الجزء الخامس من تفسير سورة مريم
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة مريم
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة مريم
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) .
وقوله: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) [أي: خالق
ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، ( فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبها.
وكذلك قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج وغيرهم.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى، وتقدس اسمه.
وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [ الرعد : 5 ]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
[ يس : 77-79 ]، وقال هاهنا: ( وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ
لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) يستدل، تعالى، بالبداءة على الإعادة،
يعني أنه، تعالى [قد] خلق الإنسان ولم يك شيئًا، أفلا يعيده وقد صار شيئًا، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
[ الروم : 27 ]، وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له
أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله:
لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي
فقوله: إن لي ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد" .
وقوله: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) أقسم الرب،
تبارك وتعالى، بنفسه الكريمة، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين
كانوا يعبدون من دون الله، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا ) .
قال العَوْفي، عن ابن عباس: يعني: قعودا كقوله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [ الجاثية : 28 ].
وقال السدي في قوله: ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) : يعني: قيامًا، وروي عن مرة، عن ابن مسعود [مثله] .
وقوله: ( ثُمَّ لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ ) يعني: من كل أمة قاله مجاهد، ( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) .
قال الثوري، عن [علي بن الأقمر] ، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة
، أتاهم جميعًا، ثم بدأ بالأكابر، فالأكابر جرما، وهو قوله: ( ثُمَّ
لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ
عِتِيًّا ) .
وقال قتادة: ( ثُمَّ لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) قال: ثم لننـزعن من أهل كل دين قادتهم [ورؤساءهم] في الشر. وكذا قال ابن جريج، وغير واحد من السلف. وهذا كقوله تعالى: حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ
رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ الأعراف : 38 ، 39 ]
وقوله: ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا
صِلِيًّا ) ثم" هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن
يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلَّد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال في الآية المتقدمة: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا خالد بن سليمان، عن كثير
بن زياد البُرْساني، عن أبي سُمَيَّة قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا:
لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا.
فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها
جميعًا -وقال سليمان مَرَّةً
يدخلونها جميعًا-وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال: صُمّتا، إن لم أكن سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون
على المؤمن بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيًّا" غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن
أبي مروان، عن خالد بن مَعْدَان قال: قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة:
ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي
حازم قال: كان عبد الله بن رَوَاحة واضعًا رأسه في حِجْر امرأته، فبكى،
فبكت امرأته فقال ما يبكيك؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت. قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ، فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وفي رواية: وكان مريضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن يَمَان، عن مالك بن
مِغْول، عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم
تلدني ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها،
ولم نُخْبَرْ أنا صادرون عنها .
وقال عبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك
أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال:
ففيم الضحك؟ [قال فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله] .
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود الدخول؟ فقال نافع: لا فقرأ ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء : 98 ] وردوا أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود : 98 ] أورْدٌ هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع .
وروى ابن جريج، عن عطاء قال: قال أبو راشد الحَرُوري -وهو نافع بن الأزرق-: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [ الأنبياء : 102] فقال ابن عباس: ويلك: أمجنون أنت؟ أين قوله: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود : 98 ]، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا
[ مريم : 86 ]، ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ والله إن كان دعاء
من مضى: اللهم أخرجني من النار سالمًا، وأدخلني الجنة غانمًا .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أسباط، عن عبد
الملك، عن عبيد الله، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل يقال له:
أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس، أرأيت قول الله: (
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا )
؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر: هل نصدر عنها أم لا .
وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة، أخبرني عبد الله بن السائب، عمن سمع ابن عباس يقرؤها [كذلك] : "وإن منهم إلا واردها" يعني: الكفار
وهكذا روى عمرو بن الوليد الشَّنِّي ، أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: "وإن منهم إلا واردها"، قال: وهم الظلمة. كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا
كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) يعني: البر والفاجر، ألا تسمع
إلى قول الله لفرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ، فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السدي، عن مُرَّة،
عن عبد الله -هو ابن مسعود-( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يرد الناس [النار] كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي به . ورواه من طريق شعبة، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفا .
هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعًا. وقد رواه أسباط، عن السدي، عن مُرّة
عن عبد الله بن مسعود قال: يرد الناس جميعًا الصراط، وورودهم قيامهم حول
النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق
، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود
الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم
مرًّا رجل نوره على موضعي إبهامي قدميه، يمر يتكفأ
به الصراط، والصراط دَحْضُ مَزَلّة، عليه حَسَك كَحَسك القَتَاد، حافتاه
ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، حدثنا إسرائيل، أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص
عن عبد الله: قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال: الصراط على
جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة
كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم
سَلّم سَلّم.
ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما، من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن الجُرَيري، عن [أبي السليل] عن غُنَيْم بن قيس قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها مَتْن
إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن
امسكي أصحابك، ودعي أصحابي، قال: فتخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان ، عن
جابر، عن أم مُبَشِّر، عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني لأرجو ألا يدخل النار -إن شاء الله-أحد شهد بدرًا والحديبية" قالت فقلت: أليس الله يقول ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ قالت : فسمعته يقول: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) .
وقال [الإمام] أحمد أيضًا: حدثنا ابن إدريس، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان
، عن جابر، عن أم مبشر -امرأة زيد بن حارثة-قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بيت حفصة، فقال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية"
قالت حفصة: أليس الله يقول: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) .
وفي الصحيحين، من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة
من الولد تمسه النار، إلا تَحِلَّة القسم".
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي
هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات له ثلاثة لم تمسه النار
إلا تحلة القسم" يعني الورود .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا زَمْعَة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموت لمسلم
ثلاثة من الولد، تمسه النار إلا تحلة القسم". قال الزهري: كأنه يريد هذه
الآية: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا ) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا أبو المغيرة
، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من
أصحابه وعِكًا، وأنا معه، ثم قال: "إن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على
عبدي المؤمن؛ لتكون حظه من النار في الآخرة" غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه
.
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال:
الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن
فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة". فقال عمر: إذا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم: "لله] أكثر وأطيب" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ألف آية في سبيل الله، كُتب
يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا،
إن شاء الله. ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، قال الله تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) وإن الذكر في سبيل [الله] يُضْعفُ فوق النفقة بسبعمائة ضعف". وفي رواية: "بسبعمائة ألف ضعف"
وروى أبو داود، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب [وسعيد بن أبي أيوب] كلاهما عن زبان ، عن سهل، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" .
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال: هو الممر عليها
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا ) ، قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها، وورود
المشركين: أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الزالون والزالات
يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة، دعاؤهم: يا ألله
سلم سلم" .
وقال السدي، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) قال: قسمًا واجبًا. وقال مجاهد: [حتمًا] ، قال: قضاء. وكذا قال ابن جريج
وقوله: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي: إذا مرّ الخلائق
كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم،
نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط
وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من
المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون
، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع
السجود-وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون
أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه،
[ثم الذي يليه] حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر: "لا إله إلا الله"
وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما
وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال
تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ
فِيهَا جِثِيًّا )
وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) .
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى
عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان: أنهم يصدون عن
ذلك ، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم
عليه من الدين الباطل بأنهم: ( خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا ) [أي:
أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا] ، وهو مجمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك [الذين هم] مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11]. وقال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [ الشعراء : 111 ]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[ الأنعام : 53 ] ؛ ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: ( وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد
أهلكناهم بكفرهم، ( هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) أي: كانوا أحسن من
هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
[و]
قال الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس: ( خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا ) قال: المقام: المنـزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع،
والرئي: المنظر.
وقال العوفي، عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [ الدخان : 25 ، 26 ]، فالمقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال [الله] فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط : وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [ العنكبوت : 29 ]، والعرب تسمي المجلس: النادي.
وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، تَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون : ( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) وكذا قال مجاهد، والضحاك.
ومنهم من قال في الأثاث: هو المال. ومنهم من قال: المتاع. ومنهم من قال: الثياب، والرئي: المنظر كما قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
وقال الحسن البصري: يعني الصور، وكذا قال مالك: ( أَثَاثًا وَرِئْيًا ) : أكثر أموالا وأحسن صورًا. والكل متقارب صحيح.
قُلْ
مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) .
يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين، أنهم على
الحق وأنكم على الباطل: ( مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ ) أي: منا ومنكم، (
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي
أجله، ( إِمَّا الْعَذَابَ ) يصيبه، ( وَإِمَّا السَّاعَةَ ) بغتة تأتيه، (
فَسَيَعْلَمُونَ ) حينئذ ( مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا )
[أي] : في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي.
قال مجاهد في قوله: ( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) فليدعه الله في طغيانه. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.
وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: قُلْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ [ الجمعة : 6 ] أي: ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت
إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد
تقدم تقرير ذلك في سورة "البقرة" مبسوطا، ولله الحمد. وكما ذكر تعالى
المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران" حين
صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد
الله، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم، قال
بعد ذلك: فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [ آل عمران : 61 ] فنكلوا أيضًا عن ذلك.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) .
لما ذكر [الله] تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى: وَإِذَا
مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ التوبة : 124 ، 125 ].
وقوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قد تقدم تفسيرها، والكلام عليها، وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة "الكهف".
( خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) أي: جزاء ( وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) أي: عاقبة ومردا على صاحبها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأخذ عودًا
يابسًا فَحَطَّ ورقة ثم قال: "إن قول: لا إله إلا الله، والله أكبر،
والحمد لله، وسبحان الله، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن
من كنوز الجنة" قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال:
لأهللنّ الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني
مجنون
وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة، عن أبي الدرداء، والله أعلم. وهكذا وقع في سنن ابن ماجه، من حديث أبي معاوية، عن عُمر بن راشد، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء، فذكر نحوه
وقوله: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) [أي: خالق
ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، ( فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبها.
وكذلك قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج وغيرهم.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى، وتقدس اسمه.
وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [ الرعد : 5 ]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
[ يس : 77-79 ]، وقال هاهنا: ( وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ
لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) يستدل، تعالى، بالبداءة على الإعادة،
يعني أنه، تعالى [قد] خلق الإنسان ولم يك شيئًا، أفلا يعيده وقد صار شيئًا، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
[ الروم : 27 ]، وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له
أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله:
لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي
فقوله: إن لي ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد" .
وقوله: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) أقسم الرب،
تبارك وتعالى، بنفسه الكريمة، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين
كانوا يعبدون من دون الله، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا ) .
قال العَوْفي، عن ابن عباس: يعني: قعودا كقوله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [ الجاثية : 28 ].
وقال السدي في قوله: ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) : يعني: قيامًا، وروي عن مرة، عن ابن مسعود [مثله] .
وقوله: ( ثُمَّ لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ ) يعني: من كل أمة قاله مجاهد، ( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) .
قال الثوري، عن [علي بن الأقمر] ، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة
، أتاهم جميعًا، ثم بدأ بالأكابر، فالأكابر جرما، وهو قوله: ( ثُمَّ
لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ
عِتِيًّا ) .
وقال قتادة: ( ثُمَّ لَنَنـزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) قال: ثم لننـزعن من أهل كل دين قادتهم [ورؤساءهم] في الشر. وكذا قال ابن جريج، وغير واحد من السلف. وهذا كقوله تعالى: حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ
رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ الأعراف : 38 ، 39 ]
وقوله: ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا
صِلِيًّا ) ثم" هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن
يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلَّد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال في الآية المتقدمة: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا خالد بن سليمان، عن كثير
بن زياد البُرْساني، عن أبي سُمَيَّة قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا:
لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا.
فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها
جميعًا -وقال سليمان مَرَّةً
يدخلونها جميعًا-وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال: صُمّتا، إن لم أكن سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون
على المؤمن بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيًّا" غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن
أبي مروان، عن خالد بن مَعْدَان قال: قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة:
ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي
حازم قال: كان عبد الله بن رَوَاحة واضعًا رأسه في حِجْر امرأته، فبكى،
فبكت امرأته فقال ما يبكيك؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت. قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ، فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وفي رواية: وكان مريضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن يَمَان، عن مالك بن
مِغْول، عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم
تلدني ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها،
ولم نُخْبَرْ أنا صادرون عنها .
وقال عبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك
أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال:
ففيم الضحك؟ [قال فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله] .
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود الدخول؟ فقال نافع: لا فقرأ ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء : 98 ] وردوا أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود : 98 ] أورْدٌ هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع .
وروى ابن جريج، عن عطاء قال: قال أبو راشد الحَرُوري -وهو نافع بن الأزرق-: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [ الأنبياء : 102] فقال ابن عباس: ويلك: أمجنون أنت؟ أين قوله: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود : 98 ]، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا
[ مريم : 86 ]، ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ والله إن كان دعاء
من مضى: اللهم أخرجني من النار سالمًا، وأدخلني الجنة غانمًا .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أسباط، عن عبد
الملك، عن عبيد الله، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل يقال له:
أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس، أرأيت قول الله: (
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا )
؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر: هل نصدر عنها أم لا .
وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة، أخبرني عبد الله بن السائب، عمن سمع ابن عباس يقرؤها [كذلك] : "وإن منهم إلا واردها" يعني: الكفار
وهكذا روى عمرو بن الوليد الشَّنِّي ، أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: "وإن منهم إلا واردها"، قال: وهم الظلمة. كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا
كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) يعني: البر والفاجر، ألا تسمع
إلى قول الله لفرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ، فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السدي، عن مُرَّة،
عن عبد الله -هو ابن مسعود-( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يرد الناس [النار] كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي به . ورواه من طريق شعبة، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفا .
هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعًا. وقد رواه أسباط، عن السدي، عن مُرّة
عن عبد الله بن مسعود قال: يرد الناس جميعًا الصراط، وورودهم قيامهم حول
النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق
، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود
الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم
مرًّا رجل نوره على موضعي إبهامي قدميه، يمر يتكفأ
به الصراط، والصراط دَحْضُ مَزَلّة، عليه حَسَك كَحَسك القَتَاد، حافتاه
ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، حدثنا إسرائيل، أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص
عن عبد الله: قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال: الصراط على
جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة
كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم
سَلّم سَلّم.
ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما، من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن الجُرَيري، عن [أبي السليل] عن غُنَيْم بن قيس قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها مَتْن
إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن
امسكي أصحابك، ودعي أصحابي، قال: فتخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان ، عن
جابر، عن أم مُبَشِّر، عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني لأرجو ألا يدخل النار -إن شاء الله-أحد شهد بدرًا والحديبية" قالت فقلت: أليس الله يقول ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ قالت : فسمعته يقول: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) .
وقال [الإمام] أحمد أيضًا: حدثنا ابن إدريس، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان
، عن جابر، عن أم مبشر -امرأة زيد بن حارثة-قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بيت حفصة، فقال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية"
قالت حفصة: أليس الله يقول: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) .
وفي الصحيحين، من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة
من الولد تمسه النار، إلا تَحِلَّة القسم".
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي
هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات له ثلاثة لم تمسه النار
إلا تحلة القسم" يعني الورود .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا زَمْعَة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموت لمسلم
ثلاثة من الولد، تمسه النار إلا تحلة القسم". قال الزهري: كأنه يريد هذه
الآية: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا ) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا أبو المغيرة
، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من
أصحابه وعِكًا، وأنا معه، ثم قال: "إن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على
عبدي المؤمن؛ لتكون حظه من النار في الآخرة" غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه
.
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال:
الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن
فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة". فقال عمر: إذا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم: "لله] أكثر وأطيب" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ألف آية في سبيل الله، كُتب
يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا،
إن شاء الله. ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، قال الله تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) وإن الذكر في سبيل [الله] يُضْعفُ فوق النفقة بسبعمائة ضعف". وفي رواية: "بسبعمائة ألف ضعف"
وروى أبو داود، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب [وسعيد بن أبي أيوب] كلاهما عن زبان ، عن سهل، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" .
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال: هو الممر عليها
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا ) ، قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها، وورود
المشركين: أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الزالون والزالات
يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة، دعاؤهم: يا ألله
سلم سلم" .
وقال السدي، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) قال: قسمًا واجبًا. وقال مجاهد: [حتمًا] ، قال: قضاء. وكذا قال ابن جريج
وقوله: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي: إذا مرّ الخلائق
كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم،
نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط
وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من
المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون
، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع
السجود-وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون
أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه،
[ثم الذي يليه] حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر: "لا إله إلا الله"
وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما
وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال
تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ
فِيهَا جِثِيًّا )
وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) .
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى
عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان: أنهم يصدون عن
ذلك ، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم
عليه من الدين الباطل بأنهم: ( خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا ) [أي:
أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا] ، وهو مجمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك [الذين هم] مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11]. وقال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [ الشعراء : 111 ]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[ الأنعام : 53 ] ؛ ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: ( وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد
أهلكناهم بكفرهم، ( هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) أي: كانوا أحسن من
هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
[و]
قال الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس: ( خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا ) قال: المقام: المنـزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع،
والرئي: المنظر.
وقال العوفي، عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [ الدخان : 25 ، 26 ]، فالمقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال [الله] فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط : وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [ العنكبوت : 29 ]، والعرب تسمي المجلس: النادي.
وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، تَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون : ( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) وكذا قال مجاهد، والضحاك.
ومنهم من قال في الأثاث: هو المال. ومنهم من قال: المتاع. ومنهم من قال: الثياب، والرئي: المنظر كما قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
وقال الحسن البصري: يعني الصور، وكذا قال مالك: ( أَثَاثًا وَرِئْيًا ) : أكثر أموالا وأحسن صورًا. والكل متقارب صحيح.
قُلْ
مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) .
يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين، أنهم على
الحق وأنكم على الباطل: ( مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ ) أي: منا ومنكم، (
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي
أجله، ( إِمَّا الْعَذَابَ ) يصيبه، ( وَإِمَّا السَّاعَةَ ) بغتة تأتيه، (
فَسَيَعْلَمُونَ ) حينئذ ( مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا )
[أي] : في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي.
قال مجاهد في قوله: ( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) فليدعه الله في طغيانه. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.
وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: قُلْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ [ الجمعة : 6 ] أي: ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت
إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد
تقدم تقرير ذلك في سورة "البقرة" مبسوطا، ولله الحمد. وكما ذكر تعالى
المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران" حين
صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد
الله، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم، قال
بعد ذلك: فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [ آل عمران : 61 ] فنكلوا أيضًا عن ذلك.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) .
لما ذكر [الله] تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى: وَإِذَا
مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ التوبة : 124 ، 125 ].
وقوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قد تقدم تفسيرها، والكلام عليها، وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة "الكهف".
( خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) أي: جزاء ( وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) أي: عاقبة ومردا على صاحبها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأخذ عودًا
يابسًا فَحَطَّ ورقة ثم قال: "إن قول: لا إله إلا الله، والله أكبر،
والحمد لله، وسبحان الله، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن
من كنوز الجنة" قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال:
لأهللنّ الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني
مجنون
وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة، عن أبي الدرداء، والله أعلم. وهكذا وقع في سنن ابن ماجه، من حديث أبي معاوية، عن عُمر بن راشد، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء، فذكر نحوه
|
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة مريم
شكرا لك على الموضوع المميز
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة مريم
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة مريم
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع والأخير من تفسير سورة مريم
» الجزء الثاني من تفسير سورة مريم
» الجزء الثالث من تفسير سورة مريم
» الجزء الرابع من تفسير سورة مريم
» الجزء السادس من تفسير سورة مريم
» الجزء الثاني من تفسير سورة مريم
» الجزء الثالث من تفسير سورة مريم
» الجزء الرابع من تفسير سورة مريم
» الجزء السادس من تفسير سورة مريم
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة مريم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى