الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يوسف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
وقوله: ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) أي: وما تسألهم يا
محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر، أي: من جُعَالة ولا
أجرة على ذلك، بل تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه.
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) أي: يتذكرون به ويهتدون، وينجون به في الدنيا والآخرة.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
يخبر تعالى عن [غفلة]
أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في
السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع
مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات، وبحار
زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان
ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات، في الطعوم والروائح والألوان والصفات،
فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء
والصمدية ذي الأسماء والصفات.
وقوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ ) قال ابن عباس: من إيمانهم، إذا قيل لهم: من خلق السموات؟ ومن
خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: "الله"، وهم مشركون به. وكذا قال
مجاهد، وعطاء وعكرمة، والشعبي، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم.
وهكذا في الصحيحين
أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك،
تملكه وما ملك. وفي الصحيح: أنهم كانوا إذا قالوا: "لبيك لا شريك لك" يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَدْ"، أي حَسْبُ حَسْبُ، لا تزيدوا
على هذا .
وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان: 13] وهذا هو الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره، كما في
الصحيحين. عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل
لله ندا وهو خَلَقَك" .
وقال الحسن البصري في قوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) قال: ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو
مشرك بعمله ذاك، يعني قوله تعالى: إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلا قَلِيلا [النساء: 142].
وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله، كما روى حماد بن سلمة، عن
عاصم بن أبي النَّجُود، عن عُرْوَة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده
سيرًا فقطعه -أو: انتزعه -ثم قال: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )
وفي الحديث: "من حلف بغير الله فقد أشرك" . رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية ابن عمر
وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره، عن ابن مسعود، رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرُّقَى والتَّمائِم
والتِّوَلة شرْك" .
وفي لفظ لهما: "[الطيَرة شرك] وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" .
ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن يحيى الجزار عن ابن أخي، زينب [عن زينب] امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح
وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح
وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى
جانبي، فرأى في عنقي خيطا، قال: ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت: خيط رُقِى لي
فيه. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك".
قالت، قلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان
اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذاك من الشيطان. كان
ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها: إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء
إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا" .
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم
وهو مريض نعوده، فقيل له: تَعَلَّقت شيئا؟ فقال: أتعلق شيئا! وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه" ورواه النسائي عن أبي هريرة .
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علَّق تميمة فقد أشرك" وفي رواية: "من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودَعَةً فلا ودع الله له"
وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل
عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه". رواه مسلم .
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من كان
أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى
الشركاء عن الشرك". رواه أحمد .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد -يعني: ابن الهاد
-عن عمرو، عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
أخْوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول
الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا
إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" .
وقد رواه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، أنبأنا ابن لَهِيعة، أنبأنا ابن هُبَيْرة،
عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة من حاجة، فقد أشرك". قالوا: يا رسول الله،
ما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي
سليمان العَرْزَمي، عن أبي علي -رجل من بني كاهل -قال: خطبنا أبو موسى
الأشعري فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دَبِيب النمل.
فقام عبد الله بن حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذات يوم]
فقال: "يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل". فقال له
من شاء الله أن يقول: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟
قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك [من] أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" .
وقد روي من وجه آخر، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق، كما رواه
الحافظ أبو يعلى الموصلي، من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن لَيْث بن أبي
سليم، عن أبي محمد، عن مَعْقِل بن يَسَار قال: شهدت النبي صلى الله عليه
وسلم -أو قال: حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل". فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من دعا
مع الله إلها آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك فيكم أخفى
من دبيب النمل". ثم قال: "ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره؟
قل: اللهم، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم" .
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فَرُّوخ، عن يحيى بن
كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر
الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك أخفى في أمتي من
دبيب النمل على الصفا". قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف النجاة
والمخرج من ذلك؟ فقال: "ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره
وصغيره وكبيره؟". قال: بلى، يا رسول الله، قال: "قل: اللهم، إني أعوذ بك أن
أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" .
قال الدارقطني: يحيى بن كثير هذا يقال له: "أبو النضر"، متروك الحديث.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، من حديث يعلى بن عطاء، سمعت عمرو بن عاصم
سمعت أبا هريرة قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: يا رسول الله،
علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ، وإذا أخذت مضجعي. قال: "قل:
اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد
أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه" .
وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث بن أبي سليم، [عن مجاهد] عن أبي بكر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول . . . فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره: "وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم" .
وقوله: ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )
أي: أفأمن هؤلاء المشركون [بالله] أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45 -47] وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 -99 ].
قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
يقول [الله]
تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس: أن
هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بَصِيرة من ذلك، ويقين
وبرهان، هو وكلّ من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي.
وقوله: ( وَسُبْحَانَ اللَّهِ ) أي: وأنـزه الله وأجلّه وأعظّمه
وأقدّسه، عن أن يكون له شريك أو نظير، أو عديل أو نديد، أو ولد أو والد أو
صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك كله علوا كبيرا،
تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44].
وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء. وهذا قول
جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لم
يُوحِ إلى امرأة من بنات بني آدم وَحي تشريع.
وزعم بعضهم: أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية. [القصص: 7]، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى، عليه السلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [ آل عمران: 42 ، 43].
وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد
القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في
أن هذا: هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه
[أئمة]
أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري عنهم: أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى
مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت عمران حيث قال: مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي: ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الآية [الفرقان: 20] وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء: 8 ، 9] وقوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الآية [الأحقاف: 9].
وقوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) المراد بالقرى: المدن، لا أنهم من أهل
البوادي، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف أن
أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا
من الذين يسكنون في البوادي؛ ولهذا قال تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة: 97].
وقال قتادة في قوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود.
وفي الحديث الآخر: أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ناقة، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لقد هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو
دَوْسِي".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال الأعمش: هو [ابن]
عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن الذي يخالط الناس
ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" .
وقوله: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) [يعني: هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض،]
( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:
من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، كقوله: أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فإذا استمعوا
خبر ذلك، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته
تعالى في خلقه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا ) أي: وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51 ، 52] .
وأضاف الدار إلى الآخرة فقال: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) كما يقال: "صلاة
الأولى" و"مسجد الجامع" و"عام الأول" و "بارحة الأولى" و"يوم الخميس". قال
الشاعر:
حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ
نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (110)
يخبر تعالى أن نصره ينـزل على رسله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك، كما
في قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة: 214] ، وفي قوله: ( كُذِبُوا ) قراءتان، إحداهما بالتشديد: "قد
كُذِّبُوا" ، وكذلك كانت عائشة، رضي الله عنها، تقرؤها، قال البخاري:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني
عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله: ( حَتَّى إِذَا
اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ فقالت عائشة:
كُذِّبوا. فقلت: فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت:
أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت معاذ الله، لم تكن
الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين
آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم
قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.
حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرنا عُرْوَة، فقلت: لعلها قد كُذِبوا مخففة؟ قالت: معاذ الله. انتهى ما ذكره .
وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة: أن ابن عباس قرأها: (
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) خفيفة -قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة:
ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشرًا وتلا ابن عباس: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة: 214] ، قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن
عائشة: أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه
وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى
ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث
عروة: كانت عائشة تقرؤها "وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة، للتكذيب.
وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنا ابن وهب، أخبرني
سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال:
إن محمد بن كعب القرظي يقول
هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا ) فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم تقول: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا ) تقول: كذبتهم أتباعهم. إسناد صحيح أيضا.
والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس ما
تقدم، وعن ابن مسعود، فيما رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى،
عن مسروق، عن عبد الله أنه قرأ: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) مخففة، قال عبد الله: هو الذي تكره .
وهذا عن ابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهما، مخالف لما رواه آخرون
عنهما. أما ابن عباس فروى الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس في قوله: ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال: لما
أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جاءهم النصر على ذلك، ( فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ )
وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعمران بن الحارث السلمي، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس بمثله.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة
الجزرِيّ قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله،
كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ؟ قال:
نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن
الرسل كَذَبوا. فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم
فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا.
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر: أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير
عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: فرَّج الله عنك
كما فَرجت عني.
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد
بن جَبْر، وغير واحد من السلف، حتى إن مجاهدا قرأها: "وظنوا أنهم قد
كَذَبوا"، بفتح الذال. رواه ابن جرير، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد
الضمير في قوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) إلى أتباع الرسل من
المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم، أي: وظن الكفار أن الرسل قد
كَذبوا -مخففة -فيما وعدوا به من النصر.
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش
بن زياد الضبي، عن تميم بن حَذْلَم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في
هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) من إيمان قومهم أن
يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا، بالتخفيف .
فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس، وقد أنكرت ذلك عائشة
على من فسرها بذلك، وانتصر لها ابن جرير، ووجه المشهور عن الجمهور، وزيف
القول الآخر بالكلية، وردَّهُ وأبَاه، ولم يقبله ولا ارتضاه، والله أعلم .
لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا
المؤمنين وأهلكنا الكافرين ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) وهي العقول، (
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي: وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون
الله، أي: يكذب ويُختلق، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )
أي: من الكتب المنـزلة من السماء، وهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما
وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، (
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من
الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من
المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة
والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنـزيهه عن
مماثلة المخلوقات، فلهذا كان: ( هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد، ويبتغون به
الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد. فنسأل الله العظيم
أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم
الناضرة، ويرجع المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة.
آخر تفسير سورة يوسف، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله: ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) أي: وما تسألهم يا
محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر، أي: من جُعَالة ولا
أجرة على ذلك، بل تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه.
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) أي: يتذكرون به ويهتدون، وينجون به في الدنيا والآخرة.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
يخبر تعالى عن [غفلة]
أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في
السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع
مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات، وبحار
زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان
ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات، في الطعوم والروائح والألوان والصفات،
فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء
والصمدية ذي الأسماء والصفات.
وقوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ ) قال ابن عباس: من إيمانهم، إذا قيل لهم: من خلق السموات؟ ومن
خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: "الله"، وهم مشركون به. وكذا قال
مجاهد، وعطاء وعكرمة، والشعبي، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم.
وهكذا في الصحيحين
أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك،
تملكه وما ملك. وفي الصحيح: أنهم كانوا إذا قالوا: "لبيك لا شريك لك" يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَدْ"، أي حَسْبُ حَسْبُ، لا تزيدوا
على هذا .
وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان: 13] وهذا هو الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره، كما في
الصحيحين. عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل
لله ندا وهو خَلَقَك" .
وقال الحسن البصري في قوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) قال: ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو
مشرك بعمله ذاك، يعني قوله تعالى: إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلا قَلِيلا [النساء: 142].
وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله، كما روى حماد بن سلمة، عن
عاصم بن أبي النَّجُود، عن عُرْوَة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده
سيرًا فقطعه -أو: انتزعه -ثم قال: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )
وفي الحديث: "من حلف بغير الله فقد أشرك" . رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية ابن عمر
وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره، عن ابن مسعود، رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرُّقَى والتَّمائِم
والتِّوَلة شرْك" .
وفي لفظ لهما: "[الطيَرة شرك] وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" .
ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن يحيى الجزار عن ابن أخي، زينب [عن زينب] امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح
وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح
وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى
جانبي، فرأى في عنقي خيطا، قال: ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت: خيط رُقِى لي
فيه. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك".
قالت، قلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان
اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذاك من الشيطان. كان
ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها: إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء
إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا" .
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم
وهو مريض نعوده، فقيل له: تَعَلَّقت شيئا؟ فقال: أتعلق شيئا! وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه" ورواه النسائي عن أبي هريرة .
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علَّق تميمة فقد أشرك" وفي رواية: "من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودَعَةً فلا ودع الله له"
وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل
عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه". رواه مسلم .
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من كان
أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى
الشركاء عن الشرك". رواه أحمد .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد -يعني: ابن الهاد
-عن عمرو، عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
أخْوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول
الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا
إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" .
وقد رواه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، أنبأنا ابن لَهِيعة، أنبأنا ابن هُبَيْرة،
عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة من حاجة، فقد أشرك". قالوا: يا رسول الله،
ما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي
سليمان العَرْزَمي، عن أبي علي -رجل من بني كاهل -قال: خطبنا أبو موسى
الأشعري فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دَبِيب النمل.
فقام عبد الله بن حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذات يوم]
فقال: "يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل". فقال له
من شاء الله أن يقول: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟
قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك [من] أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" .
وقد روي من وجه آخر، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق، كما رواه
الحافظ أبو يعلى الموصلي، من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن لَيْث بن أبي
سليم، عن أبي محمد، عن مَعْقِل بن يَسَار قال: شهدت النبي صلى الله عليه
وسلم -أو قال: حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل". فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من دعا
مع الله إلها آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك فيكم أخفى
من دبيب النمل". ثم قال: "ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره؟
قل: اللهم، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم" .
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فَرُّوخ، عن يحيى بن
كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر
الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك أخفى في أمتي من
دبيب النمل على الصفا". قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف النجاة
والمخرج من ذلك؟ فقال: "ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره
وصغيره وكبيره؟". قال: بلى، يا رسول الله، قال: "قل: اللهم، إني أعوذ بك أن
أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" .
قال الدارقطني: يحيى بن كثير هذا يقال له: "أبو النضر"، متروك الحديث.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، من حديث يعلى بن عطاء، سمعت عمرو بن عاصم
سمعت أبا هريرة قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: يا رسول الله،
علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ، وإذا أخذت مضجعي. قال: "قل:
اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد
أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه" .
وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث بن أبي سليم، [عن مجاهد] عن أبي بكر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول . . . فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره: "وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم" .
وقوله: ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )
أي: أفأمن هؤلاء المشركون [بالله] أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45 -47] وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 -99 ].
قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
يقول [الله]
تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس: أن
هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بَصِيرة من ذلك، ويقين
وبرهان، هو وكلّ من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي.
وقوله: ( وَسُبْحَانَ اللَّهِ ) أي: وأنـزه الله وأجلّه وأعظّمه
وأقدّسه، عن أن يكون له شريك أو نظير، أو عديل أو نديد، أو ولد أو والد أو
صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك كله علوا كبيرا،
تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44].
وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء. وهذا قول
جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لم
يُوحِ إلى امرأة من بنات بني آدم وَحي تشريع.
وزعم بعضهم: أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية. [القصص: 7]، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى، عليه السلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [ آل عمران: 42 ، 43].
وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد
القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في
أن هذا: هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه
[أئمة]
أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري عنهم: أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى
مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت عمران حيث قال: مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي: ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الآية [الفرقان: 20] وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء: 8 ، 9] وقوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الآية [الأحقاف: 9].
وقوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) المراد بالقرى: المدن، لا أنهم من أهل
البوادي، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف أن
أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا
من الذين يسكنون في البوادي؛ ولهذا قال تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة: 97].
وقال قتادة في قوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود.
وفي الحديث الآخر: أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ناقة، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لقد هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو
دَوْسِي".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال الأعمش: هو [ابن]
عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن الذي يخالط الناس
ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" .
وقوله: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) [يعني: هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض،]
( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:
من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، كقوله: أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فإذا استمعوا
خبر ذلك، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته
تعالى في خلقه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا ) أي: وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51 ، 52] .
وأضاف الدار إلى الآخرة فقال: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) كما يقال: "صلاة
الأولى" و"مسجد الجامع" و"عام الأول" و "بارحة الأولى" و"يوم الخميس". قال
الشاعر:
أَتَمْــدَحُ فَقْعَسًــا وَتـــذمّ عَبْسًا | ألا للــه أمَّـــكَ مــن هَجــين | |
وَلــو أقْــوتْ عَلَيـك ديــارُ عَبْسٍ | عَــرَفْتَ الــذّلّ عرْفــانَ اليَقيـن |
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ
نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (110)
يخبر تعالى أن نصره ينـزل على رسله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك، كما
في قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة: 214] ، وفي قوله: ( كُذِبُوا ) قراءتان، إحداهما بالتشديد: "قد
كُذِّبُوا" ، وكذلك كانت عائشة، رضي الله عنها، تقرؤها، قال البخاري:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني
عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله: ( حَتَّى إِذَا
اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ فقالت عائشة:
كُذِّبوا. فقلت: فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت:
أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت معاذ الله، لم تكن
الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين
آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم
قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.
حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرنا عُرْوَة، فقلت: لعلها قد كُذِبوا مخففة؟ قالت: معاذ الله. انتهى ما ذكره .
وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة: أن ابن عباس قرأها: (
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) خفيفة -قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة:
ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشرًا وتلا ابن عباس: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة: 214] ، قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن
عائشة: أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه
وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى
ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث
عروة: كانت عائشة تقرؤها "وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة، للتكذيب.
وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنا ابن وهب، أخبرني
سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال:
إن محمد بن كعب القرظي يقول
هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا ) فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم تقول: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا ) تقول: كذبتهم أتباعهم. إسناد صحيح أيضا.
والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس ما
تقدم، وعن ابن مسعود، فيما رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى،
عن مسروق، عن عبد الله أنه قرأ: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) مخففة، قال عبد الله: هو الذي تكره .
وهذا عن ابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهما، مخالف لما رواه آخرون
عنهما. أما ابن عباس فروى الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس في قوله: ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال: لما
أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جاءهم النصر على ذلك، ( فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ )
وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعمران بن الحارث السلمي، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس بمثله.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة
الجزرِيّ قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله،
كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: ( حَتَّى
إِذَا اسْتَيئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ؟ قال:
نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن
الرسل كَذَبوا. فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم
فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا.
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر: أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير
عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: فرَّج الله عنك
كما فَرجت عني.
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد
بن جَبْر، وغير واحد من السلف، حتى إن مجاهدا قرأها: "وظنوا أنهم قد
كَذَبوا"، بفتح الذال. رواه ابن جرير، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد
الضمير في قوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) إلى أتباع الرسل من
المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم، أي: وظن الكفار أن الرسل قد
كَذبوا -مخففة -فيما وعدوا به من النصر.
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش
بن زياد الضبي، عن تميم بن حَذْلَم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في
هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) من إيمان قومهم أن
يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا، بالتخفيف .
فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس، وقد أنكرت ذلك عائشة
على من فسرها بذلك، وانتصر لها ابن جرير، ووجه المشهور عن الجمهور، وزيف
القول الآخر بالكلية، وردَّهُ وأبَاه، ولم يقبله ولا ارتضاه، والله أعلم .
لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا
المؤمنين وأهلكنا الكافرين ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) وهي العقول، (
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي: وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون
الله، أي: يكذب ويُختلق، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )
أي: من الكتب المنـزلة من السماء، وهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما
وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، (
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من
الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من
المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة
والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنـزيهه عن
مماثلة المخلوقات، فلهذا كان: ( هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد، ويبتغون به
الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد. فنسأل الله العظيم
أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم
الناضرة، ويرجع المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة.
آخر تفسير سورة يوسف، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
رد: الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
زين اخوي شكرا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
رد: الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة يوسف
بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا
وجزاك الله خيرا
agiliedi- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 145
تاريخ الميلاد : 30/11/1999
العمر : 24
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع من تفسير سورة يوسف
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الواقعة
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة لقمان
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة القمر
» الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الواقعة
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة لقمان
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة القمر
» الجزء الرابع عشر والأخير من تفسير سورة الإسراء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يوسف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى