جرير .
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [وَأَوْحَيْنَا ] إلى أن قال: رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [بَعْدَ الرُّسُلِ] [النساء : 163 -165] ، وقال تعالى عن إبراهيم: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
[العنكبوت : 27] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد
من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل [عليه السلام] ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان : 20] ، وقال [تعالى] : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف : 109] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا
يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ
لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ
لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف : 29 -32] .
وقد جاء في الحديث -الذي رواه الترمذي وغيره -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الآيتان : 31 ، 32] .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى
أَنْفُسِنَا ) أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن
هذا اليوم كائن لا محالة.
قال تعالى: ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي: وقد فرطوا في
حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به
من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ )
أي: يوم القيامة ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) أي: في الدنيا، بما
جاءتهم به الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين] .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
يقول تعالى: ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال
الرسل وإنـزال الكتب، لئلا يعاقب أحد بظلمه، وهو لم تبلغه دعوة، ولكن
أعذرنا إلى الأمم، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال
تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر : 24] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل : 36] ، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء : 15] ، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك : 8 ، 9] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: ( بِظُلْمٍ ) وجهين:
أحدهما: ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم غافلون، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ ينبههم على حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة : 19] .
والوجه الثاني: أن ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) يقول: لم يكن [ربك] ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده.
ثم شرع يرجح الوجه الأول، ولا شك أنه أقوى، والله أعلم .
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
يقول تعالى: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلامِ ) أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامة على الخير،
كقوله تعالى: أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
[فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ] [الزمر : 22] ، وقال تعالى: وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات : 7] .
قال ابن عباس : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) يقول: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو
مالك، وغير واحد. وهو ظاهر.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مُرَّة، عن
أبي جعفر قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمنين أكيس؟ قال:
"أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادًا". قال: وسئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول
الله؟ قال: "نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح". قالوا: فهل لذلك من أمارة
يُعرف بها؟ قال: "الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور،
والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" .
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا قَبِيصَة، عن سفيان -يعني الثوري
-عن عمرو بن مُرَّة، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن، قال: سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: كان يسكن المدائن، ( فَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ] ) فذكر نحو ما تقدم .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن
الفرات القزاز، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإسْلامِ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الإيمان القلب
انفسح له القلب وانشرح قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال: "نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت".
وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر فذكره .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
عمرو بن قَيْس، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن المِسْوَر قال : تلا رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا: : يا رسول الله، ما هذا
الشرح؟ قال: "نور يقذف به في القلب". قالوا: يا رسول الله، فهل لذلك من
أمارة ؟ قال "نعم" قالوا: وما هي؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت" .
وقال ابن جرير أيضا: حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سَلمَة، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنَيْسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل النور القلب انفسح
وانشرح". قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: "الإنابة إلى دار
الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت" .
وقد رواه [ابن جرير]
من وجه آخر، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال: حدثني بن سِنان القزاز،
حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن
عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ )
قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشْرَح صدره؟ قال: "يدخل الجنة فينفسح". قالوا:
وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت" .
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضا، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] )
قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون: ( ضَيِّقًا )تشديد الياء وكسرها،
وهما لغتان: كَهَيْن وهَيّن. وقرأ بعضهم: ( حَرِجًا ) بفتح الحاء وكسر
الراء، قيل: بمعنى آثم. وقال
السُّدِّي. وقيل: بمعنى القراءة الأخرى ( حَرَجًا ) فتح الحاء والراء، وهو
الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا
ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج: ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر، رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .
وقال العَوْفي عن ابن عباس: يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : 78] ، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وقال مجاهد والسُّدِّي: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) شاكا. وقال عطاء
الخراساني: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ): ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن المبارك،
عن ابن جُرَيْج ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) : بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن
تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جُبَيْر: يجعل
صدره ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) قال: لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا.
وقال السُّدِّي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في
السماء. وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء،
فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الأوزاعي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في
شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول: فمثله في امتناعه من قبول
الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛
لأنه ليس في وسعه وطاقته.
وقال في قوله: ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ ) يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا، كذلك
يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه
ويصده عن سبيل الله .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الرجس: الشيطان. وقال مجاهد: الرجس: كل
ما لا خير فيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب.
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
لما ذكر تعالى طريقة الضالين عن سبيله، الصادين عنها، نبه على أشرف ما أرْسل به رسوله من الهدى ودين الحق
فقال: ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) منصوب على الحال، أي: هذا
الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن، وهو صراط الله
المستقيم، كما تقدم في حديث الحارث، عن علي [رضي الله عنه] في نعت القرآن: "هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم". رواه أحمد والترمذي بطوله .
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ) أي: [قد] وضحناها وبيناها وفسرناها، ( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أي: لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله.
( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ ) وهي: الجنة، ( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: يوم القيامة. وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام
لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم،
فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام.
( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ) أي: والسلام -وهو الله -وليهم، أي: حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: جزاء [على] أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة، بمنّه وكرمه.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ
النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
يقول تعالى: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به ( وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) يعني: الجن وأولياءهم ( مِنَ الإنْسِ ) الذين
كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض
زخرف القول غرورا. ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الإنْسِ ) أي: ثم يقول: يا معشر الجن. وسياق الكلام يدل على المحذوف.
ومعنى قوله: ( قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي: من إضلالهم وإغوائهم، كما قال [تعالى] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس : 60 -62] .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) يعني: أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد،
والحسن، وقتادة.
( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا
بِبَعْضٍ ) يعني: أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك
بهذا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة، حدثنا
عَوْف، عن الحسن في هذه الآية قال: استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة،
فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض. قال الحسن: وما كان
استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس.
وقال محمد بن كعب في قوله : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) قال : الصحابة في الدنيا.
وقال ابن جُرَيْج: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض، فيقول: "أعوذ بكبير هذا الوادي": فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة.
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان -فيما ذكر -ما ينال الجنّ من الإنس
من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن.
( وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) قال السدي: أي الموت.
قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ ) أي: مأواكم ومنـزلكم أنتم وأولياؤكم. (
خَالِدِينَ فِيهَا ) أي: ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله.
قال بعضهم: يرجع معنى [هذا] الاستثناء إلى البرزخ. وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا. وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [إن شاء الله] عند قوله تعالى في سورة هود: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [الآية : 107] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن
صالح -كاتب الليث-: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ
اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي
لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينـزلهم جنة ولا نارًا.
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قال سعيد، عن قتادة في تفسيرها: وإنما يولي الله
الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر
أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره ابن جرير.
وقال معمر، عن قتادة في تفسيرها: ( نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) في النار، يتبع بعضهم بعضا.
وقال مالك بن دينار: قرأت في الزبور: إني أنتقم من المنافقين
بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعا، وذلك في كتاب الله قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا )
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف : 36] ، قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد، من طريق سعيد بن
عبد الجبار الكرابيسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرِّ، عن ابن مسعود
مرفوعا: "من أعان ظالما سلطه الله عليه" .
وهذا حديث غريب، وقال بعض الشعراء:
ومـا مِـن يَـد إلا يـدُ اللـه فوقهـا | ولا ظـــالـم إلا سَــيُبلـى بظــالـم |
الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي
أغْوَتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم
ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم
القيامة، حيث يسألهم -وهو أعلم -: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهامُ
تقرير: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ ) أي: من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما
[قد] نص على ذلك مجاهد، وابن جُرَيْج، وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.
وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُر.
وحكى ابن جرير، عن الضحاك بن مُزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج
بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست
بصريحة، وهي -والله أعلم -كقوله [تعالى] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ إلى أن قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن : 19 -22] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج من الملح لا من الحلو. وهذا واضح، ولله الحمد. وقد نص على هذا الجواب بعينه ابن جرير .
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [وَأَوْحَيْنَا ] إلى أن قال: رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [بَعْدَ الرُّسُلِ] [النساء : 163 -165] ، وقال تعالى عن إبراهيم: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
[العنكبوت : 27] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد
من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل [عليه السلام] ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان : 20] ، وقال [تعالى] : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف : 109] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا
يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ
لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ
لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف : 29 -32] .
وقد جاء في الحديث -الذي رواه الترمذي وغيره -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الآيتان : 31 ، 32] .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى
أَنْفُسِنَا ) أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن
هذا اليوم كائن لا محالة.
قال تعالى: ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي: وقد فرطوا في
حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به
من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ )
أي: يوم القيامة ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) أي: في الدنيا، بما
جاءتهم به الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين] .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
يقول تعالى: ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال
الرسل وإنـزال الكتب، لئلا يعاقب أحد بظلمه، وهو لم تبلغه دعوة، ولكن
أعذرنا إلى الأمم، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال
تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر : 24] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل : 36] ، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء : 15] ، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك : 8 ، 9] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: ( بِظُلْمٍ ) وجهين:
أحدهما: ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم غافلون، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ ينبههم على حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة : 19] .
والوجه الثاني: أن ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) يقول: لم يكن [ربك] ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده.
ثم شرع يرجح الوجه الأول، ولا شك أنه أقوى، والله أعلم .
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى