الجزء الثالث من تفسير سورة النور
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النور
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث من تفسير سورة النور
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
ثم قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ ) يعني: طرائقه ومسالكه وما يأمر به، ( وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )
: هذا تنفير وتحذير من ذلك، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) : عمله.
وقال عكرمة: نـزغاته. وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو
مِجْلَز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان.
وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعامًا؟ فقال: هذا من نـزعات الشيطان، كَفِّر عن يمينك، وكُل.
وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده: هذا من نـزغات الشيطان، وأفتاه أن يذبح كبشًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا
السريّ بن يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع قال: غضبت عليَّ امرأتي
فقالت: هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق
امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نـزغات الشيطان. وكذلك
قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، وأتيت عاصم بن عمر،
فقال مثل ذلك.
ثم قال تعالى: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا
زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) أي: لولا هو يرزق من يشاء التوبة
والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق
رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا ( وَلَكِنَّ اللَّهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) أي: من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال
والغي.
وقوله: ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) أي: سميع لأقوال عباده ( عليم ) بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال.
وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يقول تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ ) من الأليَّة، [وهي: الحلف]
أي: لا يحلف ( أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ ) أي: الطَّول والصدقة والإحسان (
وَالسَّعَة ) أي: الجِدَةَ ( أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: لا تحلفوا
ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه
في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام؛ ولهذا قال: ( وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا ) أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى
وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نـزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة
بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنـزل الله
براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على
مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه
-شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه،
وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له
إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله،
وقد وَلَق وَلْقَة
تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه،
معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نـزلت هذه
الآية إلى قوله: ( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح
عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم
رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنـزعها منه أبدًا،
في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه وعن بنته] .
إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خُرِّج مخرج الغالب -المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النـزول، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [بعد هذا الذي ذكر] في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب : 57] .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العَوَّام، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) [قال] : نـزلت في عائشة خاصة.
وكذا قال [سعيد بن جبير و] مقاتل بن حيان، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال:
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي
سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: رُميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد
ذلك. قالت: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي ،
إليه. قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات، وإنه أوحي إليه وهو
جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه، وقال: "يا عائشة أبشري". قالت:
قلت: بحمد الله لا بحمدك. فقرأ: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) ، حتى قرأ: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور : 26] .
هكذا أورده، وليس فيه أن الحكم خاص بها، وإنما فيه أنها سبب النـزول دون
غيرها، وإن كان الحكم يعمها كغيرها، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله،
والله أعلم.
وقال الضحاك، وأبو الجوزاء، وسلمة بن نُبَيْط: المراد بها أزواج النبيّ خاصة، دون غيرهن من النساء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) الآية: يعني أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم، رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا
بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نـزل بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فأنـزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة تُرَدّ.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا العوام بن حوشب، عن شيخ
من بني أسد، عن ابن عباس -قال: فسر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية: (
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا ) الآية -قال: في شأن عائشة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم،
وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا الآية [النور : 4 ، 5] ، قال: فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال: فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه، من حسن ما فسَّر به سورة النور .
فقوله: "وهي مبهمة" ، أي: عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولَعْنته في الدنيا والآخرة.
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا
أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، عز وجل، ولكن عائشة كانت إمامَ
ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن -ابن أخي ابن وهب -حدثنا عمي، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغَيث
عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع
الموبقات". قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل
النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم
الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن بلال، به .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد
الحَذَّاء الحراني، حدثني أبي،(ح) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني، حدثنا جدي
أحمد بن أبي شُعَيب، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن أبي إسحاق، عن صِلَة
بن زُفَر، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قذف المحصنة يهدم
عمل مائة سنة" .
وقوله ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن
مُطَرِّف، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنهم -يعني:
المشركين -إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا
حتى نجحد. فيجحدون فيختم [الله] على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.
وقال ابن جرير، وابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا
ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد،
عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة، عُرف الكافر بعمله،
فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا. فيقول:
أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا، فيقول: احلفوا. فيحلفون، ثم يُصمِتهم الله،
فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار" .
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي
حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكْتب، عن فُضَيل بن
عمرو الفُقَيمي، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله
عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه، ثم قال: "أتدرون
مِمَّ أضحك؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مجادلة العبد ربه يوم
القيامة، يقول: يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز
عليَّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام
عليك شهودا
فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين
الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبيه، عن عُبَيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، به ثم قال النسائي: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله أعلم. هكذا قال.
وقال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة في بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن، فليفعل ولا قوة إلا بالله.
وقوله: ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) قال ابن
عباس: ( دِينَهُمُ ) أي: حسابهم، وكل ما في القرآن ( دِينَهُمُ ) أي:
حسابهم. وكذا قال غير واحد.
ثم إن قراءة الجمهور بنصب ( الْحَقَّ ) على أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد
بالرفع، على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب: "يومئذ
يوفيهم الله الحقّ دينهم" .
وقوله: ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من
الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون
من الرجال للطيبات من القول. قال: ونـزلت في عائشة وأهل الإفك.
وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي
الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك. واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ
بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين
من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنـزاهة منهم؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من
الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء
للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا -أيضًا -يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل
عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل
طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: (
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل
الإفك والعدوان، ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب، (
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي: عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة
النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد
السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال:
جاء أسير
بن جابر إلى عبد الله فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني.
فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده يَتُلُّها
فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .
ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا: "مثل الذي يسمع الحكمة
ثم لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم، فقال:
أجْزِرني شاة. فقال: اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب
الغنم" وفي الحديث الآخر: "الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها" .
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمر
الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا،أي: يستأذنوا قبل
الدخول ويسلموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف،
كما ثبت
في الصحيح: أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف.
ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه
فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما رَجَعَك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا
فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن
أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف". فقال: لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة
وإلا أوجعتك ضربًا. فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا:
لا يشهد لك إلا أصغرنا. فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق .
وقال الإمام أحمد: حَدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت، عن أنس -أو: غيره
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال:"السلام
عليك ورحمة الله". فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى
الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا. ورد عليه
سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال:
يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد
رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم
أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله. فلما فرغ قال: "أكل
طعامكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون" .
وقد رَوَى أبو داود والنسائي، من حديث أبي عمرو الأوزاعي: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد
بن زرارة، عن قيس بن سعد -هو ابن عبادة -قال: زارنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في منـزلنا، فقال: "السلام عليكم ورحمة الله". فردّ سعد ردًا
خفيًا ، قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذَرْه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"السلام عليكم ورحمة الله". فرد سعد رَدًا خفيًا
، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السلام عليكم ورحمة الله" ثم
رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني
كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردّا خفيًا ، لتكثر علينا من السلام. قال: فانصرف معه [رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة]
بزعفران -أو: وَرس -فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه
وهو يقول: "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" . قال: ثم أصاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد
حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
سعد: يا قيس، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال
قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب". فأبيت، فقال: "إما أن
تركب وإما أن تنصرف". قال: فانصرفت.
وقد روي هذا من وجه آخر فهو حديث جيد قويّ، والله أعلم.
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنـزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن
البابُ، عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود: حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل
الحراني -في آخرين -قالوا: حدثنا بَقيَّة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن
عبد الله بن بُسْر
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب
من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: "السلام عليكم،
السلام عليكم". وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. تَفَرد به أبو داود
.
وقال أبو داود أيضًا: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير،(ح) قال أبو
داود: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن طلحة، عن
هُزَيل قال: جاء رجل -قال عثمان: سعد -فوقف على باب النبي صلى الله عليه
وسلم يستأذن، فقام على الباب -قال عثمان: مستقبل الباب -فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: "هكذا عنك -أو: هكذا -فإنما الاستئذان من النظر" .
وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن
مُصَرّف، عن رجل، عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود من
حديثه .
وفي الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن امرأ
اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح" .
وأخرج الجماعة من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: أتيتُ
النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: "من
ذا"؟ قلت: أنا. قال: "أنا، أنا" كأنه كرهه .
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو
كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا"، فلا يحصل
بها المقصود من الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: الاستئناس: الاستئذان. وكذا قال غيرُ واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن
أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: ( لا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا ) قال: إنما هي خطأ من الكاتب، "حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا".
وهكذا رواه
هُشَيم، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس -به. وروى معاذ بن سليمان، عن جعفر
بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس، بمثله، وزاد: وكان ابن عباس يقرأ: "حَتَّى
تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا"، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله
عنه.
وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس.
وقال هُشَيْم
أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: في مصحف ابن مسعود: "حتى تسلموا على أهلها
وتستأذنوا". وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس، وهو اختيار ابن جرير.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني عمرو بن
أبي سفيان: أن عمرو بن أبي صفوان أخبره، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره، أن
صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي صلى الله
عليه وسلم بأعلى الوادي. قال: فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟" وذلك بعدما أسلم
صفوان.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج، به وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوَص، عن منصور، عن رِبْعي قال: حدثنا
رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فقال:
أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلِّمه
الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟" فسمعه الرجل فقال: السلام
عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل .
وقال هُشَيْم: أخبرنا منصور، عن ابن سِيرِين -وأخبرنا يونس بن عبيد، عن
عَمْرو بن سعيد الثقفي -أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أألج -أو: أنلج؟ -فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له، يقال لها روضة:
"قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن، فقولي له يقول: السلام عليكم،
أأدخل". فسمعها الرجل، فقالها، فقال: "ادخل" .
وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا سعيد بن زكريا، عن
عَنْبَسَة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنْكَدِر، عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام قبل
الكلام" .
ثم قال الترمذي: عنبسة ضعيف الحديث ذاهب، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث.
وقال هُشَيْم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه
الرمضاء، فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قالت:
ادخل بسلام. فأعاد، فأعادت، وهو يُرَاوح بين قدميه، قال: قولي: ادخل. قالت: ادخل، فدخل .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم الأحول، حدثنا
خالد بن إياس، حدثتني جدتي أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن [على
عائشة] فقلت: ندخل؟ قالت: لا قلن
لصاحبتكن: تستأذن. فقالت: السلام عليكم، أندخل؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) [الآية] .
وقال هُشَيْم: أخبرنا أشعث بن سَوَّار، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال:
عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم. قال أشعث، عن عدي بن ثابت: إن
امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منـزلي على الحال التي
لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من
أهلي، وأنا على تلك الحال؟ قال: فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: ثلاث آيات جَحَدها الناس: قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات : 13]، قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا. قال:
والإذن كله قد جحده الناس. قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري، معي
في بيت واحد؟ قال: نعم. فرددت ليرخِّص
لي، فأبى. قال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن. قال: فراجعته
أيضًا، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم. قال: فاستأذن.
قال ابن جُرَيْج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات محرم. قال: وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن جريج، عن الزهري: سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.
وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، [قال]
حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن يحيى
بن الجزار، عن ابن أخي زينب -امرأة عبد الله بن مسعود -، عن زينب، رضي
الله عنها، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح
وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر يكرهه . إسناد صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي هُبَيْرة قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس -تكلم ورفع صوته.
[و] قال مجاهد: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: تنحنحوا -أو تَنَخَّموا.
وعن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، أنه قال: إذا دخل الرجل بيته، استحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه.
ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه طُروقًا -وفي رواية: ليلا يَتَخوَّنهم .
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا،
فأناخ بظاهرها، وقال: "انتظروا حتى تدخل عشاء -يعني: آخر النهار -حتى
تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة" .
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن
بن سليمان، عن واصل بن السائب، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب، عن
أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: "يتكلم
الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت". هذا حديث غريب
.
وقال قتادة في قوله: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: هو الاستئذان. [قال: وكان يقال: الاستئذان] ثلاث، فمن لم يؤذن له فيهن، فليرجع. أما الأولى: فليسمع
الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن
شاءوا رَدّوا. ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات
ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه، لا
يسلم عليه، ويقول: حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم.
وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: "قد دخلتُ".
فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر
وعفة، وجعله نقيًا نـزهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وهذا الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) يعني: الاستئذان خير لكم، بمعنى: هو خير للطرفين : للمستأذن ولأهل البيت، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
ثم قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ ) يعني: طرائقه ومسالكه وما يأمر به، ( وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )
: هذا تنفير وتحذير من ذلك، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) : عمله.
وقال عكرمة: نـزغاته. وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو
مِجْلَز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان.
وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعامًا؟ فقال: هذا من نـزعات الشيطان، كَفِّر عن يمينك، وكُل.
وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده: هذا من نـزغات الشيطان، وأفتاه أن يذبح كبشًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا
السريّ بن يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع قال: غضبت عليَّ امرأتي
فقالت: هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق
امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نـزغات الشيطان. وكذلك
قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، وأتيت عاصم بن عمر،
فقال مثل ذلك.
ثم قال تعالى: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا
زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) أي: لولا هو يرزق من يشاء التوبة
والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق
رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا ( وَلَكِنَّ اللَّهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) أي: من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال
والغي.
وقوله: ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) أي: سميع لأقوال عباده ( عليم ) بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال.
وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يقول تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ ) من الأليَّة، [وهي: الحلف]
أي: لا يحلف ( أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ ) أي: الطَّول والصدقة والإحسان (
وَالسَّعَة ) أي: الجِدَةَ ( أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: لا تحلفوا
ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه
في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام؛ ولهذا قال: ( وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا ) أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى
وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نـزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة
بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنـزل الله
براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على
مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه
-شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه،
وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له
إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله،
وقد وَلَق وَلْقَة
تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه،
معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نـزلت هذه
الآية إلى قوله: ( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح
عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم
رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنـزعها منه أبدًا،
في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه وعن بنته] .
إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خُرِّج مخرج الغالب -المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النـزول، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [بعد هذا الذي ذكر] في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب : 57] .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العَوَّام، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) [قال] : نـزلت في عائشة خاصة.
وكذا قال [سعيد بن جبير و] مقاتل بن حيان، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال:
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي
سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: رُميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد
ذلك. قالت: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي ،
إليه. قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات، وإنه أوحي إليه وهو
جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه، وقال: "يا عائشة أبشري". قالت:
قلت: بحمد الله لا بحمدك. فقرأ: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) ، حتى قرأ: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور : 26] .
هكذا أورده، وليس فيه أن الحكم خاص بها، وإنما فيه أنها سبب النـزول دون
غيرها، وإن كان الحكم يعمها كغيرها، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله،
والله أعلم.
وقال الضحاك، وأبو الجوزاء، وسلمة بن نُبَيْط: المراد بها أزواج النبيّ خاصة، دون غيرهن من النساء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) الآية: يعني أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم، رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا
بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نـزل بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فأنـزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة تُرَدّ.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا العوام بن حوشب، عن شيخ
من بني أسد، عن ابن عباس -قال: فسر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية: (
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا ) الآية -قال: في شأن عائشة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم،
وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا الآية [النور : 4 ، 5] ، قال: فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال: فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه، من حسن ما فسَّر به سورة النور .
فقوله: "وهي مبهمة" ، أي: عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولَعْنته في الدنيا والآخرة.
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا
أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، عز وجل، ولكن عائشة كانت إمامَ
ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن -ابن أخي ابن وهب -حدثنا عمي، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغَيث
عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع
الموبقات". قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل
النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم
الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن بلال، به .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد
الحَذَّاء الحراني، حدثني أبي،(ح) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني، حدثنا جدي
أحمد بن أبي شُعَيب، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن أبي إسحاق، عن صِلَة
بن زُفَر، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قذف المحصنة يهدم
عمل مائة سنة" .
وقوله ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن
مُطَرِّف، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنهم -يعني:
المشركين -إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا
حتى نجحد. فيجحدون فيختم [الله] على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.
وقال ابن جرير، وابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا
ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد،
عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة، عُرف الكافر بعمله،
فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا. فيقول:
أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا، فيقول: احلفوا. فيحلفون، ثم يُصمِتهم الله،
فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار" .
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي
حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكْتب، عن فُضَيل بن
عمرو الفُقَيمي، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله
عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه، ثم قال: "أتدرون
مِمَّ أضحك؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مجادلة العبد ربه يوم
القيامة، يقول: يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز
عليَّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام
عليك شهودا
فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين
الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبيه، عن عُبَيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، به ثم قال النسائي: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله أعلم. هكذا قال.
وقال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة في بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن، فليفعل ولا قوة إلا بالله.
وقوله: ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) قال ابن
عباس: ( دِينَهُمُ ) أي: حسابهم، وكل ما في القرآن ( دِينَهُمُ ) أي:
حسابهم. وكذا قال غير واحد.
ثم إن قراءة الجمهور بنصب ( الْحَقَّ ) على أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد
بالرفع، على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب: "يومئذ
يوفيهم الله الحقّ دينهم" .
وقوله: ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من
الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون
من الرجال للطيبات من القول. قال: ونـزلت في عائشة وأهل الإفك.
وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي
الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك. واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ
بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين
من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنـزاهة منهم؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من
الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء
للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا -أيضًا -يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل
عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل
طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: (
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل
الإفك والعدوان، ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب، (
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي: عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة
النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد
السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال:
جاء أسير
بن جابر إلى عبد الله فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني.
فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده يَتُلُّها
فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .
ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا: "مثل الذي يسمع الحكمة
ثم لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم، فقال:
أجْزِرني شاة. فقال: اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب
الغنم" وفي الحديث الآخر: "الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها" .
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمر
الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا،أي: يستأذنوا قبل
الدخول ويسلموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف،
كما ثبت
في الصحيح: أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف.
ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه
فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما رَجَعَك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا
فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن
أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف". فقال: لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة
وإلا أوجعتك ضربًا. فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا:
لا يشهد لك إلا أصغرنا. فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق .
وقال الإمام أحمد: حَدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت، عن أنس -أو: غيره
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال:"السلام
عليك ورحمة الله". فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى
الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا. ورد عليه
سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال:
يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد
رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم
أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله. فلما فرغ قال: "أكل
طعامكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون" .
وقد رَوَى أبو داود والنسائي، من حديث أبي عمرو الأوزاعي: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد
بن زرارة، عن قيس بن سعد -هو ابن عبادة -قال: زارنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في منـزلنا، فقال: "السلام عليكم ورحمة الله". فردّ سعد ردًا
خفيًا ، قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذَرْه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"السلام عليكم ورحمة الله". فرد سعد رَدًا خفيًا
، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السلام عليكم ورحمة الله" ثم
رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني
كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردّا خفيًا ، لتكثر علينا من السلام. قال: فانصرف معه [رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة]
بزعفران -أو: وَرس -فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه
وهو يقول: "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" . قال: ثم أصاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد
حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
سعد: يا قيس، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال
قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب". فأبيت، فقال: "إما أن
تركب وإما أن تنصرف". قال: فانصرفت.
وقد روي هذا من وجه آخر فهو حديث جيد قويّ، والله أعلم.
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنـزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن
البابُ، عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود: حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل
الحراني -في آخرين -قالوا: حدثنا بَقيَّة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن
عبد الله بن بُسْر
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب
من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: "السلام عليكم،
السلام عليكم". وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. تَفَرد به أبو داود
.
وقال أبو داود أيضًا: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير،(ح) قال أبو
داود: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن طلحة، عن
هُزَيل قال: جاء رجل -قال عثمان: سعد -فوقف على باب النبي صلى الله عليه
وسلم يستأذن، فقام على الباب -قال عثمان: مستقبل الباب -فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: "هكذا عنك -أو: هكذا -فإنما الاستئذان من النظر" .
وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن
مُصَرّف، عن رجل، عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود من
حديثه .
وفي الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن امرأ
اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح" .
وأخرج الجماعة من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: أتيتُ
النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: "من
ذا"؟ قلت: أنا. قال: "أنا، أنا" كأنه كرهه .
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو
كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا"، فلا يحصل
بها المقصود من الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: الاستئناس: الاستئذان. وكذا قال غيرُ واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن
أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: ( لا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا ) قال: إنما هي خطأ من الكاتب، "حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا".
وهكذا رواه
هُشَيم، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس -به. وروى معاذ بن سليمان، عن جعفر
بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس، بمثله، وزاد: وكان ابن عباس يقرأ: "حَتَّى
تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا"، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله
عنه.
وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس.
وقال هُشَيْم
أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: في مصحف ابن مسعود: "حتى تسلموا على أهلها
وتستأذنوا". وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس، وهو اختيار ابن جرير.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني عمرو بن
أبي سفيان: أن عمرو بن أبي صفوان أخبره، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره، أن
صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي صلى الله
عليه وسلم بأعلى الوادي. قال: فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟" وذلك بعدما أسلم
صفوان.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج، به وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوَص، عن منصور، عن رِبْعي قال: حدثنا
رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فقال:
أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلِّمه
الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟" فسمعه الرجل فقال: السلام
عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل .
وقال هُشَيْم: أخبرنا منصور، عن ابن سِيرِين -وأخبرنا يونس بن عبيد، عن
عَمْرو بن سعيد الثقفي -أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أألج -أو: أنلج؟ -فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له، يقال لها روضة:
"قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن، فقولي له يقول: السلام عليكم،
أأدخل". فسمعها الرجل، فقالها، فقال: "ادخل" .
وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا سعيد بن زكريا، عن
عَنْبَسَة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنْكَدِر، عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام قبل
الكلام" .
ثم قال الترمذي: عنبسة ضعيف الحديث ذاهب، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث.
وقال هُشَيْم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه
الرمضاء، فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قالت:
ادخل بسلام. فأعاد، فأعادت، وهو يُرَاوح بين قدميه، قال: قولي: ادخل. قالت: ادخل، فدخل .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم الأحول، حدثنا
خالد بن إياس، حدثتني جدتي أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن [على
عائشة] فقلت: ندخل؟ قالت: لا قلن
لصاحبتكن: تستأذن. فقالت: السلام عليكم، أندخل؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) [الآية] .
وقال هُشَيْم: أخبرنا أشعث بن سَوَّار، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال:
عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم. قال أشعث، عن عدي بن ثابت: إن
امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منـزلي على الحال التي
لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من
أهلي، وأنا على تلك الحال؟ قال: فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: ثلاث آيات جَحَدها الناس: قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات : 13]، قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا. قال:
والإذن كله قد جحده الناس. قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري، معي
في بيت واحد؟ قال: نعم. فرددت ليرخِّص
لي، فأبى. قال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن. قال: فراجعته
أيضًا، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم. قال: فاستأذن.
قال ابن جُرَيْج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات محرم. قال: وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن جريج، عن الزهري: سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.
وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، [قال]
حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن يحيى
بن الجزار، عن ابن أخي زينب -امرأة عبد الله بن مسعود -، عن زينب، رضي
الله عنها، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح
وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر يكرهه . إسناد صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي هُبَيْرة قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس -تكلم ورفع صوته.
[و] قال مجاهد: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: تنحنحوا -أو تَنَخَّموا.
وعن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، أنه قال: إذا دخل الرجل بيته، استحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه.
ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه طُروقًا -وفي رواية: ليلا يَتَخوَّنهم .
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا،
فأناخ بظاهرها، وقال: "انتظروا حتى تدخل عشاء -يعني: آخر النهار -حتى
تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة" .
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن
بن سليمان، عن واصل بن السائب، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب، عن
أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: "يتكلم
الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت". هذا حديث غريب
.
وقال قتادة في قوله: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: هو الاستئذان. [قال: وكان يقال: الاستئذان] ثلاث، فمن لم يؤذن له فيهن، فليرجع. أما الأولى: فليسمع
الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن
شاءوا رَدّوا. ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات
ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه، لا
يسلم عليه، ويقول: حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم.
وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: "قد دخلتُ".
فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر
وعفة، وجعله نقيًا نـزهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وهذا الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) يعني: الاستئذان خير لكم، بمعنى: هو خير للطرفين : للمستأذن ولأهل البيت، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة النور
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة النور
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة النور
بآرك آلله فيكـم ونفع بكـم
اسأل الله العظيم
أن يرزقكم الفردوس الأعلى من الجنان
وأن يثيبكم البارئ على ما طرحتـم / خير الثواب
في انتظار جديدكم المميز
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس من تفسير سورة النور
» الجزء السادس من تفسير سورة النور
» الجزء السابع من تفسير سورة النور
» الجزء الثامن من تفسير سورة النور
» الجزء التاسع من تفسير سورة النور
» الجزء السادس من تفسير سورة النور
» الجزء السابع من تفسير سورة النور
» الجزء الثامن من تفسير سورة النور
» الجزء التاسع من تفسير سورة النور
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النور
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى