الجزء الرابع عشر من تفسير سورة الأعراف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الاعراف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع عشر من تفسير سورة الأعراف
حَقِيقٌ
عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) .
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) فقال
بعضهم: معناه: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: جدير بذلك وحري به.
وقالوا و"الباء" و"على" يتعاقبان، فيقال رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جاء على حال حسنة" و "بحال حسنة".
وقال بعض المفسرين: معناه: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
وقرأ آخرون من أهل المدينة: ( حَقِيقٌ عَلَيّ ) بمعنى: واجب وحق عَلَيّ
ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.
( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما
جئتكم به، ( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: أطلقهم من أسْرك
وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو:
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [عليهم صلوات الرحمن]
( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ ) أي: قال فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما
طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقًا فيما ادعيت.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) الحية الذكر. وكذا قال السدي، والضحاك.
وفي حديث "الفُتُون"، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن
سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال ( فَأَلْقَى عَصَاهُ ) فتحولت حية عظيمة
فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن
سريره، واستغاث بموسى أن يكفها [عنه] ففعل.
وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة.
وقال السدي في قوله: ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) والثعبان:
الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لِحْيها، الأسفل في الأرض، والآخر على
سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه. فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث،
ولم يكن يُحْدث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني
إسرائيل. فأخذها موسى، عليه السلام، فعادت عصا.
وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم، قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا
[الشعراء:18] ؟ قال: فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون: خذوه، فبادره
موسى ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) فحملت على
الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام
فرعون منهزما حتى دخل البيت.
رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد"، وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.
وقوله: ( وَنـزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) أي:
نـزع يده: أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير
بَرَص ولا مرض، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل:12]
وقال ابن عباس في حديث الفتون: [أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء] مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
أي: قال الملأ -وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون -موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه رَوْعه، واستقر على سرير مملكته
بعد ذلك، قال للملأ حوله -: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) فوافقوه
وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم
في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائهم، وتخوفوا من [معرفته] أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6] فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى:
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قال ابن عباس: ( أَرْجِهِ ) أخّره. وقال قتادة: احبسهُ. ( وَأَرْسِلْ )
أي: ابعث ( فِي الْمَدَائِنِ ) أي: في الأقاليم ومعاملة ملكك، ( حَاشِرِينَ
) أي: من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم،
وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء موسى، عليه السلام، من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:57-60] وقال تعالى هاهنا:
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى، عليه السلام: إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، ويجعلنهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله:
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه السلام، في قولهم: ( إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) أي: قَبْلك. كما قال
في الآية الأخرى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى
[طه:65] فقال لهم موسى، عليه السلام: ( أَلْقُوا ) أي: أنتم أولا قبلي.
والحكمة في هذا -والله أعلم -ليري الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فُرغ من
بهرجهم
ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه،
فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) أي: خيلوا إلى الأبصار أن
ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال
تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66 : 69] .
قال سفيان بن عُيَيْنَة: حدثنا أبو سعيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:
ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا. قال: فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها
تسعى.
وقال محمد بن إسحاق: صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه،
وخرج موسى، عليه السلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في
مجلسه معه أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
[طه:65 ، 66] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار
الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وقال السُّدِّي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل
وعصا، ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) يقول: فَرَقوهم أي: من الفرَق.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام
الدَّستَوَائي، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال: جمع فرعون سبعين ألف
ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم
أنها تسعى ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ )
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى، عليه السلام، في ذلك الموقف
العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في
يمينه وهي عصاه، ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ) أي: تأكل ( مَا يَأْفِكُونَ )
أي: ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) .
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) فقال
بعضهم: معناه: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: جدير بذلك وحري به.
وقالوا و"الباء" و"على" يتعاقبان، فيقال رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جاء على حال حسنة" و "بحال حسنة".
وقال بعض المفسرين: معناه: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
وقرأ آخرون من أهل المدينة: ( حَقِيقٌ عَلَيّ ) بمعنى: واجب وحق عَلَيّ
ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.
( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما
جئتكم به، ( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: أطلقهم من أسْرك
وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو:
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [عليهم صلوات الرحمن]
( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ ) أي: قال فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما
طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقًا فيما ادعيت.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) الحية الذكر. وكذا قال السدي، والضحاك.
وفي حديث "الفُتُون"، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن
سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال ( فَأَلْقَى عَصَاهُ ) فتحولت حية عظيمة
فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن
سريره، واستغاث بموسى أن يكفها [عنه] ففعل.
وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة.
وقال السدي في قوله: ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) والثعبان:
الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لِحْيها، الأسفل في الأرض، والآخر على
سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه. فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث،
ولم يكن يُحْدث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني
إسرائيل. فأخذها موسى، عليه السلام، فعادت عصا.
وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم، قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا
[الشعراء:18] ؟ قال: فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون: خذوه، فبادره
موسى ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) فحملت على
الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام
فرعون منهزما حتى دخل البيت.
رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد"، وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.
وقوله: ( وَنـزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) أي:
نـزع يده: أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير
بَرَص ولا مرض، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل:12]
وقال ابن عباس في حديث الفتون: [أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء] مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
أي: قال الملأ -وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون -موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه رَوْعه، واستقر على سرير مملكته
بعد ذلك، قال للملأ حوله -: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) فوافقوه
وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم
في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائهم، وتخوفوا من [معرفته] أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6] فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى:
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قال ابن عباس: ( أَرْجِهِ ) أخّره. وقال قتادة: احبسهُ. ( وَأَرْسِلْ )
أي: ابعث ( فِي الْمَدَائِنِ ) أي: في الأقاليم ومعاملة ملكك، ( حَاشِرِينَ
) أي: من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم،
وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء موسى، عليه السلام، من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:57-60] وقال تعالى هاهنا:
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى، عليه السلام: إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، ويجعلنهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله:
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه السلام، في قولهم: ( إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) أي: قَبْلك. كما قال
في الآية الأخرى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى
[طه:65] فقال لهم موسى، عليه السلام: ( أَلْقُوا ) أي: أنتم أولا قبلي.
والحكمة في هذا -والله أعلم -ليري الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فُرغ من
بهرجهم
ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه،
فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) أي: خيلوا إلى الأبصار أن
ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال
تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66 : 69] .
قال سفيان بن عُيَيْنَة: حدثنا أبو سعيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:
ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا. قال: فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها
تسعى.
وقال محمد بن إسحاق: صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه،
وخرج موسى، عليه السلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في
مجلسه معه أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
[طه:65 ، 66] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار
الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وقال السُّدِّي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل
وعصا، ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) يقول: فَرَقوهم أي: من الفرَق.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام
الدَّستَوَائي، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال: جمع فرعون سبعين ألف
ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم
أنها تسعى ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ )
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى، عليه السلام، في ذلك الموقف
العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في
يمينه وهي عصاه، ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ) أي: تأكل ( مَا يَأْفِكُونَ )
أي: ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
رد: الجزء الرابع عشر من تفسير سورة الأعراف
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع عشر من تفسير سورة الأعراف
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الثالث من تفسير سورة الأعراف
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الثالث من تفسير سورة الأعراف
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الاعراف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى