الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الاعراف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
وَاكْتُبْ
لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) (
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) هناك
الفصل الأول من الدعاء في دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود ( وَاكْتُبْ
لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) أي: أوجب لنا
وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم [تفسير] ذلك في سورة البقرة. [الآية:201]
( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي: تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن
عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي،
والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ عن علي [رضي الله عنه] قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: ( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ )
جابر -هو ابن يزيد الجُعْفي -ضعيف.
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] الآية: ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] ) أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) آية عظيمة الشمول
والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7]
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي
عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب -هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله
عنه -قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق
عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا
أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقولون هذا أضل أم بعيره؟
ألم تسمعوا ما قال؟" قالوا: بلى. قال: "لقد حَظَرْت رحمةً واسعة؛ إن الله، عز وجل، خلق مائة رحمة، فأنـزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة
يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى
يوم القيامة".
تفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان -هو ابن طِرْخان -وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرحمن بن مل -عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه". تفرد به أحمد من هذا الوجه
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله مائة رحمة، فقسم
منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير".
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة،
حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي
سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة
الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد
مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة
يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه".
هذا حديث غريب جدا، "وسعد" هذا لا أعرفه
وقوله: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية، يعني: فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]
وقوله: ( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) أي: سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات،
وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي: الشرك والعظائم من
الذنوب.
( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قيل: زكاة النفوس. وقيل: [زكاة] الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية ( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) أي: يصدقون.
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ ) وهذه
صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من
الأعراب، قال: جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما فرغت من بيعتي
قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون،
فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها،
يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنـزل التوراة، هل تجد
في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟" فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه، إي:
والذي أنـزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله
إلا الله، وأنك رسول الله فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم". ثم ولى كفنه والصلاة عليه
هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس.
وقال الحاكم صاحب المستدرك: أخبرنا أبو محمد -عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي
حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن
شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال:
بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى
قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنـزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا
عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا
نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت ألا أنـزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا
صلى الله عليه وسلم. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون
بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا
رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي
معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين
وبغال؟ قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك.
فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة
فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر
فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح،
فأرسل
إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا
عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما
حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو
حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام،
فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل
لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك. قال:
وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها. قال: فما
أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله
يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي
قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟
قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم
تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها
تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم
وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنـزل حسن ونـزل كَثير،
فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء
كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا
وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل
ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا
له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم،
عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا
له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل
تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج
حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل
الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا
إبراهيم، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم،
إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر
البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى
عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض
الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن
عمران، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم
سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط،
عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض
مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا. قال هذا إسحاق، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. [قال] هذا يعقوب، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن
الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب
إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم،
عليهما السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج
حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم
البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود،
عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج
حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا،
فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء،
عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال: إن آدم، عليه
السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنـزل عليه صورهم، فكان في
خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب
الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي،
وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا،
فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال
لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد الله به خيرًا
لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت
محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب "دلائل النبوة"، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن
هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن
صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف
في التوراة كصفته في القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا
ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا
غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح،
ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله
ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا" قال عطاء: ثم لقيت
كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: "قلوبًا
غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".
وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي -فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله: "ليس بفظ ولا غليظ": "ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق "التوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي
حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعم -قال: حدثتني أم عثمان
بنت سعيد -وهي جدتي -عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن
جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى
الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت: نعم. قال:
هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة
النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال:
فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منـزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة
النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم،
قلت: من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال: إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي
إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر،
رضي الله عنه
وقال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير
حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق
العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته،
فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك
قَرْنا. قال: فرفع عمر الدرة وقال
قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمير شديد. قال: فكيف تجد الذي بعدي؟ قال: أجد
خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال:
كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال:
يا دفراه، يا دَفْراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه
يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق
وقوله تعالى ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كان حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله [تعالى] به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
[النحل:36] وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر -هو العقدي عبد الملك بن
عمرو -حدثنا سليمان -هو ابن بلال -عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد
الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي الله
عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه
قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به.
وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون
أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه"
هذا [حديث] جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [الستة]
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن
أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، [والذي هو أنجي] والذي هو أتقى
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري،
عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه
وقوله: ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ ) أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر،
والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم،
ويحرم عليهم الخبائث.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنـزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.
وقال بعض العلماء: كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.
وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم
ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا
في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه كلام طويل أيضا.
وقوله: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ ) أي: إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة". وقال
لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما
بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا
تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وشهدت تيسيره.
وقد كانت الأمم الذين
كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها،
وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي
ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل" وقال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت
وقوله: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) أي:
عظموه ووقروه، ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنـزلَ مَعَهُ ) أي:
القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، ( أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( قُلْ ) يا محمد: (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، (
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) أي: جميعكم، وهذا من شرفه
وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17] وقال تعالى: وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ
[آل عمران:20] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن
تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول
الله إلى الناس كلهم.
قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله، حدثنا
سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد
الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بسر
ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله
عنه، يقول: كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر
عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل
حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
-فقال أبو الدرداء: ونحن عنده -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما صاحبكم هذا فقد غامر" -أي: غاضب
وحاقد -قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر -قال أبو
الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا
رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم
تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم:
كذبت وقال أبو بكر: صدقت". انفرد به البخاري
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس [رضي الله عنه]
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي
-ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب
مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا" إسناده جيد، ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي
الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد
وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك،
إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل؛ فإن
كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله
إلا الله" إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة"
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس -وهو سليم بن جبير -عن أبي هريرة، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه
الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من
أصحاب النار" . تفرد به أحمد
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا"
وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم
يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم
تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة"
وقوله: ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) صفة الله تعالى، في قوله ( رَسُولُ اللَّهِ ) أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.
وقوله: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ )
أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، ( النَّبِيِّ
الأمِّيِّ ) أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت
بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: ( النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ) أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنـزل إليه من
ربه ( وَاتَّبِعُوهُ ) أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، ( لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ ) أي: إلى الصراط المستقيم.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، وقال تعالى: وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] [القصص:52-54] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الآية [البقرة:121]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، حدثنا
الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: بلغني أن بني إسرائيل لما
قتلوا أنبياءهم، وكفروا -وكانوا اثني عشر سبطا -تبرأ سبط منهم مما صنعوا،
واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا
في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين
يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] و وَعْدُ الآخِرَةِ : عيسى ابن مريم -قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: ( وَمِنْ قَوْمِ
مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: قوم بينكم
وبينهم نهر من شُهْد
لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) (
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) هناك
الفصل الأول من الدعاء في دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود ( وَاكْتُبْ
لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) أي: أوجب لنا
وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم [تفسير] ذلك في سورة البقرة. [الآية:201]
( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي: تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن
عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي،
والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ عن علي [رضي الله عنه] قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: ( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ )
جابر -هو ابن يزيد الجُعْفي -ضعيف.
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] الآية: ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] ) أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) آية عظيمة الشمول
والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7]
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي
عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب -هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله
عنه -قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق
عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا
أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقولون هذا أضل أم بعيره؟
ألم تسمعوا ما قال؟" قالوا: بلى. قال: "لقد حَظَرْت رحمةً واسعة؛ إن الله، عز وجل، خلق مائة رحمة، فأنـزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة
يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى
يوم القيامة".
تفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان -هو ابن طِرْخان -وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرحمن بن مل -عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه". تفرد به أحمد من هذا الوجه
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله مائة رحمة، فقسم
منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير".
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة،
حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي
سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة
الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد
مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة
يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه".
هذا حديث غريب جدا، "وسعد" هذا لا أعرفه
وقوله: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية، يعني: فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]
وقوله: ( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) أي: سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات،
وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي: الشرك والعظائم من
الذنوب.
( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قيل: زكاة النفوس. وقيل: [زكاة] الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية ( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) أي: يصدقون.
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ ) وهذه
صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من
الأعراب، قال: جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما فرغت من بيعتي
قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون،
فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها،
يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنـزل التوراة، هل تجد
في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟" فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه، إي:
والذي أنـزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله
إلا الله، وأنك رسول الله فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم". ثم ولى كفنه والصلاة عليه
هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس.
وقال الحاكم صاحب المستدرك: أخبرنا أبو محمد -عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي
حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن
شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال:
بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى
قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنـزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا
عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا
نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت ألا أنـزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا
صلى الله عليه وسلم. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون
بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا
رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي
معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين
وبغال؟ قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك.
فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة
فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر
فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح،
فأرسل
إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا
عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما
حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو
حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام،
فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل
لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك. قال:
وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها. قال: فما
أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله
يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي
قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟
قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم
تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها
تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم
وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنـزل حسن ونـزل كَثير،
فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء
كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا
وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل
ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا
له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم،
عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا
له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل
تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج
حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل
الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا
إبراهيم، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم،
إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر
البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى
عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض
الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن
عمران، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم
سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط،
عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض
مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا. قال هذا إسحاق، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. [قال] هذا يعقوب، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن
الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب
إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم،
عليهما السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج
حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم
البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود،
عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج
حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا،
فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء،
عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال: إن آدم، عليه
السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنـزل عليه صورهم، فكان في
خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب
الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي،
وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا،
فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال
لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد الله به خيرًا
لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت
محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب "دلائل النبوة"، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن
هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن
صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف
في التوراة كصفته في القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا
ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا
غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح،
ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله
ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا" قال عطاء: ثم لقيت
كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: "قلوبًا
غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".
وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي -فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله: "ليس بفظ ولا غليظ": "ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق "التوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي
حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعم -قال: حدثتني أم عثمان
بنت سعيد -وهي جدتي -عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن
جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى
الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت: نعم. قال:
هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة
النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال:
فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منـزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة
النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم،
قلت: من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال: إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي
إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر،
رضي الله عنه
وقال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير
حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق
العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته،
فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك
قَرْنا. قال: فرفع عمر الدرة وقال
قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمير شديد. قال: فكيف تجد الذي بعدي؟ قال: أجد
خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال:
كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال:
يا دفراه، يا دَفْراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه
يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق
وقوله تعالى ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كان حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله [تعالى] به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
[النحل:36] وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر -هو العقدي عبد الملك بن
عمرو -حدثنا سليمان -هو ابن بلال -عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد
الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي الله
عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه
قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به.
وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون
أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه"
هذا [حديث] جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [الستة]
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن
أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، [والذي هو أنجي] والذي هو أتقى
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري،
عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه
وقوله: ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ ) أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر،
والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم،
ويحرم عليهم الخبائث.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنـزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.
وقال بعض العلماء: كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.
وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم
ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا
في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه كلام طويل أيضا.
وقوله: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ ) أي: إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة". وقال
لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما
بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا
تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وشهدت تيسيره.
وقد كانت الأمم الذين
كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها،
وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي
ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل" وقال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت
وقوله: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) أي:
عظموه ووقروه، ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنـزلَ مَعَهُ ) أي:
القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، ( أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( قُلْ ) يا محمد: (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، (
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) أي: جميعكم، وهذا من شرفه
وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17] وقال تعالى: وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ
[آل عمران:20] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن
تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول
الله إلى الناس كلهم.
قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله، حدثنا
سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد
الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بسر
ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله
عنه، يقول: كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر
عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل
حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
-فقال أبو الدرداء: ونحن عنده -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما صاحبكم هذا فقد غامر" -أي: غاضب
وحاقد -قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر -قال أبو
الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا
رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم
تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم:
كذبت وقال أبو بكر: صدقت". انفرد به البخاري
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس [رضي الله عنه]
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي
-ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب
مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا" إسناده جيد، ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي
الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد
وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك،
إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل؛ فإن
كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله
إلا الله" إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة"
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس -وهو سليم بن جبير -عن أبي هريرة، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه
الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من
أصحاب النار" . تفرد به أحمد
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا"
وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم
يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم
تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة"
وقوله: ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) صفة الله تعالى، في قوله ( رَسُولُ اللَّهِ ) أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.
وقوله: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ )
أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، ( النَّبِيِّ
الأمِّيِّ ) أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت
بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: ( النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ) أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنـزل إليه من
ربه ( وَاتَّبِعُوهُ ) أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، ( لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ ) أي: إلى الصراط المستقيم.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، وقال تعالى: وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] [القصص:52-54] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الآية [البقرة:121]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، حدثنا
الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: بلغني أن بني إسرائيل لما
قتلوا أنبياءهم، وكفروا -وكانوا اثني عشر سبطا -تبرأ سبط منهم مما صنعوا،
واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا
في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين
يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] و وَعْدُ الآخِرَةِ : عيسى ابن مريم -قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: ( وَمِنْ قَوْمِ
مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: قوم بينكم
وبينهم نهر من شُهْد
رد: الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
جميل جدا ونشاط مميز شكرا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء العشرون من تفسير سورة الأعراف
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأعراف
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأعراف
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأعراف
» الجزء العاشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الأعراف
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة الأعراف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الاعراف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى