الجزء السادس من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السادس من تفسير سورة يونس
قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا
يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام
والأنداد، ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ) أي: من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما، ثم يعيد الخلق
خلقًا جديدًا؟ ( قُلِ اللَّهُ ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به، وحده لا شريك
له، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي: فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل؟!
( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) أي: أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية
ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله
الذي لا إله إلا هو.
( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا
يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى ) أي: أَفَيُتَّبَع [العبد الذي يهدي إلى الحق ويُبَصّر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا] أن يهدى، لعماه وبكمه؟ كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مريم : 42 ]، وقال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصافات : 95 ، 96 ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أي: فما بالكم
يُذْهَبُ بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه، وعدلتم هذا بهذا،
وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من
الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة.
ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا، وإنما هو
ظن منهم، أي: توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِمَا يَفْعَلُونَ ) تهديد لهم، ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
وَمَا
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ
كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر
سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته،
واشتماله على المعاني العزيزة [للعزيزة]
النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في
ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ
دُونِ اللَّهِ ) أي: مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام
البشر، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي: من الكتب
المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل
والتبديل.
وقوله: ( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا
كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث
الأعور، عن علي بن أبي طالب: "فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما
بينكم" ، أي: خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي
يحبه الله ويرضاه.
وقوله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
) أي: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا
ومَيْنا: "إن هذا من عند محمد"، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا
القرآن، فأتوا أنتم بسورة مثله، أي: من جنس القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان.
وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم، إن كانوا صادقين في دعواهم، أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء : 88 ]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود : 13 ]،
ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وكذا في سورة البقرة -وهي مدنية -تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الآية: [ البقرة : 24 ] .
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في
هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به، ولهذا آمن من آمن
منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته
وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة، لعلمهم
بفنون السحر، أن هذا الذي فعله موسى، عليه السلام، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد
مُسَدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى،
عليه السلام، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه
والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه،
فعرف من عرف منهم أنه عبد الله
ورسوله؛ ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر،
وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا "
.
وقوله: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا
عرفوه، ( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) أي: ولم يُحصّلوا ما فيه من
الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا ( كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: من الأمم السالفة ( فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) أي: فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا
ظلمًا وعلوا، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما
أصابهم.
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ
بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي: ومن هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن
بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ
بِهِ ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ
) أي: وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو
العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه،
لا إله إلا هو.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم، ( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون ]. وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين: إِنَّا
بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ الممتحنة : 4].
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) أي: يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة
النافعة في القلوب والأبدان والأديان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك
إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم -وهو الأطرش -فكذلك لا تقدر
على هداية هؤلاء، إلا أن يشاء الله.
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا
يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام
والأنداد، ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ) أي: من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما، ثم يعيد الخلق
خلقًا جديدًا؟ ( قُلِ اللَّهُ ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به، وحده لا شريك
له، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي: فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل؟!
( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) أي: أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية
ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله
الذي لا إله إلا هو.
( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا
يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى ) أي: أَفَيُتَّبَع [العبد الذي يهدي إلى الحق ويُبَصّر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا] أن يهدى، لعماه وبكمه؟ كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مريم : 42 ]، وقال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصافات : 95 ، 96 ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أي: فما بالكم
يُذْهَبُ بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه، وعدلتم هذا بهذا،
وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من
الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة.
ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا، وإنما هو
ظن منهم، أي: توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِمَا يَفْعَلُونَ ) تهديد لهم، ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
وَمَا
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ
كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر
سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته،
واشتماله على المعاني العزيزة [للعزيزة]
النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في
ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ
دُونِ اللَّهِ ) أي: مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام
البشر، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي: من الكتب
المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل
والتبديل.
وقوله: ( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا
كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث
الأعور، عن علي بن أبي طالب: "فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما
بينكم" ، أي: خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي
يحبه الله ويرضاه.
وقوله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
) أي: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا
ومَيْنا: "إن هذا من عند محمد"، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا
القرآن، فأتوا أنتم بسورة مثله، أي: من جنس القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان.
وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم، إن كانوا صادقين في دعواهم، أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء : 88 ]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود : 13 ]،
ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وكذا في سورة البقرة -وهي مدنية -تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الآية: [ البقرة : 24 ] .
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في
هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به، ولهذا آمن من آمن
منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته
وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة، لعلمهم
بفنون السحر، أن هذا الذي فعله موسى، عليه السلام، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد
مُسَدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى،
عليه السلام، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه
والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه،
فعرف من عرف منهم أنه عبد الله
ورسوله؛ ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر،
وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا "
.
وقوله: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا
عرفوه، ( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) أي: ولم يُحصّلوا ما فيه من
الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا ( كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: من الأمم السالفة ( فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) أي: فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا
ظلمًا وعلوا، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما
أصابهم.
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ
بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي: ومن هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن
بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ
بِهِ ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ
) أي: وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو
العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه،
لا إله إلا هو.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم، ( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون ]. وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين: إِنَّا
بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ الممتحنة : 4].
وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) أي: يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة
النافعة في القلوب والأبدان والأديان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك
إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم -وهو الأطرش -فكذلك لا تقدر
على هداية هؤلاء، إلا أن يشاء الله.
رد: الجزء السادس من تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء السادس من تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء السادس من تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى