الجزء الثامن عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثامن عشر من تفسير سورة الأنعام
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
وقال: وقوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) أي: ولكل عامل في
طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها،
إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
قلت: ويحتمل أن يعود قوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) [أي] من كافري الجن والإنس، أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله [تعالى] قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف : 38] ، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل : 88] .
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) قال ابن جرير: أي وكل
ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم
عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
وَرَبُّكَ
الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ
بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ
آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ
يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (135)
يقول [تعالى]
( وَرَبُّكَ ) يا محمد ( الْغَنِيُّ ) أي: عن جميع خلقه من جميع الوجوه،
وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي: وهو مع ذلك
رحيم بهم رؤوف، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة : 143] .
( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) أي: إذا خالفتم أمره ( وَيَسْتَخْلِفْ
مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) أي: قوما آخرين، أي: يعملون بطاعته
، ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) أي: هو قادر
على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء : 133] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر : 15 -17] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ
الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد : 38] .
وقال محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية: ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الذرية: الأصل، والذرية: النسل.
وقوله تعالى: ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون
به من أمر المعاد كائن لا محالة، ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:
ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا
هو قادر لا يعجزه شيء.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا
محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد
الخدُرْي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني
آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون
لآت وما أنتم بمعجزين" .
وقوله تعالى: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي: استمروا
على طريقكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقي ومنهجي، كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود : 121 ، 122] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: ناحيتكم.
( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ
لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي: أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له،
صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من
العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر
أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم
فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه، رضي الله عنهم
أجمعين، كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : 21] ، وقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر : 51 ، 52] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] ، وقال تعالى إخبارًا عن رسله: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم : 13، 14] ، وقال تعالى: وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [النور : 55] ، وقد فعل الله [تعالى] ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا .
وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا،
وجعلوا لله جزءًا من خلقه، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون؛
ولهذا قال تعالى: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ) أي: مما خلق وبرأ (
مِنَ الْحَرْثِ ) أي: من الزروع والثمار ( وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) أي:
جزءا وقسما، ( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا )
وقوله: ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة،
والعَوْفي، عن ابن عباس؛ أنه قال في
تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة،
جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب
الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما
جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا
ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله، فاختلط بالذي
جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم
الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من
أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم
يحرمونه لله، فقال الله عز وجل ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) الآية.
وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وغير واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره: كل شيء جعلوه لله من ذبْح
يذبحونه، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم
يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:
ساء ما يقسمون، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء
ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا
إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي
فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل : 57] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف : 15] ، وقال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم : 21 ، 22] .
وَكَذَلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم: زينوا لهم قتل أولادهم.
وقال مجاهد: ( شُرَكَاؤُهُمْ ) شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم
خشية العَيْلة. وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما (
لِيُرْدُوهُمْ ) فيهلكوهم، وإما ( لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) أي:
فيخلطون عليهم دينهم.
ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كقوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى
مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ
أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ] [النحل : 58 ، 59] ، وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير : 8 ، 9] . وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو: الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال وقد نهاهم [الله] عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.
قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) أي: كل هذا واقع
بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا
يسأل عما يفعل وهم يُسألون. ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي: فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.
وقال: وقوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) أي: ولكل عامل في
طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها،
إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
قلت: ويحتمل أن يعود قوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) [أي] من كافري الجن والإنس، أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله [تعالى] قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف : 38] ، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل : 88] .
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) قال ابن جرير: أي وكل
ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم
عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
وَرَبُّكَ
الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ
بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ
آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ
يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (135)
يقول [تعالى]
( وَرَبُّكَ ) يا محمد ( الْغَنِيُّ ) أي: عن جميع خلقه من جميع الوجوه،
وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي: وهو مع ذلك
رحيم بهم رؤوف، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة : 143] .
( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) أي: إذا خالفتم أمره ( وَيَسْتَخْلِفْ
مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) أي: قوما آخرين، أي: يعملون بطاعته
، ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) أي: هو قادر
على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء : 133] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر : 15 -17] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ
الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد : 38] .
وقال محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية: ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الذرية: الأصل، والذرية: النسل.
وقوله تعالى: ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون
به من أمر المعاد كائن لا محالة، ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:
ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا
هو قادر لا يعجزه شيء.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا
محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد
الخدُرْي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني
آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون
لآت وما أنتم بمعجزين" .
وقوله تعالى: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي: استمروا
على طريقكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقي ومنهجي، كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود : 121 ، 122] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: ناحيتكم.
( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ
لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي: أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له،
صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من
العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر
أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم
فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه، رضي الله عنهم
أجمعين، كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : 21] ، وقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر : 51 ، 52] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] ، وقال تعالى إخبارًا عن رسله: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم : 13، 14] ، وقال تعالى: وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [النور : 55] ، وقد فعل الله [تعالى] ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا .
وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا،
وجعلوا لله جزءًا من خلقه، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون؛
ولهذا قال تعالى: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ) أي: مما خلق وبرأ (
مِنَ الْحَرْثِ ) أي: من الزروع والثمار ( وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) أي:
جزءا وقسما، ( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا )
وقوله: ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة،
والعَوْفي، عن ابن عباس؛ أنه قال في
تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة،
جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب
الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما
جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا
ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله، فاختلط بالذي
جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم
الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من
أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم
يحرمونه لله، فقال الله عز وجل ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) الآية.
وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وغير واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره: كل شيء جعلوه لله من ذبْح
يذبحونه، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم
يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:
ساء ما يقسمون، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء
ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا
إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي
فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل : 57] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف : 15] ، وقال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم : 21 ، 22] .
وَكَذَلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم: زينوا لهم قتل أولادهم.
وقال مجاهد: ( شُرَكَاؤُهُمْ ) شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم
خشية العَيْلة. وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما (
لِيُرْدُوهُمْ ) فيهلكوهم، وإما ( لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) أي:
فيخلطون عليهم دينهم.
ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كقوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى
مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ
أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ] [النحل : 58 ، 59] ، وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير : 8 ، 9] . وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو: الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال وقد نهاهم [الله] عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.
قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) أي: كل هذا واقع
بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا
يسأل عما يفعل وهم يُسألون. ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي: فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.
رد: الجزء الثامن عشر من تفسير سورة الأنعام
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثامن عشر من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى