الجزء الخامس من تفسير سورة النور
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النور
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة النور
وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة،
والأوامر المبرمة، فقوله تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) : هذا أمر بالتزويج. وقد
ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
أخرجاه من حديث ابن مسعود .
وجاء في السنن -من غير وجه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تَزَوَّجوا، توالدوا، تناسلوا، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة" وفي رواية: "حتى بالسقط".
الأيامى: جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا
زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري
عن أهل اللغة، يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا.
وقوله تعالى: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى،
فقال: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر
بن عبد الواحد، عن سعيد -يعني: ابن عبد العزيز -قال: بلغني أن أبا بكر
الصديق، رضي الله عنه، قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز
[لكم] ما وعدكم من الغنى، قال: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) رواه ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن الليث، عن محمد بن عَجْلان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة، رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حَقٌّ على الله
عَوْنهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتَب يريد الأداء، والغازي في سبيل
الله". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه
وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره ، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [وإياها]
ما فيه كفاية له ولها. فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: "تزوجوا
فقراء يغنكم الله"، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن،
وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذا الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله ) . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتعفف] عن الحرام، كما قال -عليه الصلاة والسلام
-: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر،
وأحْصَنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء".
وهذه الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها، وهي قوله تعالى: وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ، إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير؛ لأن الولد يجيء رقيقا، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
قال عكرمة في قوله: ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا
) قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها
وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] حتى يغنيه الله.
وقوله: ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) هذا أمر
من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا
، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على
أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب، لا
أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه،
وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثوري، عن جابر، عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن رجل، عن عطاء بن أبي رَبَاح: إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر:
قال البخاري: وقال روح، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء: [أواجب عليّ إذا علمت
له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت
لعطاء] ، أتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ -وكان كثير المال، فأبى. فانطلق
إلى عمر بن الخطاب فقال: كاتبه. فأبى، فضربه بالدّرة، ويتلو عمر، رضي الله
عنه: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، فكاتبه
هكذا ذكره البخاري تعليقا . ورواه عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار، قال: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا سعيد،
عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له
عمر: لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح .
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر، عن الضحاك قال: هي عَزْمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي، رحمه الله، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" .
وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه
إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال
مالك: وإنما ذلك أمر من الله، وإذن منه للناس، وليس بواجب.
وكذا قال الثوري، وأبو حنيفة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله: ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، قال بعضهم: أمانة. وقال بعضهم: صدقا. [وقال بعضهم: مالا] وقال بعضهم: حيلة وكسبا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا ) قال: "إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كَلا على الناس".
وقوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم ) اختلف
المفسرون فيه، فقال قائلون: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثم قال
بعضهم: مقدار الربع. وقيل: الثلث. وقيل: النصف. وقيل: جزء من الكتابة من
غير واحد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ ) هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات. وهذا
قول الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبيه، ومقاتل بن حيان. واختاره
ابن جرير.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال: حَثَّ الناس عليه مولاه وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، وقتادة.
وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في
الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة حق على الله عونهم":
فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء، والقول الأول أشهر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وَكِيع، عن ابن
شَبِيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر؛ أنه كاتب عبدًا له، يكنى أبا أمية،
فجاء بنجمه حين حل، فقال: يا أبا أمية، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال:
يا أمير المؤمنين، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم؟ قال: أخاف ألا أدرك ذلك.
ثم قرأ: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال عكرمة: كان أول نجم أدّي في الإسلام.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسَةَ، عن
سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع
عنه شيئا من أول نجومه، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في
آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحب .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ ) قال: يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد،
وعطاء، والقاسم بن أبي بَزَّة، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ، والسدي.
وقال محمد بن سيرين في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ ) : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ، أخبرنا إبراهيم بن
موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد
الله بن جندب أخبره، عن علي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ربع الكتابة" .
وهذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على عليّ، رضي الله عنه، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله .
وقوله: ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية: كان أهل
الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها
كلّ وقت. فلما جاء الإسلام، نهى الله المسلمين عن ذلك.
وكان سبب نـزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين، من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [المنافق] فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم [قبحه الله ولعنه]
[ذكر الآثار الواردة في ذلك]
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار، رحمه الله، في
مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي -يعني: محمد بن
الحجاج -حدثنا محمد ابن إسحاق، عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن
أبي ابن سلول، يقال لها: معاذة، يكرهها على الزنى، فلما جاء الإسلام نـزلت:
( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) إلى قوله: ( فَإِنَّ
اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في هذه الآية: ( وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) قال: نـزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن
سلول يقال لها: مُسَيْكَة، كان يكرهها على الفجور -وكانت لا بأس بها
-فتأبى. فأنـزل الله، عز وجل، هذه الآية إلى قوله ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وروى النسائي، من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا علي بن سعيد،
حدثنا الأعمش، حدثني أبو سفيان، عن جابر قال: كان لعبد الله بن أُبَيٍّ
ابنِ سلولَ جارية يقال لها: مسيكة، وكان يكرهها على البغاء، فأنـزل الله: (
وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) ، إلى قوله: ( وَمَنْ
يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
.
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: "لم يسمع منه، إنما هو صحيفة" حكاه البزار.
قال أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن
ابن عباس؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية، فولدت أولادًا
من الزنى، فقال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت لا والله لا أزني. فضربها، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري: أن رجلا من قريش أُسر يوم
بدر، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية
يقال لها: معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة
. وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك
ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشي، فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال السدي: أنـزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس
المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نـزل به ضيف أرسلها إليه
ليواقعها، إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر، رضي
الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره
بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يَعْذُرني من محمد، يغلبنا على مملوكتنا؟
فأنـزل الله فيهم هذا.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان: بلغنا -والله أعلم -أن هذه الآية نـزلت في
رجلين كانا يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مُسَيْكَة، وكانت للأنصاريّ،
وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنـزلة،
فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتا ذلك له، فأنـزل الله في
ذلك ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) يعني: الزنى.
وقوله: ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له.وقوله: ( لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [الْحَيَاةِ] الدُّنْيَا ) أي: من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كسب الحجَّام، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن -وفي رواية: "مهر البغي خبيث، وكسب الحجَّام خبيث، وثمن الكلب خبيث"
وقوله: ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [أي: لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] وإثمهن على من أكرههن: وكذا قال مجاهد، وعطاء الخراساني، والأعمش، وقتادة.
وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق، عن عَوْف، عن الحسن في هذه الآية: (
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال: لهن
والله. لهن والله.
وعن الزهري قال: غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال: غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله، حدثني
ابن لَهِيعَة، حدثني عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر قال: في قراءة عبد الله بن
مسعود: "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وإثمهن على من أكرههن.
وفي الحديث المرفوع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تعالى
هذه الأحكام وبَيَّنها قال: ( وَلَقَدْ أَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ ) يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسرات، ( وَمَثَلا مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: خبرا عن الأمم الماضية، وما حلَّ
بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى ، كما قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [الزخرف: 56]
( وَمَوْعِظَةً ) أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: لمن اتقى الله وخافه.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم،
وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من
جَبَّار قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد وابن عباس في قوله: ( اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يدبر الأمر فيهما، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي، حدثنا وهب بن
راشد، عن فَرْقَد، عن أنس بن مالك قال: إن إلهي يقول: نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جرير، رحمه الله.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن
كعب في قول الله تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: هو
المؤمن الذي جعل [الله]
الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: ( اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل
نور من آمن به. قال: فكان أُبي بن كعب يقرؤها: "مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره".
وهكذا قال سعيد بن جُبير، وقيس بن سعد، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك: "نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم:"اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْض" .
وعن الضحاك: "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ".
وقال السدي في قوله: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) : فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذي
أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غَضبك أو ينـزل
بي سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
وفي الصحيحين، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من
الليل يقول: "اللهم لك الحمد، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك
الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" الحديث .
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: ( مَثَلُ نُورِهِ ) في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى الله، عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عباس ( كمشكاة ) .
والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام: تقديره:
مثل نور المؤمن الذي في قلبه، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه
من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى:
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] ، فشبه قلب
المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه
من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا
انحراف.
فقوله
: ( كَمِشْكَاةٍ ) : قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغير واحد: هو
موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور؛ ولهذا قال بعده: ( فِيهَا
مِصْبَاحٌ ) ، وهو الذُّبالة التي تضيء.
وقال العوفي، عن ابن عباس [في]
قوله: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله
عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره،
فقال: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) .
والمشكاة: كوَّة في البيت -قال: وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته . فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال:
المشكاة: الكوة التي لا منفذ لها. وعن مجاهد: المشكاة: الحدائد التي يعلق
بها القنديل.
والقول الأول أولى، وهو: أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل؛ ولهذا قال: ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) وهو النور الذي في الذُّبالة.
قال أبيً بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال السُّدِّي: هو السراج.
( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
قال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن. ( الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة، من
الدّر، أي: كأنها كوكب من دُرّ.
وقرأ آخرون: "دِرّيء" و"دُرِّيء" بكسر الدال وضمها مع الهمز، من الدَرْء
وهو الدفع؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال،
والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء. وقال قتادة: مضيء مبين ضخم. ( يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة (
زيتونة ) بدل أو عطف بيان ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أي: ليست في
شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربيها فيتقلّص
عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط، تَفْرَعه الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله بن سعد، أخبرنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حرب، عن عِكْرِمة، عن
ابن عباس في قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال:
شجرة بالصحراء، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود
لزيتها.
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان، عن عمران بن حُدَيْر، عن عكرمة، في قوله: (
لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي بصحراء، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا عُمَر بن
فَرُّوخ، عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة -وسأله رجل عن: ( زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال تلك [زيتونة] بأرض فلاة، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت.
وقال مجاهد في قوله: ( [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: ليست بشرقية، لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت، [ولكنها شرقية وغربية، تصيبها إذا طلعت] وإذا غربت.
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) قال: هو أجود الزيت. قال: إذا
طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس،
فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال السدي [في] قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) يقول: ليست بشرقية يحوزها المشرق، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها على رأس جبل، أو في صحراء، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل: المراد بقوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أنها في وسط الشجر، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن
كعب، في قول الله تعالى: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال: فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا
إذا غربت. قال: فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد
ابتلي بها فيثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن قال صَدَق، وإن حكم
عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في
قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مُسَدَّد قال: حدثنا أبو
عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي وسط الشجر، لا تصيبها الشمس شرقا
ولا غربا.
وقال عطية العوفي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي شجرة في
موضع من الشجر، يرى ظل ثمرها في ورقها، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس
ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي،
حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله
عنهما، في قوله تعالى: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ليست شرقية ليس
فيها غرب، ولا غربية ليس فيها شرق، ولكنها شرقية غربية.
وقال محمد بن كعب القُرَظي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي القبْلية.
وقال زيد بن أسلم: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: الشام.
وقال الحسن البصري: لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله لنوره.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قال:
رجل صالح ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: لا يهودي
ولا نصراني.
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول، وهو أنها في مستوى من الأرض، في مكان
فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى
لزينتها وألطف، كما قال غير واحد ممن تقدم؛ ولهذا قال: ( يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم: يعني: لضوء إشراق الزيت.
وقوله: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال العوفي، عن ابن عباس: يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال مجاهد، والسدي: يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي بن كعب: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) فهو يتقلب في خمسة من النور،
فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم
القيامة إلى الجنة.
وقال شِمْر بن عَطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول
الله: ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال: يكاد محمد يبين للناس، وإن لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال السُّدِّي في قوله: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: نور النار ونور
الزيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور
الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه]
وقوله: ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) أي: يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله [بن]
الديلمي، عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصاب يومئذ
من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله عز وجل"
طريق أخرى عنه: قال البزار: حدثنا أيوب
بن سُوَيْد، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني، عن أبيه، عن عبد الله بن
عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة،
فألقى عليهم نورًا من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" .[ورواه البزار، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر، بلفظه وحروفه] .
وقوله تعالى: ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن،
ختم الآية بقوله: ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق
الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر: حدثنا أبو معاوية -يعني
شيبان -، عن ليث، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَري، عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد
فيه مثل السراج يُزهرُ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب
مُصْفَح: فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأما القلب
الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب [المنافق]
عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان
فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة
يَمُدَّها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" . إسناده
جيد ولم يخرجوه.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36)
لما ضرب الله تعالى [مثل]
قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة الصافية
المتوقّد من زيت طيب، وذلك كالقنديل، ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب
البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد، فقال:
( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) أي: أمر الله تعالى برفعها،
أي: بتطهيرها من الدنس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها، كما
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ( فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا
قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي
حَثْمة وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء المفسرين.
وقال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله، سبحانه، ببنائها ورفعها، وأمر
بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول: إن في التوراة مكتوبًا:
" ألا إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في
بيتي أكرمته، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر" . رواه عبد الرحمن بن أبي
حاتم في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها
وتبخيرها. وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة،
ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفا من ذلك، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان:
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له
مثله في الجنة". أخرجاه في الصحيحين .
وروى ابن ماجه، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله، بنى الله له بيتا في
الجنة" .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة مثله . والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب . رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه.
وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
وروى ابن ماجه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم". وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما أمِرْتُ بتشييد المساجد". قال ابن عباس: لَتُزَخرفُنّها
كما زَخْرَفت اليهود والنصارى
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم
الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا
الترمذي
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل
الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما
بنيت له". رواه مسلم.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل
السنن ، وقال الترمذي: حسن.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم: قال:
"إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا
رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد، فقولوا: لا رَدَّ الله عليك". رواه
الترمذي، وقال: حسن غريب.
وقد روى ابن ماجه وغيره، من حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: "خصال لا تنبغي
في المسجد: لا يُتَّخذُ طريقًا، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح، ولا يُنبَض فيه
بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء: ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ،
ولا يُقْتَص فيه من أحد، ولا يُتَّخذ سوقًا" .
وعن واثلة بن الأسقع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبوا
المساجد صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم،
وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمّروها في
الجُمَع".
ورواه ابن ماجه أيضًا وفي إسنادهما ضعف.
أما أنه "لا يتخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا
وَجَد مندوحة عنه. وفي الأثر: "إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد
لا يصلي فيه".
وأما أنه "لا يشهر فيه بسلاح . ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل"
. فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه؛ ولهذا أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي
أحدًا، كما ثبت في الصحيح .
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث.
وأما أنه "لا يضرب فيه حد ولا يقتص" ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع.
وأما أنه "لا يتخذ سوقًا" ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه،
فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام،
لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: "إن المساجد لم تبن لهذا، إنما
بنيت لذكر الله والصلاة فيها". ثم أمر بسَجْل من ماء، فأهريق على بوله .
وفي الحديث الثاني: "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم" ، وذلك لأنهم يلعبون فيه
ولا يناسبهم، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا رأى صبيانًا
يلعبون في المسجد ، ضربهم بالمِخْفَقَة -وهي الدِّرَّة -وكان يَعُسّ المسجد بعد العشاء، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني: لأجل ضعف عقولهم، وسَخْر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدم.
"وخصوماتكم" يعني: التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن
الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره؛ لما فيه
من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط الذي لا يناسبه؛ ولهذا قال بعده: "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا الجُعَيْد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن خُصَيفَة ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما: ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال النسائي: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة،
عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت
رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا صحيح.
وقوله: "وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم": تقدما.
وقوله: "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني: المراحيض التي يستعان بها
على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: "وجمِّروها في الجُمَع" يعني: بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله، حدثنا عبد الرحمن
بن مهدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر؛ أن عمر كان يُجَمِّر
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة
الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين
ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه
ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها
درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في
مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة"
وعند الدارقطني مرفوعًا: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" .
وفي السنن: "بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" .
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم" [قال: أقط؟ قال: نعم] . قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم .
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد -أو: أبي أسَيْد -قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك،
وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النسائي عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم [مثله] .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم
افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النب
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة،
والأوامر المبرمة، فقوله تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) : هذا أمر بالتزويج. وقد
ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
أخرجاه من حديث ابن مسعود .
وجاء في السنن -من غير وجه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تَزَوَّجوا، توالدوا، تناسلوا، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة" وفي رواية: "حتى بالسقط".
الأيامى: جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا
زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري
عن أهل اللغة، يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا.
وقوله تعالى: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى،
فقال: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر
بن عبد الواحد، عن سعيد -يعني: ابن عبد العزيز -قال: بلغني أن أبا بكر
الصديق، رضي الله عنه، قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز
[لكم] ما وعدكم من الغنى، قال: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) رواه ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن الليث، عن محمد بن عَجْلان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة، رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حَقٌّ على الله
عَوْنهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتَب يريد الأداء، والغازي في سبيل
الله". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه
وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره ، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [وإياها]
ما فيه كفاية له ولها. فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: "تزوجوا
فقراء يغنكم الله"، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن،
وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذا الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله ) . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتعفف] عن الحرام، كما قال -عليه الصلاة والسلام
-: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر،
وأحْصَنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء".
وهذه الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها، وهي قوله تعالى: وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ، إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير؛ لأن الولد يجيء رقيقا، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
قال عكرمة في قوله: ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا
) قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها
وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] حتى يغنيه الله.
وقوله: ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) هذا أمر
من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا
، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على
أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب، لا
أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه،
وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثوري، عن جابر، عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن رجل، عن عطاء بن أبي رَبَاح: إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر:
قال البخاري: وقال روح، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء: [أواجب عليّ إذا علمت
له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت
لعطاء] ، أتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ -وكان كثير المال، فأبى. فانطلق
إلى عمر بن الخطاب فقال: كاتبه. فأبى، فضربه بالدّرة، ويتلو عمر، رضي الله
عنه: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، فكاتبه
هكذا ذكره البخاري تعليقا . ورواه عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار، قال: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا سعيد،
عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له
عمر: لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح .
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر، عن الضحاك قال: هي عَزْمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي، رحمه الله، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" .
وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه
إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال
مالك: وإنما ذلك أمر من الله، وإذن منه للناس، وليس بواجب.
وكذا قال الثوري، وأبو حنيفة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله: ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، قال بعضهم: أمانة. وقال بعضهم: صدقا. [وقال بعضهم: مالا] وقال بعضهم: حيلة وكسبا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا ) قال: "إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كَلا على الناس".
وقوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم ) اختلف
المفسرون فيه، فقال قائلون: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثم قال
بعضهم: مقدار الربع. وقيل: الثلث. وقيل: النصف. وقيل: جزء من الكتابة من
غير واحد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ ) هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات. وهذا
قول الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبيه، ومقاتل بن حيان. واختاره
ابن جرير.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال: حَثَّ الناس عليه مولاه وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، وقتادة.
وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في
الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة حق على الله عونهم":
فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء، والقول الأول أشهر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وَكِيع، عن ابن
شَبِيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر؛ أنه كاتب عبدًا له، يكنى أبا أمية،
فجاء بنجمه حين حل، فقال: يا أبا أمية، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال:
يا أمير المؤمنين، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم؟ قال: أخاف ألا أدرك ذلك.
ثم قرأ: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال عكرمة: كان أول نجم أدّي في الإسلام.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسَةَ، عن
سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع
عنه شيئا من أول نجومه، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في
آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحب .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ ) قال: يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد،
وعطاء، والقاسم بن أبي بَزَّة، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ، والسدي.
وقال محمد بن سيرين في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ ) : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ، أخبرنا إبراهيم بن
موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد
الله بن جندب أخبره، عن علي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ربع الكتابة" .
وهذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على عليّ، رضي الله عنه، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله .
وقوله: ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية: كان أهل
الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها
كلّ وقت. فلما جاء الإسلام، نهى الله المسلمين عن ذلك.
وكان سبب نـزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين، من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [المنافق] فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم [قبحه الله ولعنه]
[ذكر الآثار الواردة في ذلك]
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار، رحمه الله، في
مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي -يعني: محمد بن
الحجاج -حدثنا محمد ابن إسحاق، عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن
أبي ابن سلول، يقال لها: معاذة، يكرهها على الزنى، فلما جاء الإسلام نـزلت:
( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) إلى قوله: ( فَإِنَّ
اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في هذه الآية: ( وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) قال: نـزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن
سلول يقال لها: مُسَيْكَة، كان يكرهها على الفجور -وكانت لا بأس بها
-فتأبى. فأنـزل الله، عز وجل، هذه الآية إلى قوله ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وروى النسائي، من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا علي بن سعيد،
حدثنا الأعمش، حدثني أبو سفيان، عن جابر قال: كان لعبد الله بن أُبَيٍّ
ابنِ سلولَ جارية يقال لها: مسيكة، وكان يكرهها على البغاء، فأنـزل الله: (
وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) ، إلى قوله: ( وَمَنْ
يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
.
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: "لم يسمع منه، إنما هو صحيفة" حكاه البزار.
قال أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن
ابن عباس؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية، فولدت أولادًا
من الزنى، فقال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت لا والله لا أزني. فضربها، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري: أن رجلا من قريش أُسر يوم
بدر، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية
يقال لها: معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة
. وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك
ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشي، فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال السدي: أنـزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس
المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نـزل به ضيف أرسلها إليه
ليواقعها، إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر، رضي
الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره
بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يَعْذُرني من محمد، يغلبنا على مملوكتنا؟
فأنـزل الله فيهم هذا.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان: بلغنا -والله أعلم -أن هذه الآية نـزلت في
رجلين كانا يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مُسَيْكَة، وكانت للأنصاريّ،
وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنـزلة،
فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتا ذلك له، فأنـزل الله في
ذلك ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) يعني: الزنى.
وقوله: ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له.وقوله: ( لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [الْحَيَاةِ] الدُّنْيَا ) أي: من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كسب الحجَّام، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن -وفي رواية: "مهر البغي خبيث، وكسب الحجَّام خبيث، وثمن الكلب خبيث"
وقوله: ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [أي: لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] وإثمهن على من أكرههن: وكذا قال مجاهد، وعطاء الخراساني، والأعمش، وقتادة.
وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق، عن عَوْف، عن الحسن في هذه الآية: (
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال: لهن
والله. لهن والله.
وعن الزهري قال: غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال: غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله، حدثني
ابن لَهِيعَة، حدثني عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر قال: في قراءة عبد الله بن
مسعود: "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وإثمهن على من أكرههن.
وفي الحديث المرفوع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تعالى
هذه الأحكام وبَيَّنها قال: ( وَلَقَدْ أَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ ) يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسرات، ( وَمَثَلا مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: خبرا عن الأمم الماضية، وما حلَّ
بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى ، كما قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [الزخرف: 56]
( وَمَوْعِظَةً ) أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: لمن اتقى الله وخافه.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم،
وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من
جَبَّار قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد وابن عباس في قوله: ( اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يدبر الأمر فيهما، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي، حدثنا وهب بن
راشد، عن فَرْقَد، عن أنس بن مالك قال: إن إلهي يقول: نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جرير، رحمه الله.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن
كعب في قول الله تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: هو
المؤمن الذي جعل [الله]
الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: ( اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل
نور من آمن به. قال: فكان أُبي بن كعب يقرؤها: "مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره".
وهكذا قال سعيد بن جُبير، وقيس بن سعد، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك: "نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم:"اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْض" .
وعن الضحاك: "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ".
وقال السدي في قوله: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) : فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذي
أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غَضبك أو ينـزل
بي سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
وفي الصحيحين، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من
الليل يقول: "اللهم لك الحمد، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك
الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" الحديث .
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: ( مَثَلُ نُورِهِ ) في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى الله، عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عباس ( كمشكاة ) .
والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام: تقديره:
مثل نور المؤمن الذي في قلبه، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه
من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى:
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] ، فشبه قلب
المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه
من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا
انحراف.
فقوله
: ( كَمِشْكَاةٍ ) : قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغير واحد: هو
موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور؛ ولهذا قال بعده: ( فِيهَا
مِصْبَاحٌ ) ، وهو الذُّبالة التي تضيء.
وقال العوفي، عن ابن عباس [في]
قوله: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله
عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره،
فقال: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) .
والمشكاة: كوَّة في البيت -قال: وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته . فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال:
المشكاة: الكوة التي لا منفذ لها. وعن مجاهد: المشكاة: الحدائد التي يعلق
بها القنديل.
والقول الأول أولى، وهو: أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل؛ ولهذا قال: ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) وهو النور الذي في الذُّبالة.
قال أبيً بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال السُّدِّي: هو السراج.
( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
قال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن. ( الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة، من
الدّر، أي: كأنها كوكب من دُرّ.
وقرأ آخرون: "دِرّيء" و"دُرِّيء" بكسر الدال وضمها مع الهمز، من الدَرْء
وهو الدفع؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال،
والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء. وقال قتادة: مضيء مبين ضخم. ( يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة (
زيتونة ) بدل أو عطف بيان ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أي: ليست في
شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربيها فيتقلّص
عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط، تَفْرَعه الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله بن سعد، أخبرنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حرب، عن عِكْرِمة، عن
ابن عباس في قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال:
شجرة بالصحراء، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود
لزيتها.
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان، عن عمران بن حُدَيْر، عن عكرمة، في قوله: (
لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي بصحراء، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا عُمَر بن
فَرُّوخ، عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة -وسأله رجل عن: ( زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال تلك [زيتونة] بأرض فلاة، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت.
وقال مجاهد في قوله: ( [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: ليست بشرقية، لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت، [ولكنها شرقية وغربية، تصيبها إذا طلعت] وإذا غربت.
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) قال: هو أجود الزيت. قال: إذا
طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس،
فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال السدي [في] قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) يقول: ليست بشرقية يحوزها المشرق، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها على رأس جبل، أو في صحراء، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل: المراد بقوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أنها في وسط الشجر، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن
كعب، في قول الله تعالى: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال: فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا
إذا غربت. قال: فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد
ابتلي بها فيثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن قال صَدَق، وإن حكم
عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في
قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مُسَدَّد قال: حدثنا أبو
عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي وسط الشجر، لا تصيبها الشمس شرقا
ولا غربا.
وقال عطية العوفي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي شجرة في
موضع من الشجر، يرى ظل ثمرها في ورقها، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس
ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي،
حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله
عنهما، في قوله تعالى: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ليست شرقية ليس
فيها غرب، ولا غربية ليس فيها شرق، ولكنها شرقية غربية.
وقال محمد بن كعب القُرَظي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: هي القبْلية.
وقال زيد بن أسلم: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: الشام.
وقال الحسن البصري: لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله لنوره.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قال:
رجل صالح ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: لا يهودي
ولا نصراني.
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول، وهو أنها في مستوى من الأرض، في مكان
فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى
لزينتها وألطف، كما قال غير واحد ممن تقدم؛ ولهذا قال: ( يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم: يعني: لضوء إشراق الزيت.
وقوله: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال العوفي، عن ابن عباس: يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال مجاهد، والسدي: يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي بن كعب: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) فهو يتقلب في خمسة من النور،
فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم
القيامة إلى الجنة.
وقال شِمْر بن عَطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول
الله: ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال: يكاد محمد يبين للناس، وإن لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال السُّدِّي في قوله: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: نور النار ونور
الزيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور
الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه]
وقوله: ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) أي: يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله [بن]
الديلمي، عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصاب يومئذ
من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله عز وجل"
طريق أخرى عنه: قال البزار: حدثنا أيوب
بن سُوَيْد، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني، عن أبيه، عن عبد الله بن
عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة،
فألقى عليهم نورًا من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" .[ورواه البزار، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر، بلفظه وحروفه] .
وقوله تعالى: ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن،
ختم الآية بقوله: ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق
الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر: حدثنا أبو معاوية -يعني
شيبان -، عن ليث، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَري، عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد
فيه مثل السراج يُزهرُ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب
مُصْفَح: فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأما القلب
الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب [المنافق]
عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان
فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة
يَمُدَّها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" . إسناده
جيد ولم يخرجوه.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36)
لما ضرب الله تعالى [مثل]
قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة الصافية
المتوقّد من زيت طيب، وذلك كالقنديل، ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب
البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد، فقال:
( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) أي: أمر الله تعالى برفعها،
أي: بتطهيرها من الدنس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها، كما
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ( فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا
قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي
حَثْمة وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء المفسرين.
وقال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله، سبحانه، ببنائها ورفعها، وأمر
بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول: إن في التوراة مكتوبًا:
" ألا إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في
بيتي أكرمته، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر" . رواه عبد الرحمن بن أبي
حاتم في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها
وتبخيرها. وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة،
ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفا من ذلك، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان:
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له
مثله في الجنة". أخرجاه في الصحيحين .
وروى ابن ماجه، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله، بنى الله له بيتا في
الجنة" .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة مثله . والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب . رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه.
وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
وروى ابن ماجه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم". وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما أمِرْتُ بتشييد المساجد". قال ابن عباس: لَتُزَخرفُنّها
كما زَخْرَفت اليهود والنصارى
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم
الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا
الترمذي
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل
الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما
بنيت له". رواه مسلم.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل
السنن ، وقال الترمذي: حسن.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم: قال:
"إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا
رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد، فقولوا: لا رَدَّ الله عليك". رواه
الترمذي، وقال: حسن غريب.
وقد روى ابن ماجه وغيره، من حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: "خصال لا تنبغي
في المسجد: لا يُتَّخذُ طريقًا، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح، ولا يُنبَض فيه
بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء: ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ،
ولا يُقْتَص فيه من أحد، ولا يُتَّخذ سوقًا" .
وعن واثلة بن الأسقع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبوا
المساجد صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم،
وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمّروها في
الجُمَع".
ورواه ابن ماجه أيضًا وفي إسنادهما ضعف.
أما أنه "لا يتخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا
وَجَد مندوحة عنه. وفي الأثر: "إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد
لا يصلي فيه".
وأما أنه "لا يشهر فيه بسلاح . ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل"
. فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه؛ ولهذا أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي
أحدًا، كما ثبت في الصحيح .
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث.
وأما أنه "لا يضرب فيه حد ولا يقتص" ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع.
وأما أنه "لا يتخذ سوقًا" ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه،
فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام،
لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: "إن المساجد لم تبن لهذا، إنما
بنيت لذكر الله والصلاة فيها". ثم أمر بسَجْل من ماء، فأهريق على بوله .
وفي الحديث الثاني: "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم" ، وذلك لأنهم يلعبون فيه
ولا يناسبهم، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا رأى صبيانًا
يلعبون في المسجد ، ضربهم بالمِخْفَقَة -وهي الدِّرَّة -وكان يَعُسّ المسجد بعد العشاء، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني: لأجل ضعف عقولهم، وسَخْر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدم.
"وخصوماتكم" يعني: التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن
الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره؛ لما فيه
من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط الذي لا يناسبه؛ ولهذا قال بعده: "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا الجُعَيْد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن خُصَيفَة ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما: ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال النسائي: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة،
عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت
رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا صحيح.
وقوله: "وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم": تقدما.
وقوله: "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني: المراحيض التي يستعان بها
على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: "وجمِّروها في الجُمَع" يعني: بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله، حدثنا عبد الرحمن
بن مهدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر؛ أن عمر كان يُجَمِّر
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة
الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين
ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه
ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها
درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في
مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة"
وعند الدارقطني مرفوعًا: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" .
وفي السنن: "بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" .
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم" [قال: أقط؟ قال: نعم] . قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم .
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد -أو: أبي أسَيْد -قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك،
وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النسائي عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم [مثله] .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم
افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النب
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة النور
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة النور
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس من تفسير سورة النور
» الجزء السابع من تفسير سورة النور
» الجزء الثامن من تفسير سورة النور
» الجزء التاسع من تفسير سورة النور
» الجزء الأول من تفسير سورة النور
» الجزء السابع من تفسير سورة النور
» الجزء الثامن من تفسير سورة النور
» الجزء التاسع من تفسير سورة النور
» الجزء الأول من تفسير سورة النور
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النور
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى