الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا فنـزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا [الإسراء: 92] قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124]، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].
( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ) أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، (
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) -قرأ بعضهم: "قِبَلا" بكسر
القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون [وقبلا] بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: ( قُبُلا ) أفواجًا، قبيلا قبيلا أي: تعرض عليهم كل أمة بعد أمة
فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ ) أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من
يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته،
وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس: 96، 97].
وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
يقول تعالى: وكما جعلنا لك -يا محمد -أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [آل عمران: 184]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا] [الأنعام: 34]، وقال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 31]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا] [الفرقان: 43].
وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنه] لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي
وقوله: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) بدل من ( عَدُوًّا ) أي: لهم
أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله [تعالى]
( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال: من الجن شياطين، ومن الإنس
شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن". فقال: أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم".
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال ابن جرير:
حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن
عائذ، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال
فيه الجلوس، قال، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟". قال: لا يا رسول الله. قال:
"قم فاركع ركعتين". قال: ثم جئت فجلستُ إليه، فقال: "يا أبا ذر، هل تعوذت
بالله من شياطين الجن والإنس؟". قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من
شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن".
وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو
عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال: "يا أبا ذر هل صليت؟" . قلت: لا.
قال: "قم فصل". قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: "يا أبا ذر، تعوذ بالله من
شر شياطين الإنس والجن". قال: قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال:
"نعم". وذكر تمام الحديث بطوله.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن
عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به
طريق أخرى عن أبي ذر: قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا
حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر
شياطين الإنس والجن؟". قال: قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال:
"نعم"
طريق أخرى للحديث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟". قال: يا رسول الله، وهل للإنس [من] شياطين؟ قال: "نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا"
فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.
وقد روي ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن
سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال:
ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين
الإنس يوحون إلى شياطين الجن.
قال: وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن
عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورًا ) قال: للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ ) في تفسير هذه الآية: أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل
الإنس
وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني
أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.
ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي: الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه
شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام
السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو
هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل
شياطين الإنس يضلونهم، قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من
حديث أبي ذر: إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في
صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكلب الأسود
شيطان" ومعناه -والله أعلم -: شيطان في الكلاب.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.
وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنـزلني حتى كاد
يتعاهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال:
فخرجت، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله
تعالى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3]، وقال [الله]
تعالى: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال: فهموا بي أن يأخذوني، فقلت: ما لكم
ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.
وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار -وهو ابن أبي عبيد -قبحه الله، وكان
يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من
الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال:
صدق، [قال] الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
[الأنعام: 121]، وقوله تعالى: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو
المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.
( فَذَرْهُمْ ) أي: فدعهم، ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي: يكذبون، أي: دع
أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
وقوله تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي: ولتميل إليه -قاله ابن عباس
-( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي: قلوبهم وعقولهم
وأسماعهم.
وقال السُّدِّي: قلوب الكافرين، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) أي: يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 161 -163]، وقال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8، 9].
وقال السُّدِّي، وابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون.
أَفَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
يقول [الله]
تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين بالله الذين
يعبدون غيره: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) أي: بيني وبينكم، (
وَهُوَ الَّذِي أَنـزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا ) أي: مبينا، (
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) أي: من اليهود والنصارى، (
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنـزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ، أي: بما عندهم من
البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ ) كقوله فَإِنْ
كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس: 94]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أشك ولا أسأل".
وقوله: ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ) قال قتادة: صدقا فيما قال وعدلا فيما حكم.
يقول: صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة، كما قال: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ] إلى آخر الآية [الأعراف: 157].
( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) أي: ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في
الدنيا ولا في الآخرة، ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأقوال عباده، ( الْعَلِيمُ )
بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات: 71]، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
[يوسف: 103]، وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم في ظنون
كاذبة وحسبان باطل، ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا
يَخْرُصُونَ ) فإن الخرص هو الحزر، ومنه خرص النخل، وهو حَزْرُ ما عليها من
التمر وكذلك كله قدر الله ومشيئته، و ( هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ
سَبِيلِهِ ) فييسره لذلك ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) فييسرهم
لذلك، وكل ميسر لما خلق له.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
هذا إباحة من الله [تعالى] لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه: أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار المشركين من أكل الميتات، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها. ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال:
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا فنـزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا [الإسراء: 92] قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124]، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].
( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ) أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، (
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) -قرأ بعضهم: "قِبَلا" بكسر
القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون [وقبلا] بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: ( قُبُلا ) أفواجًا، قبيلا قبيلا أي: تعرض عليهم كل أمة بعد أمة
فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ ) أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من
يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته،
وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس: 96، 97].
وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
يقول تعالى: وكما جعلنا لك -يا محمد -أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [آل عمران: 184]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا] [الأنعام: 34]، وقال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 31]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا] [الفرقان: 43].
وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنه] لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي
وقوله: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) بدل من ( عَدُوًّا ) أي: لهم
أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله [تعالى]
( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال: من الجن شياطين، ومن الإنس
شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن". فقال: أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم".
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال ابن جرير:
حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن
عائذ، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال
فيه الجلوس، قال، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟". قال: لا يا رسول الله. قال:
"قم فاركع ركعتين". قال: ثم جئت فجلستُ إليه، فقال: "يا أبا ذر، هل تعوذت
بالله من شياطين الجن والإنس؟". قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من
شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن".
وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو
عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال: "يا أبا ذر هل صليت؟" . قلت: لا.
قال: "قم فصل". قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: "يا أبا ذر، تعوذ بالله من
شر شياطين الإنس والجن". قال: قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال:
"نعم". وذكر تمام الحديث بطوله.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن
عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به
طريق أخرى عن أبي ذر: قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا
حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر
شياطين الإنس والجن؟". قال: قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال:
"نعم"
طريق أخرى للحديث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟". قال: يا رسول الله، وهل للإنس [من] شياطين؟ قال: "نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا"
فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.
وقد روي ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن
سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال:
ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين
الإنس يوحون إلى شياطين الجن.
قال: وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن
عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورًا ) قال: للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ ) في تفسير هذه الآية: أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل
الإنس
وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني
أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.
ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي: الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه
شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام
السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو
هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل
شياطين الإنس يضلونهم، قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من
حديث أبي ذر: إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في
صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكلب الأسود
شيطان" ومعناه -والله أعلم -: شيطان في الكلاب.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.
وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنـزلني حتى كاد
يتعاهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال:
فخرجت، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله
تعالى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3]، وقال [الله]
تعالى: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال: فهموا بي أن يأخذوني، فقلت: ما لكم
ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.
وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار -وهو ابن أبي عبيد -قبحه الله، وكان
يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من
الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال:
صدق، [قال] الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
[الأنعام: 121]، وقوله تعالى: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو
المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.
( فَذَرْهُمْ ) أي: فدعهم، ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي: يكذبون، أي: دع
أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
وقوله تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي: ولتميل إليه -قاله ابن عباس
-( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي: قلوبهم وعقولهم
وأسماعهم.
وقال السُّدِّي: قلوب الكافرين، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) أي: يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 161 -163]، وقال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8، 9].
وقال السُّدِّي، وابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون.
أَفَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
يقول [الله]
تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين بالله الذين
يعبدون غيره: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) أي: بيني وبينكم، (
وَهُوَ الَّذِي أَنـزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا ) أي: مبينا، (
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) أي: من اليهود والنصارى، (
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنـزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ، أي: بما عندهم من
البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ ) كقوله فَإِنْ
كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس: 94]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أشك ولا أسأل".
وقوله: ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ) قال قتادة: صدقا فيما قال وعدلا فيما حكم.
يقول: صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة، كما قال: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ] إلى آخر الآية [الأعراف: 157].
( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) أي: ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في
الدنيا ولا في الآخرة، ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأقوال عباده، ( الْعَلِيمُ )
بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات: 71]، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
[يوسف: 103]، وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم في ظنون
كاذبة وحسبان باطل، ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا
يَخْرُصُونَ ) فإن الخرص هو الحزر، ومنه خرص النخل، وهو حَزْرُ ما عليها من
التمر وكذلك كله قدر الله ومشيئته، و ( هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ
سَبِيلِهِ ) فييسره لذلك ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) فييسرهم
لذلك، وكل ميسر لما خلق له.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
هذا إباحة من الله [تعالى] لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه: أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار المشركين من أكل الميتات، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها. ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال:
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنعام
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنعام
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأنعام
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى