الجزء الرابع من تفسير سورة الحج
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الحج
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع من تفسير سورة الحج
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) .
وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) كقوله وَأُدْخِلَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ
فِيهَا سَلامٌ [ إبراهيم: 23]، وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد: 23 ، 24 ] ، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة: 25 ، 26 ]، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [ الفرقان: 75 ]، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يُرَوّعون به ويقرعون به، يقال لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي: إلى المكان الذي
يحمدون فيه ربهم، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في
الصحيح: "إنهم يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النَّفَسَ".
وقد قال بعض المفسرين في قوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ ) أي: القرآن. وقيل: لا إله إلا الله. وقيل: الأذكار المشروعة، (
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي: الطريق المستقيم في الدنيا. وكل
هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم.
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) .
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ الأنفال: 34 ].
وفي هذه الآية دليل [على] أنها مدنية، كما قال في سورة "البقرة": يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
[ البقرة: 217 ]، وقال: هاهنا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي: ومن صفتهم مع كفرهم
أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام من
أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في
هذه الآية كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ الرعد: 28 ] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله: ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ ) [أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله
الله شرعا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، (
سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ]
ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس في قوله: ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال: ينـزل أهل
مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهد [في قوله]
: ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في
المنازل. وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد [بن
أسلم] .
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضًا، فذهب الشافعي، رحمه الله
إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري، عن علي بن
الحُسَين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله،
أتنـزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك لنا عَقيل من رباع" . ثم قال: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين [وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس، وعمرو بن دينار.
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عيسى بن يونس، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين ، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نَضْلة قال: تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا] السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن .
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها.
وقال أيضًا عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن
عمر بن الخطاب كان ينهى أن تُبوّب دور مكة؛ لأن ينـزل الحاج في عَرَصاتها،
فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك،
فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين
يحبسان لي ظهري قال: فذلك إذًا.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن منصور، عن مجاهد؛ أن عمر بن الخطاب
قال: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينـزل البادي حيث يشاء .
قال: وأخبرنا مَعْمر، عمن سمع عطاء يقول [في قوله] : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ، قال: ينـزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا .
"وتوسط الإمام أحمد [فيما نقله صالح ابنه] فقال: تملك وتورث ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة، والله أعلم.
وقوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء هاهنا زائدة،
كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [ المؤمنون: 20 ] أي: تُنْبِتُ الدهن، وكذا قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ) تقديره إلحادًا، وكما قال الأعشى:
وقال الآخر :
والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى "يَهُمّ"، ولهذا عداه بالباء، فقال: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) أي: يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار.
وقوله: ( بِظُلْمٍ ) أي: عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج ، عن ابن عباس: هو [التعمد] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) بشرك.
وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة، وغير واحد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) هو أن تَستحلَ من الحرم ما
حَرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك،
فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [له] العذاب الأليم.
وقال مجاهد: ( بِظُلْمٍ ) : يعمل فيه عملا سيئا.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن السُّدِّي:
أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله -يعني ابن مسعود-في قوله: ( وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد
بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم.
قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون، به .
[قلت: هذا الإسناد]
صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من
كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط، وسفيان الثوري، عن السدي، عن مُرة، عن
ابن مسعود موقوفا، والله أعلم.
وقال الثوري، عن السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله قال: ما من رجل يهم
بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت،
لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم.
وقال سفيان [الثوري] ، عن منصور، عن مجاهد "إلحاد فيه" ، لا والله، وبلى والله. وروي عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، مثله.
وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلم فما فوقَه.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء، عن ميمون بن مِهْرَان، عن ابن
عباس في قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: تجارة
الأمير فيه.
وعن ابن عمر: بيع الطعام [بمكة] إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري، أنبأنا
أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى، عن عمه عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان،
عن يعلى بن أمية؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام
بمكة إلحاد" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر
، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير قال: قال
ابن عباس في قول الله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:
نـزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع
رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد
الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنـزلت
فيه: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) يعني: من لجأ إلى
الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من
ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على
تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ
[ الفيل: 4 ، 5 ]، أي: دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء؛
ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغزو هذا البيت
جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم" الحديث .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كُنَاسة، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه
قال: أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير،
إياك والإلحاد في حَرَم الله، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" ،
فانظر لا تكن هو .
وقال أيضا [في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص] : حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدثنا
سعيد بن عمرو قال: أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير، وهو جالس في
الحِجْر فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في الحرم، فإني أشهد لسَمعتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحلها ويحل به رجل من قريش، ولو وُزنت
ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها" . قال: فانظر لا تكن هو .
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
وَإِذْ
بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة
التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر
تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في
بنائه.
واستدل به كثير ممن قال: "إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله" ، كما ثبت في الصحيح
عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام".
قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس" . قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" .
وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الآية [ آل عمران: 96 ، 97 ]، وقال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ البقرة: 125 ].
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقال تعالى هاهنا: ( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي ) أي: ابْنه على اسمي وحدي، (
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) قال مجاهد وقتادة: من الشرك، ( لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي: اجعله خالصا لهؤلاء الذين
يعبدون الله وحده لا شريك له.
فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من
الأرض سواها، ( وَالْقَائِمِينَ ) أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: (
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا
مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني
من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله
أعلم.
وقوله: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) أي: ناد في الناس داعيا
لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فَذُكر أنه قال: يا رب،
وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي
قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن
الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام
والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج
إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك".
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جَرير، وابن أبي حاتم مُطَوّلة .
وقوله: ( يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ) قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج
ماشيا، لمن قدر عليه، أفضلُ من الحج راكبا؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على
الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا
أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبا مع كمال قوته،
عليه السلام.
وقوله: ( يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ ) يعني: طريق، كما قال: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا [ الأنبياء: 31 ].
وقوله: ( عَمِيقٍ ) أي: بعيد. قاله مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والثوري، وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [ إبراهيم: 37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .
قال ابن عباس: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) قال: منافع الدنيا
والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من
منافع البُدْن والربح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ [ البقرة: 198 ].
وقوله: ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) قال شعبة [وهُشَيْم] عن [أبي بشر عن سعيد] عن ابن عباس: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به
. ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن،
وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي،
والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عَرْعَرَة، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مسلم
البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء".
ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر.
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق، وأفردت لها جزءًا على حدته
، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا عَفَّان، أنبأنا أبو عَوَانة، عن
يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام
العشر، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد" وروي من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر، بنحوه . وقال البخاري: وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [ الفجر: 1 ، 2 ] .
وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [ الأعراف: 142 ].
وفي سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر .
وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة، فقال: "أحتسب على
الله أن يكفر السنة الماضية والآتية" .
ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله .
وبالجملة، فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث،
ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من
صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل: ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم.
قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس:
الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر،
وإبراهيم النَّخَعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا
يحيى بن سعيد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني نافع؛ أن ابن عمر كان يقول: الأيام
المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر
ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر.
هذا إسناد صحيح إليه، وقاله
السدي: وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله
تعالى: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني به: ذكر
الله عند ذبحها.
قول رابع: إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.
وقوله: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني: الإبل والبقر والغنم، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [ الأنعام: 143 ].
وقوله ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) استدل
بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب، والذي عليه
الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا
من مرقها .
وقال عبد الله بن وهب: [قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) : قال ابن وهب] وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك.
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) قال:
كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل، ومن شاء لم
يأكل. وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك.
قال هُشَيْم، عن حُصَين، عن مجاهد في قوله ( فَكُلُوا مِنْهَا ) : هي كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ المائدة: 2 ] ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ الجمعة: 10 ] .
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق
منها بالنصف بقوله في هذه الآية: ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، فجزأها نصفين: نصف للمضحي، ونصف للفقراء.
والقول الآخر: أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الحج: 36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقوله: ( الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، قال عكرمة: هو المضطر الذي عليه البؤس، [والفقير] المتعفف.
وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة: هو الزّمِن. وقال مقاتل بن حيان: هو الضرير.
وقوله: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو وضع [الإحرام] من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد، عنه. وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال: التفث: المناسك.
وقوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البُدن.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) : نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال: الذبائح.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) كل نذر إلى أجل.
وقال عكرمة: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال: [ حجهم.
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان في قوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال:] نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه: الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به. وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) : قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.
قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم
النحر بدأ يرمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم
أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر
عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض .
وقوله: ( بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل
البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم
النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر، وأخبر
أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد
إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني، حدثنا سفيان، عن هشام بن حُجْر،
عن رجل، عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية: ( وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه .
وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [قال] : لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.
وقال خَصِيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وكذا قال قتادة.
وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد: لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة .
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث،
عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن
الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق؛
لأنه لم يظهر عليه جبار".
وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن سهل النجاري ، عن عبد الله بن صالح، به . وقال: إن كان صحيحًا وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري، مرسلا .
ذَلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.
( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه
ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) أي:
فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر
كبير، وكذلك على ترك المحرمات و[اجتناب] المحظورات.
قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
اللَّهِ ) قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه
كلها. وكذا قال ابن زيد.
وقوله: ( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام.
وقوله: ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي: من تحريم الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ] الآية [ المائدة: 3 ]، قال ذلك ابن جرير، وحكاه عن قتادة.
وقوله: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ ) : "من" هاهنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
وقرن الشرك بالله بقول الزور، كقوله: قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ
[ الأعراف: 33 ]، ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى، يا
رسول الله. قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين -وكان متكئا فجلس،
فقال:-ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور". فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته
سكت .
وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، أنبأنا سفيان بن
زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله" ثلاثا،
ثم قرأ: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ )
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، به
ثم قال: "غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد. وقد اختلف عنه في رواية
هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ، عن أبيه، عن حبيب ابن النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك
الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام
قائما فقال: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عز وجل" ، ثم تلا هذه الآية:
( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) .
وقال سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن وائل بن ربيعة، عن ابن
مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية
وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) كقوله وَأُدْخِلَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ
فِيهَا سَلامٌ [ إبراهيم: 23]، وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد: 23 ، 24 ] ، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة: 25 ، 26 ]، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [ الفرقان: 75 ]، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يُرَوّعون به ويقرعون به، يقال لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي: إلى المكان الذي
يحمدون فيه ربهم، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في
الصحيح: "إنهم يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النَّفَسَ".
وقد قال بعض المفسرين في قوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ ) أي: القرآن. وقيل: لا إله إلا الله. وقيل: الأذكار المشروعة، (
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي: الطريق المستقيم في الدنيا. وكل
هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم.
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) .
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ الأنفال: 34 ].
وفي هذه الآية دليل [على] أنها مدنية، كما قال في سورة "البقرة": يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
[ البقرة: 217 ]، وقال: هاهنا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي: ومن صفتهم مع كفرهم
أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام من
أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في
هذه الآية كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ الرعد: 28 ] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله: ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ ) [أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله
الله شرعا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، (
سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ]
ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس في قوله: ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال: ينـزل أهل
مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهد [في قوله]
: ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في
المنازل. وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد [بن
أسلم] .
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضًا، فذهب الشافعي، رحمه الله
إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري، عن علي بن
الحُسَين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله،
أتنـزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك لنا عَقيل من رباع" . ثم قال: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين [وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس، وعمرو بن دينار.
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عيسى بن يونس، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين ، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نَضْلة قال: تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا] السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن .
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها.
وقال أيضًا عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن
عمر بن الخطاب كان ينهى أن تُبوّب دور مكة؛ لأن ينـزل الحاج في عَرَصاتها،
فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك،
فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين
يحبسان لي ظهري قال: فذلك إذًا.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن منصور، عن مجاهد؛ أن عمر بن الخطاب
قال: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينـزل البادي حيث يشاء .
قال: وأخبرنا مَعْمر، عمن سمع عطاء يقول [في قوله] : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ، قال: ينـزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا .
"وتوسط الإمام أحمد [فيما نقله صالح ابنه] فقال: تملك وتورث ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة، والله أعلم.
وقوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء هاهنا زائدة،
كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [ المؤمنون: 20 ] أي: تُنْبِتُ الدهن، وكذا قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ) تقديره إلحادًا، وكما قال الأعشى:
ضَمنَــتْ بـرزق عيالنـا أرْماحُنـا | بيـن المَرَاجِـل, والصّـريحَ الأجـرد |
بـوَاد يَمـانِ يُنْبـتُ الشَّـثّ صَـدْرُهُ | وَأسْـــفَله بـــالمَرْخ والشَّــبَهَان |
وقوله: ( بِظُلْمٍ ) أي: عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج ، عن ابن عباس: هو [التعمد] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) بشرك.
وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة، وغير واحد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) هو أن تَستحلَ من الحرم ما
حَرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك،
فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [له] العذاب الأليم.
وقال مجاهد: ( بِظُلْمٍ ) : يعمل فيه عملا سيئا.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن السُّدِّي:
أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله -يعني ابن مسعود-في قوله: ( وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد
بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم.
قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون، به .
[قلت: هذا الإسناد]
صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من
كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط، وسفيان الثوري، عن السدي، عن مُرة، عن
ابن مسعود موقوفا، والله أعلم.
وقال الثوري، عن السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله قال: ما من رجل يهم
بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت،
لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم.
وقال سفيان [الثوري] ، عن منصور، عن مجاهد "إلحاد فيه" ، لا والله، وبلى والله. وروي عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، مثله.
وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلم فما فوقَه.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء، عن ميمون بن مِهْرَان، عن ابن
عباس في قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: تجارة
الأمير فيه.
وعن ابن عمر: بيع الطعام [بمكة] إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال: المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري، أنبأنا
أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى، عن عمه عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان،
عن يعلى بن أمية؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام
بمكة إلحاد" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر
، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير قال: قال
ابن عباس في قول الله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:
نـزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع
رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد
الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنـزلت
فيه: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) يعني: من لجأ إلى
الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من
ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على
تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ
[ الفيل: 4 ، 5 ]، أي: دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء؛
ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغزو هذا البيت
جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم" الحديث .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كُنَاسة، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه
قال: أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير،
إياك والإلحاد في حَرَم الله، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" ،
فانظر لا تكن هو .
وقال أيضا [في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص] : حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدثنا
سعيد بن عمرو قال: أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير، وهو جالس في
الحِجْر فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في الحرم، فإني أشهد لسَمعتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحلها ويحل به رجل من قريش، ولو وُزنت
ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها" . قال: فانظر لا تكن هو .
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
وَإِذْ
بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة
التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر
تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في
بنائه.
واستدل به كثير ممن قال: "إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله" ، كما ثبت في الصحيح
عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام".
قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس" . قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" .
وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الآية [ آل عمران: 96 ، 97 ]، وقال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ البقرة: 125 ].
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقال تعالى هاهنا: ( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي ) أي: ابْنه على اسمي وحدي، (
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) قال مجاهد وقتادة: من الشرك، ( لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي: اجعله خالصا لهؤلاء الذين
يعبدون الله وحده لا شريك له.
فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من
الأرض سواها، ( وَالْقَائِمِينَ ) أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: (
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا
مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني
من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله
أعلم.
وقوله: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) أي: ناد في الناس داعيا
لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فَذُكر أنه قال: يا رب،
وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي
قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن
الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام
والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج
إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك".
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جَرير، وابن أبي حاتم مُطَوّلة .
وقوله: ( يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ) قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج
ماشيا، لمن قدر عليه، أفضلُ من الحج راكبا؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على
الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا
أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبا مع كمال قوته،
عليه السلام.
وقوله: ( يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ ) يعني: طريق، كما قال: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا [ الأنبياء: 31 ].
وقوله: ( عَمِيقٍ ) أي: بعيد. قاله مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والثوري، وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [ إبراهيم: 37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .
قال ابن عباس: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) قال: منافع الدنيا
والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من
منافع البُدْن والربح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ [ البقرة: 198 ].
وقوله: ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) قال شعبة [وهُشَيْم] عن [أبي بشر عن سعيد] عن ابن عباس: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به
. ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن،
وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي،
والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عَرْعَرَة، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مسلم
البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء".
ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر.
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق، وأفردت لها جزءًا على حدته
، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا عَفَّان، أنبأنا أبو عَوَانة، عن
يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام
العشر، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد" وروي من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر، بنحوه . وقال البخاري: وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [ الفجر: 1 ، 2 ] .
وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [ الأعراف: 142 ].
وفي سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر .
وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة، فقال: "أحتسب على
الله أن يكفر السنة الماضية والآتية" .
ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله .
وبالجملة، فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث،
ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من
صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل: ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم.
قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس:
الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر،
وإبراهيم النَّخَعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا
يحيى بن سعيد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني نافع؛ أن ابن عمر كان يقول: الأيام
المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر
ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر.
هذا إسناد صحيح إليه، وقاله
السدي: وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله
تعالى: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني به: ذكر
الله عند ذبحها.
قول رابع: إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.
وقوله: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني: الإبل والبقر والغنم، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [ الأنعام: 143 ].
وقوله ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) استدل
بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب، والذي عليه
الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا
من مرقها .
وقال عبد الله بن وهب: [قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) : قال ابن وهب] وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك.
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) قال:
كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل، ومن شاء لم
يأكل. وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك.
قال هُشَيْم، عن حُصَين، عن مجاهد في قوله ( فَكُلُوا مِنْهَا ) : هي كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ المائدة: 2 ] ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ الجمعة: 10 ] .
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق
منها بالنصف بقوله في هذه الآية: ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، فجزأها نصفين: نصف للمضحي، ونصف للفقراء.
والقول الآخر: أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الحج: 36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقوله: ( الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، قال عكرمة: هو المضطر الذي عليه البؤس، [والفقير] المتعفف.
وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة: هو الزّمِن. وقال مقاتل بن حيان: هو الضرير.
وقوله: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو وضع [الإحرام] من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد، عنه. وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال: التفث: المناسك.
وقوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البُدن.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) : نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال: الذبائح.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) كل نذر إلى أجل.
وقال عكرمة: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال: [ حجهم.
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان في قوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال:] نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه: الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به. وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) : قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.
قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم
النحر بدأ يرمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم
أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر
عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض .
وقوله: ( بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل
البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم
النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر، وأخبر
أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد
إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني، حدثنا سفيان، عن هشام بن حُجْر،
عن رجل، عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية: ( وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه .
وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [قال] : لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.
وقال خَصِيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وكذا قال قتادة.
وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد: لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة .
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث،
عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن
الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق؛
لأنه لم يظهر عليه جبار".
وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن سهل النجاري ، عن عبد الله بن صالح، به . وقال: إن كان صحيحًا وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري، مرسلا .
ذَلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.
( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه
ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) أي:
فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر
كبير، وكذلك على ترك المحرمات و[اجتناب] المحظورات.
قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
اللَّهِ ) قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه
كلها. وكذا قال ابن زيد.
وقوله: ( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام.
وقوله: ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي: من تحريم الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ] الآية [ المائدة: 3 ]، قال ذلك ابن جرير، وحكاه عن قتادة.
وقوله: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ ) : "من" هاهنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
وقرن الشرك بالله بقول الزور، كقوله: قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ
[ الأعراف: 33 ]، ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى، يا
رسول الله. قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين -وكان متكئا فجلس،
فقال:-ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور". فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته
سكت .
وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، أنبأنا سفيان بن
زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله" ثلاثا،
ثم قرأ: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ )
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، به
ثم قال: "غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد. وقد اختلف عنه في رواية
هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ، عن أبيه، عن حبيب ابن النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك
الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام
قائما فقال: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عز وجل" ، ثم تلا هذه الآية:
( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) .
وقال سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن وائل بن ربيعة، عن ابن
مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الحج
شكرا جزيلا على الموضوع
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الحج
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس من تفسير سورة الحج
» الجزء السابع من تفسير سورة الحج
» الجزء الثامن من تفسير سورة الحج
» الجزء التاسع من تفسير سورة الحج
» الجزء الأول من تفسير سورة الحج
» الجزء السابع من تفسير سورة الحج
» الجزء الثامن من تفسير سورة الحج
» الجزء التاسع من تفسير سورة الحج
» الجزء الأول من تفسير سورة الحج
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الحج
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى