الجزء الرابع من تفسير سورةالاحزاب
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأحزاب
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع من تفسير سورةالاحزاب
مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ
اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ
شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
لمَّا ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه
لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و (
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ )
، قال بعضهم: أجله.
وقال البخاري: عهده. وهو يرجع إلى الأول.
( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لما نسخنا الصُّحُف
، فَقَدْتُ آيةً من "سورة الأحزاب" كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -الذي جعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين -: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) .
انفرد به البخاري دون مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي -في التفسير من سننيهما -من حديث الزهري، به . وقال الترمذي: "حسن صحيح".
وقال
البخاري أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري،
حدثني أبي، عن ثُمَامَة، عن أنس بن مالك قال: نرى هذه الآية نـزلت في أنس
بن النضر: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ ) .
انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت
قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر سُميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه
وسلم غُيِّبْتُ
عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
لَيَرَيَنَ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم [يوم] أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس
يا أبا عمرو، أبِنْ. واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى
قُتل قال: فَوُجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته
-عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر
-: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه. قال: فنـزلت هذه الآية: ( رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) . قال: فكانوا يُرَون أنها
نـزلت فيه، وفي أصحابه.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، به . ورواه النسائي أيضا وابن جرير، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به نحوه .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حميد، عن
أنس أن عمه -يعني: أنس بن النضر -غاب عن قتال بَدر، فقال: غُيّبتُ عن أول
قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا
للمشركين، لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون،
فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه -وأبرأ إليك مما
جاء هؤلاء -يعني: المشركين -ثم تقدم فلقيه سعد -يعني: ابن معاذ -دون أحد،
فقال: أنا معك. قال سعد: فلم أستطع أن أصنع ما صنع. قال: فوجد فيه بضع
وثمانون ضربة سيف، وطَعنةَ رمح، ورمية سهم. وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه [نـزلت] : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضا، عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما، عن يزيد بن هارون، به ، وقال الترمذي: حسن. وقد رواه البخاري في المغازي، عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة بن مُصَرّف، عن حميد، عن أنس، به ، ولم يذكر نـزول الآية. ورواه بن جرير، من حديث المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، به .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن
سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جدي، عن موسى
بن طلحة، عن أبيه طلحة قال: لما أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد،
صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وعَزّى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم
بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية: ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )
. فقام إليه رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء؟ فأقبلت
وَعَلَيّ ثوبان أخضران حَضْرَميَّان فقال: "أيها السائل، هذا منهم".
وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطَّلْحي، به
. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا، وابن جرير، من حديث يونس بن
بُكَيْر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما، به . وقال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس.
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو عامر -يعني: العقدي
-حدثني إسحاق -يعني: ابن طلحة بن عبيد الله -عن موسى بن طلحة قال: [دخلت
على معاوية، رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال: ألا أضع عندك يا بن أخي
حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أشهد لَسَمِعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" .
ورواه ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطَّلْحي، عن موسى بن طلحة قال] : قام معاوية بن أبي سفيان فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" .
ولهذا قال مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) قال: عهده، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) قال: يوما.
وقال الحسن: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) يعني: موته على الصدق
والوفاء. ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) الموت على مثل ذلك، ومنهم مَنْ لم
يبدل تبديلا. وكذا قال قتادة، وابن زيد.
وقال بعضهم: ( نَحْبَهُ ) نذره.
وقوله: ( وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) أي: وما غيَّروا عهدهم، وبدَّلوا
الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل
المنافقين الذين قالوا: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ .
وقوله: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) أي: إنما يختبر
عباده بالخوف والزلزال ليميز
الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى
يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه
فيهم ، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] ، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده. وكذا قال تعالى: مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
[آل عمران: 179]. ولهذا قال هاهنا: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ ) أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم
عليه . ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ) : وهم الناقضون لعهد الله،
المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في
الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوه حتى يلقوه به فيعذبهم عليه، وإن شاء
تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النـزوع عن النفاق إلى الإيمان، وعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) .
وَرَدَّ
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) .
يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من
الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه
الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ]
[الأنفال: 33]، فسلط عليهم هواء فرق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من
الهَوَى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء
الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم
وحَنَقهم، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر
والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه
من الآثام في مبارزة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بالعداوة، وهمهم
بقتله، واستئصال جيشه، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله، فهو في الحقيقة
كفاعله.
وقوله: ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". أخرجاه من حديث أبي هريرة .
وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوْفى
قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منـزل
الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم، اهزمهم وزلزلهم"
. وفي قوله: ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) : إشارة إلى
وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم
المسلمون في بلادهم.
قال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم" فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة.
وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا".
وهكذا رواه البخاري في صحيحه، من حديث الثوري وإسرائيل، عن أبي إسحاق، به .
وقوله تعالى: ( وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) أي: بحوله وقوته،
ردهم خائبين، لم ينالوا خيرًا، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر
رسوله وعبده، فله الحمد والمنة.
وَأَنْزَلَ
الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) .
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب، ونـزلوا على المدينة،
نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وكان ذلك
بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضَري -لعنه الله -دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم
كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك، قد جئتك بعز الدهر،
أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا
محمدا وأصحابه. فقال له كعب: بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر. ويحك يا حيي،
إنك مشؤوم، فدعنا منك. فلم يزل يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه، واشترط له حُيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له
أسوتهم. فلما نَقَضت قريظةُ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ساءه، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدًّا، فلما أيد الله ونَصَر، وكبت
الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة مؤيدا منصورا، ووضع الناس السلاح. فبينما رسول الله صلى الله عليه
وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة [من]
ديباج، فقال: أوضَعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم". قال: لكن الملائكة
لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم. ثم قال: إن الله يأمرك أن
تنهض إلى بني قريظة. وفي رواية فقال له: عذيرَك من مقاتل، أوضعتم السلاح؟
قال: "نعم". قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء. قال: "أين؟".
قال: بني قريظة، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم. فنهض رسول الله صلى الله
عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من
المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني
قريظة". فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق
وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير، وقال
آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استخلف على المدينة ابن أم
مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب. ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال، نـزلوا على حكم سعد
بن معاذ -سيد الأوس -لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن
إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين
استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم
كما فعل ابن أبي في أولئك، ولم يعلموا أن سعدا، رضي الله عنه، كان قد أصابه
سهم في أكحَله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله،
وأنـزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب. وقال سعد فيما دعا به: اللهم إن
كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم
فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة. فاستجاب الله دعاءه،
وقَدّر عليهم أن نـزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك
استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب [على حمار]
قد وطَّؤوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد، إنهم مواليك،
فأحسن فيهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم. فلما أكثروا
عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير
مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم". فقام إليه المسلمون،
فأنـزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه
فيهم. فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هؤلاء -وأشار
إليهم -قد نـزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت". قال: وحكمي نافذ عليهم؟
قال: "نعم". قال: وعلى مَنْ في هذه الخيمة؟ قال: "نعم". قال: وعلى مَنْ
هاهنا. -وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو معرض
بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا
وإكرامًا وإعظامًا -فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال:
إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"
. وفي رواية: "لقد حكمتَ بحكم المَلك". ثم أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأخاديد فَخُدّت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا
ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء
وأموالهم ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا . ولله الحمد والمنة.
ولهذا قال تعالى: ( وَأَنـزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ) أي: عاونوا
الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ ) يعني: بني قريظة من اليهود، من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد
نـزل آباؤهم الحجاز قديما، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89]، فعليهم لعنة الله.
وقوله: ( مِنْ صَيَاصِيهِم ) يعني: حصونهم. كذا قال مجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وغيرهم ومنه سميت صياصي البقر، وهي قرونها؛ لأنها أعلى شيء فيها.
( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) : وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال ، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا
، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت
الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: ( فَرِيقًا
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ) ، فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء.
قال
الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم بن بشير، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن عطية
القرظي قال: عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ،
فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبت بعد؟ فنظروا فلم
يجدوني أنبت، فخلى عني وألحقني بالسبي.
وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق، عن عبد الملك بن عمير، به . وقال الترمذي: "حسن صحيح". ورواه النسائي أيضا، من حديث ابن جُرَيْج، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن عطية، بنحوه .
وقوله: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) أي: جعلها لكم من قتلكم
لهم ( وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ) قيل: خيبر. وقيل: مكة. رواه مالك، عن
زيد بن أسلم. وقيل: فارس والروم. وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع
مرادا.
( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) : قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال:
أخبرتني
عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا
أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجَنَّه، قالت: فجلست
إلى الأرض، فمر سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوف
على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول:
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه تَسْبغَة له -تعني المغفر -فقال عمر: ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنُك أن يكون بلاء أو يكون تَحَوّز. قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ، فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة
عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر، ويحك، إنك قد أكثرت منذ
اليوم، وأين التَحَوُّز أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟ قالت: ويرمي سعدًا
رجل من قريش، يقال له ابن العَرقة بسهم
، وقال له: خذها وأنا ابن العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فقطعه، فدعا الله سعد
فقال: اللهم، لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة. قالت: وكانوا حلفاءه
ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كَلْمُه، وبعث الله الريح على المشركين،
وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا. فلحق أبو سفيان ومَنْ
معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومَنْ معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا
في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من
أدم فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاءه جبريل، عليه السلام، وإن على
ثناياه لنقع الغبار، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة
بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم. قالت: فلبس رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأمته، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، [فخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم] فمر على بني غَنْم
وهم جيران المسجد حوله فقال: ومَنْ مر بكم؟ قالوا: مر بنا دحية الكلبي
-وكان دحية الكلبي تشبه لحيته، وسنه ووجهه جبريل، عليه الصلاة والسلام،
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد
حصارهم واشتد البلاء قيل لهم: انـزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح. قالوا:
ننـزل على حكم سعد بن معاذ [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انـزلوا
على حكم سعد بن معاذ". فنـزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد
بن معاذ]
فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حُمِل عليه، وحَفّ به قومه، فقالوا:
يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النّكاية، ومَنْ قد علمت، قالت: ولا
يَرْجعُ إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه
فقال: قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم. قال : قال أبو سعيد
: فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم
فأنـزلوه". فقال عمر: سيدنا الله. قال: "أنـزلوه". فأنـزلوه، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم". قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل
مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله: "لقد حكمت فيهم
بحكم الله وحكم رسوله". ثم دعا سعد فقال: اللهم، إن كنت أبقيتَ على نبيك من
حرب قريش شيئًا، فأبقني لها. وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني
إليك. قال: فانفجر كَلْمُه، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص، ورجع إلى
قبته التي ضرب عليه رسول الله.
قالت عائشة: فَحَضَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر
قالت: فوالذي نفس محمد بيده، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في
حجرتي. وكانوا كما قال الله تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .
قال علقمة: فقلت: أيْ أمّه، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ
بلحيته .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة نحوًا من هذا، ولكنه أخصر منه، وفيه دُعاء سعد، رضي الله عنه .
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) .
هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه
، بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده
الحياةُ الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند
الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن، رضي الله عنهن وأرضاهن، الله ورسوله
والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
قال
البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة
بن عبد الرحمن، أن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير
أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني ذاكر لك أمرا،
فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا
يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "وإن الله قال: ( يا أيها النبي قل لأزواجك )
إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة .
وكذا رواه معلقا عن الليث: حدثني يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن
عائشة، فذكره وزاد: قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما
فعلت .
وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب، فتارة رواه عن الزهري، عن أبي سلمة، وتارة رواه عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة .
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبَدة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن
عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: لما نـزل الخيار قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إني أريد أن أذكر لك أمرا، فلا تقضي فيه شيئا
حتى تستأمري أبويك". قالت: قلت: وما هو يا رسول الله؟ قال: فردّه عليها.
فقالت: فما هو يا رسول الله؟ قالت: فقرأ عليها: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا ) إلى آخر الآية. قالت: فقلت: بل نختار الله ورسوله والدار
الآخرة. قالت: ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
.
وحدثنا ابن وَكِيع، حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،
عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما نـزلت آية التخيير، بدأ بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عائشة، إني عارض عليك أمرًا، فلا تُفتياني
فيه [بشيء]
حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان". فقلت: يا رسول الله، وما هو؟
قال: "قال الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) .قالت: فإني أريد
الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان،
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَر فقال: "إن عائشة
قالت كذا وكذا". فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن كلهن .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشَجِّ، عن أبي أسامة، عن محمد بن عمرو، به.
قال ابن جرير: وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، عن
محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمرة، عن عائشة؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما نـزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن، فدخل عَليَّ فقال:
"سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك". فقلت: وما هو يا نبي الله؟
قال: "إني أمرت أن أخيركن"، وتلا عليها آية التخيير، إلى آخر الآيتين.
قالت: فقلت: وما الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك؟ فإني اختار الله
ورسوله، فَسُرّ بذلك، وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن، فاخترنَ الله
ورسوله .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا أبو صالح عبد الله
بن صالح، حدثني الليث، حدثني عُقَيل، عن الزهري، أخبرنَي عُبيد الله بن
عبد الله بن أبي ثَور، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قالت عائشة، رضي
الله عنها: أنـزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه، فقال: "إني
ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد عَلِم
أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "إن الله قال: ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ ) الآيتين. قالت عائشة: فقلت: أفي
هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه
كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مثله .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صَبِِيح،
عن مسروق، عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه،
فلم يعدها علينا شيئا. أخرجاه من حديث الأعمش
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زكريا بن
إسحاق، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أقبل أبو بكر، رضي الله عنه، يستأذن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه
وسلم جالس: فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي
بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو ساكت،
فقال عمر: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول
الله، لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر -سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها. فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه
وقال: "هن حولي يسألنني النفقة". فقام أبو بكر، رضي الله عنه، إلى عائشة
ليضربها، وقام عمر، رضي الله عنه، إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي
صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده. فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. قال:
وأنـزل الله، عز وجل، الخيار، فبدأ بعائشة فقال: "إني أذكر لك أمرًا ما أحب
أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ ) الآية، قالت عائشة، رضي الله عنها:
أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك
ما اخترت. فقال: "إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا
ميسرًا ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها".
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي، من حديث زكريا بن إسحاق المكي، به .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج بن يونس، حدثنا علي بن هاشم بن البريد، عن محمد بن عبيد [الله بن علي]
بن أبي رافع، عن عثمان بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي، رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة، ولم يخيرهن
الطلاق .
وهذا منقطع، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك. وهو خلاف الظاهر
من الآية، فإنه قال: ( فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلا ) أي: أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن.
وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن، على قولين، وأصحهما نعم لو وقع، ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم.
قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم
حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ
النَّضَريَّة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية،
وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن.
[ولم يتزوج واحدة منهن، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد
العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ابن
خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته،
وكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، رضي الله عنها، في الأصح،
ولها خصائص منها: أنه لم يتزوج عليها غيرها، ومنها أن أولاده كلهم منها،
إلا إبراهيم، فإنه من سريته مارية، ومنها أنها خير نساء الأمة.
واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف.
وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال: اختصت كل واحدة منهما
بخاصية، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وتثبته، وتسكنه، وتبذل دونه مالها، فأدركت غُرة الإسلام،
واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة،
فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها. وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام،
فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم
من العلم، ما ليس لغيرها. هذا معنى كلامه، رضي الله عنه.
ومن خصائصها: أن الله، سبحانه، بعث إليها السلام مع جبريل، فبلغها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذلك. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله
عنه، قال: أتى جبريل، عليه السلام، النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، هذه خديجة، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي
أتتك فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة، من قَصَب، لا
صَخَب فيه ولا نَصَب
وهذه لعَمْر الله خاصة، لم تكن لسواها. وأما عائشة، رضي الله عنها، فإن
جبريل سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري
بإسناده أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "يا
عائشة، هذا جبريل يقرئك السلام". فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته،
ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
. ومن خواص خديجة، رضي الله عنها: أنه لم تسوءه قط، ولم تغاضبه، ولم ينلها
منه إيلاءً، ولا عتب قط، ولا هجر، وكفى بهذه منقبة وفضيلة.
ومن خواصها: أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة.
فصل:
فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة، رضي الله عنها، وهي سودة
بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن
لؤي، وكبرت عنده، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها. وهذا من
خواصها: أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وحبا له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لعائشة
يومها ويوم سودة، ويقسم لنسائه، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة، لترضي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، وهي بنت
ست سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في
السنة الأولى، وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة،
ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين، ومن
خصائصها: أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، كما ثبت
ذلك عنه في البخاري وغيره، أنه سئل أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". قيل:
فمن الرجال؟ قال: "أبوها" .
ومن خصائصها أيضا: أنه لم يتزوج بكرا غيرها.
ومن خصائصها : أنه كان ينـزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها : أن الله، عز وجل، لما أنـزل عليه آية التخيير بدأ
بها فخيرها، فقال: "ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". فقالت: أفي هذا
أستأمر أبويَّ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فاستن بها بقية
أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقلن كما قالت.
ومن خصائصها : أن الله، سبحانه، برأها مما رماها به أهل الإفك،
وأنـزل في عذرها، وبراءتها، وحيا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى
يوم القيامة، وشهد لها أنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم،
وأخبر سبحانه، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن بذلك الذي
قيل فيها شر لها، ولا عيب لها، ولا خافض من شأنها، بل رفعها الله بذلك،
وأعلى قدرها وعظم شأنها، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض
والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها. وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن
فرط تواضعها واستصغارها لنفسها، حيث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن
يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم رؤيا يبرئني الله بها، فهذه صديقة الأمة، وأم المؤمنين، وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون
مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن قد صام يوما
أو يومين، أو شهرا أو شهرين، قد قام ليلة أو ليلتين، فظهر عليه شيء من
الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم،
ويُغتنم بصالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم
وتوقيرهم، فيتمسح بأثوابهم، ويقبل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة
التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم
من غير إمهال، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف، وهذه الحماقات
والرعونات نتاج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم، فإن ذلك إنما يصدر من
جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه
بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه. نسأل الله
العافية في الدنيا والآخرة. وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه
عظيما، وهو عند الله حقير، ومن خصائص عائشة، رضي الله عنها: أن الأكابر من
الصحابة، رضي الله عنهم، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها
فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها.
ومن خصائصها: أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها
في خرقة حرير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكن هذا من عند الله
يمضه" .
ومن خصائصها : أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله
صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتحفونه بما
يحب في منـزل أحب نسائه إليه، رضي الله عنهم أجمعين، وتكنى أم عبد الله،
وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولا يثبت ذلك.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله
عند حبيش بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد
بدرا، توفيت سنة سبع، وقيل: ثمان وعشرين، ومن خواصها: ما ذكره الحافظ أبو
محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها،
فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة وإنها
زوجتك في الجنة.
وقال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى،
حدثنا جدي حرملة، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي، عن موسى بن
علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق
حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ الله
بابن الخطاب بعد هذا. فنـزل جبريل، عليه السلام، على النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إن الل
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ
اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ
شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
لمَّا ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه
لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و (
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ )
، قال بعضهم: أجله.
وقال البخاري: عهده. وهو يرجع إلى الأول.
( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لما نسخنا الصُّحُف
، فَقَدْتُ آيةً من "سورة الأحزاب" كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -الذي جعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين -: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) .
انفرد به البخاري دون مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي -في التفسير من سننيهما -من حديث الزهري، به . وقال الترمذي: "حسن صحيح".
وقال
البخاري أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري،
حدثني أبي، عن ثُمَامَة، عن أنس بن مالك قال: نرى هذه الآية نـزلت في أنس
بن النضر: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ ) .
انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت
قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر سُميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه
وسلم غُيِّبْتُ
عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
لَيَرَيَنَ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم [يوم] أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس
يا أبا عمرو، أبِنْ. واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى
قُتل قال: فَوُجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته
-عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر
-: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه. قال: فنـزلت هذه الآية: ( رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) . قال: فكانوا يُرَون أنها
نـزلت فيه، وفي أصحابه.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، به . ورواه النسائي أيضا وابن جرير، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به نحوه .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حميد، عن
أنس أن عمه -يعني: أنس بن النضر -غاب عن قتال بَدر، فقال: غُيّبتُ عن أول
قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا
للمشركين، لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون،
فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه -وأبرأ إليك مما
جاء هؤلاء -يعني: المشركين -ثم تقدم فلقيه سعد -يعني: ابن معاذ -دون أحد،
فقال: أنا معك. قال سعد: فلم أستطع أن أصنع ما صنع. قال: فوجد فيه بضع
وثمانون ضربة سيف، وطَعنةَ رمح، ورمية سهم. وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه [نـزلت] : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضا، عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما، عن يزيد بن هارون، به ، وقال الترمذي: حسن. وقد رواه البخاري في المغازي، عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة بن مُصَرّف، عن حميد، عن أنس، به ، ولم يذكر نـزول الآية. ورواه بن جرير، من حديث المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، به .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن
سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جدي، عن موسى
بن طلحة، عن أبيه طلحة قال: لما أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد،
صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وعَزّى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم
بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية: ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )
. فقام إليه رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء؟ فأقبلت
وَعَلَيّ ثوبان أخضران حَضْرَميَّان فقال: "أيها السائل، هذا منهم".
وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطَّلْحي، به
. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا، وابن جرير، من حديث يونس بن
بُكَيْر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما، به . وقال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس.
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو عامر -يعني: العقدي
-حدثني إسحاق -يعني: ابن طلحة بن عبيد الله -عن موسى بن طلحة قال: [دخلت
على معاوية، رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال: ألا أضع عندك يا بن أخي
حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أشهد لَسَمِعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" .
ورواه ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطَّلْحي، عن موسى بن طلحة قال] : قام معاوية بن أبي سفيان فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" .
ولهذا قال مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) قال: عهده، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) قال: يوما.
وقال الحسن: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) يعني: موته على الصدق
والوفاء. ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) الموت على مثل ذلك، ومنهم مَنْ لم
يبدل تبديلا. وكذا قال قتادة، وابن زيد.
وقال بعضهم: ( نَحْبَهُ ) نذره.
وقوله: ( وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) أي: وما غيَّروا عهدهم، وبدَّلوا
الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل
المنافقين الذين قالوا: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ .
وقوله: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) أي: إنما يختبر
عباده بالخوف والزلزال ليميز
الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى
يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه
فيهم ، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] ، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده. وكذا قال تعالى: مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
[آل عمران: 179]. ولهذا قال هاهنا: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ ) أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم
عليه . ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ) : وهم الناقضون لعهد الله،
المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في
الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوه حتى يلقوه به فيعذبهم عليه، وإن شاء
تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النـزوع عن النفاق إلى الإيمان، وعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) .
وَرَدَّ
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) .
يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من
الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه
الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ]
[الأنفال: 33]، فسلط عليهم هواء فرق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من
الهَوَى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء
الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم
وحَنَقهم، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر
والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه
من الآثام في مبارزة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بالعداوة، وهمهم
بقتله، واستئصال جيشه، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله، فهو في الحقيقة
كفاعله.
وقوله: ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". أخرجاه من حديث أبي هريرة .
وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوْفى
قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منـزل
الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم، اهزمهم وزلزلهم"
. وفي قوله: ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) : إشارة إلى
وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم
المسلمون في بلادهم.
قال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم" فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة.
وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا".
وهكذا رواه البخاري في صحيحه، من حديث الثوري وإسرائيل، عن أبي إسحاق، به .
وقوله تعالى: ( وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) أي: بحوله وقوته،
ردهم خائبين، لم ينالوا خيرًا، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر
رسوله وعبده، فله الحمد والمنة.
وَأَنْزَلَ
الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) .
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب، ونـزلوا على المدينة،
نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وكان ذلك
بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضَري -لعنه الله -دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم
كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك، قد جئتك بعز الدهر،
أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا
محمدا وأصحابه. فقال له كعب: بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر. ويحك يا حيي،
إنك مشؤوم، فدعنا منك. فلم يزل يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه، واشترط له حُيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له
أسوتهم. فلما نَقَضت قريظةُ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ساءه، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدًّا، فلما أيد الله ونَصَر، وكبت
الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة مؤيدا منصورا، ووضع الناس السلاح. فبينما رسول الله صلى الله عليه
وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة [من]
ديباج، فقال: أوضَعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم". قال: لكن الملائكة
لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم. ثم قال: إن الله يأمرك أن
تنهض إلى بني قريظة. وفي رواية فقال له: عذيرَك من مقاتل، أوضعتم السلاح؟
قال: "نعم". قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء. قال: "أين؟".
قال: بني قريظة، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم. فنهض رسول الله صلى الله
عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من
المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني
قريظة". فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق
وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير، وقال
آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استخلف على المدينة ابن أم
مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب. ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال، نـزلوا على حكم سعد
بن معاذ -سيد الأوس -لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن
إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين
استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم
كما فعل ابن أبي في أولئك، ولم يعلموا أن سعدا، رضي الله عنه، كان قد أصابه
سهم في أكحَله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله،
وأنـزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب. وقال سعد فيما دعا به: اللهم إن
كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم
فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة. فاستجاب الله دعاءه،
وقَدّر عليهم أن نـزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك
استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب [على حمار]
قد وطَّؤوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد، إنهم مواليك،
فأحسن فيهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم. فلما أكثروا
عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير
مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم". فقام إليه المسلمون،
فأنـزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه
فيهم. فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هؤلاء -وأشار
إليهم -قد نـزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت". قال: وحكمي نافذ عليهم؟
قال: "نعم". قال: وعلى مَنْ في هذه الخيمة؟ قال: "نعم". قال: وعلى مَنْ
هاهنا. -وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو معرض
بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا
وإكرامًا وإعظامًا -فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال:
إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"
. وفي رواية: "لقد حكمتَ بحكم المَلك". ثم أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأخاديد فَخُدّت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا
ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء
وأموالهم ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا . ولله الحمد والمنة.
ولهذا قال تعالى: ( وَأَنـزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ) أي: عاونوا
الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ ) يعني: بني قريظة من اليهود، من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد
نـزل آباؤهم الحجاز قديما، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89]، فعليهم لعنة الله.
وقوله: ( مِنْ صَيَاصِيهِم ) يعني: حصونهم. كذا قال مجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وغيرهم ومنه سميت صياصي البقر، وهي قرونها؛ لأنها أعلى شيء فيها.
( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) : وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال ، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا
، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت
الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: ( فَرِيقًا
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ) ، فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء.
قال
الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم بن بشير، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن عطية
القرظي قال: عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ،
فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبت بعد؟ فنظروا فلم
يجدوني أنبت، فخلى عني وألحقني بالسبي.
وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق، عن عبد الملك بن عمير، به . وقال الترمذي: "حسن صحيح". ورواه النسائي أيضا، من حديث ابن جُرَيْج، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن عطية، بنحوه .
وقوله: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) أي: جعلها لكم من قتلكم
لهم ( وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ) قيل: خيبر. وقيل: مكة. رواه مالك، عن
زيد بن أسلم. وقيل: فارس والروم. وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع
مرادا.
( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) : قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال:
أخبرتني
عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا
أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجَنَّه، قالت: فجلست
إلى الأرض، فمر سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوف
على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول:
لَبَّــثْ قليـلا يَشْـهدُ الهَيْجَـا حَـمَلْ | مَـا أحْسَـنَ المـوتَ إذا حَـانَ الأجَلْ |
عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر، ويحك، إنك قد أكثرت منذ
اليوم، وأين التَحَوُّز أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟ قالت: ويرمي سعدًا
رجل من قريش، يقال له ابن العَرقة بسهم
، وقال له: خذها وأنا ابن العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فقطعه، فدعا الله سعد
فقال: اللهم، لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة. قالت: وكانوا حلفاءه
ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كَلْمُه، وبعث الله الريح على المشركين،
وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا. فلحق أبو سفيان ومَنْ
معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومَنْ معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا
في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من
أدم فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاءه جبريل، عليه السلام، وإن على
ثناياه لنقع الغبار، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة
بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم. قالت: فلبس رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأمته، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، [فخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم] فمر على بني غَنْم
وهم جيران المسجد حوله فقال: ومَنْ مر بكم؟ قالوا: مر بنا دحية الكلبي
-وكان دحية الكلبي تشبه لحيته، وسنه ووجهه جبريل، عليه الصلاة والسلام،
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد
حصارهم واشتد البلاء قيل لهم: انـزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح. قالوا:
ننـزل على حكم سعد بن معاذ [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انـزلوا
على حكم سعد بن معاذ". فنـزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد
بن معاذ]
فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حُمِل عليه، وحَفّ به قومه، فقالوا:
يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النّكاية، ومَنْ قد علمت، قالت: ولا
يَرْجعُ إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه
فقال: قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم. قال : قال أبو سعيد
: فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم
فأنـزلوه". فقال عمر: سيدنا الله. قال: "أنـزلوه". فأنـزلوه، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم". قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل
مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله: "لقد حكمت فيهم
بحكم الله وحكم رسوله". ثم دعا سعد فقال: اللهم، إن كنت أبقيتَ على نبيك من
حرب قريش شيئًا، فأبقني لها. وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني
إليك. قال: فانفجر كَلْمُه، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص، ورجع إلى
قبته التي ضرب عليه رسول الله.
قالت عائشة: فَحَضَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر
قالت: فوالذي نفس محمد بيده، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في
حجرتي. وكانوا كما قال الله تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .
قال علقمة: فقلت: أيْ أمّه، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ
بلحيته .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة نحوًا من هذا، ولكنه أخصر منه، وفيه دُعاء سعد، رضي الله عنه .
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) .
هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه
، بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده
الحياةُ الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند
الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن، رضي الله عنهن وأرضاهن، الله ورسوله
والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
قال
البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة
بن عبد الرحمن، أن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير
أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني ذاكر لك أمرا،
فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا
يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "وإن الله قال: ( يا أيها النبي قل لأزواجك )
إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة .
وكذا رواه معلقا عن الليث: حدثني يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن
عائشة، فذكره وزاد: قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما
فعلت .
وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب، فتارة رواه عن الزهري، عن أبي سلمة، وتارة رواه عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة .
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبَدة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن
عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: لما نـزل الخيار قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إني أريد أن أذكر لك أمرا، فلا تقضي فيه شيئا
حتى تستأمري أبويك". قالت: قلت: وما هو يا رسول الله؟ قال: فردّه عليها.
فقالت: فما هو يا رسول الله؟ قالت: فقرأ عليها: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا ) إلى آخر الآية. قالت: فقلت: بل نختار الله ورسوله والدار
الآخرة. قالت: ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
.
وحدثنا ابن وَكِيع، حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،
عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما نـزلت آية التخيير، بدأ بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عائشة، إني عارض عليك أمرًا، فلا تُفتياني
فيه [بشيء]
حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان". فقلت: يا رسول الله، وما هو؟
قال: "قال الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) .قالت: فإني أريد
الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان،
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَر فقال: "إن عائشة
قالت كذا وكذا". فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن كلهن .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشَجِّ، عن أبي أسامة، عن محمد بن عمرو، به.
قال ابن جرير: وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، عن
محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمرة، عن عائشة؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما نـزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن، فدخل عَليَّ فقال:
"سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك". فقلت: وما هو يا نبي الله؟
قال: "إني أمرت أن أخيركن"، وتلا عليها آية التخيير، إلى آخر الآيتين.
قالت: فقلت: وما الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك؟ فإني اختار الله
ورسوله، فَسُرّ بذلك، وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن، فاخترنَ الله
ورسوله .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا أبو صالح عبد الله
بن صالح، حدثني الليث، حدثني عُقَيل، عن الزهري، أخبرنَي عُبيد الله بن
عبد الله بن أبي ثَور، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قالت عائشة، رضي
الله عنها: أنـزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه، فقال: "إني
ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد عَلِم
أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "إن الله قال: ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ ) الآيتين. قالت عائشة: فقلت: أفي
هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه
كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مثله .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صَبِِيح،
عن مسروق، عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه،
فلم يعدها علينا شيئا. أخرجاه من حديث الأعمش
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زكريا بن
إسحاق، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أقبل أبو بكر، رضي الله عنه، يستأذن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه
وسلم جالس: فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي
بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو ساكت،
فقال عمر: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول
الله، لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر -سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها. فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه
وقال: "هن حولي يسألنني النفقة". فقام أبو بكر، رضي الله عنه، إلى عائشة
ليضربها، وقام عمر، رضي الله عنه، إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي
صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده. فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. قال:
وأنـزل الله، عز وجل، الخيار، فبدأ بعائشة فقال: "إني أذكر لك أمرًا ما أحب
أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ ) الآية، قالت عائشة، رضي الله عنها:
أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك
ما اخترت. فقال: "إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا
ميسرًا ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها".
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي، من حديث زكريا بن إسحاق المكي، به .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج بن يونس، حدثنا علي بن هاشم بن البريد، عن محمد بن عبيد [الله بن علي]
بن أبي رافع، عن عثمان بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي، رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة، ولم يخيرهن
الطلاق .
وهذا منقطع، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك. وهو خلاف الظاهر
من الآية، فإنه قال: ( فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلا ) أي: أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن.
وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن، على قولين، وأصحهما نعم لو وقع، ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم.
قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم
حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ
النَّضَريَّة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية،
وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن.
[ولم يتزوج واحدة منهن، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد
العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ابن
خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته،
وكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، رضي الله عنها، في الأصح،
ولها خصائص منها: أنه لم يتزوج عليها غيرها، ومنها أن أولاده كلهم منها،
إلا إبراهيم، فإنه من سريته مارية، ومنها أنها خير نساء الأمة.
واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف.
وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال: اختصت كل واحدة منهما
بخاصية، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وتثبته، وتسكنه، وتبذل دونه مالها، فأدركت غُرة الإسلام،
واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة،
فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها. وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام،
فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم
من العلم، ما ليس لغيرها. هذا معنى كلامه، رضي الله عنه.
ومن خصائصها: أن الله، سبحانه، بعث إليها السلام مع جبريل، فبلغها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذلك. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله
عنه، قال: أتى جبريل، عليه السلام، النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، هذه خديجة، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي
أتتك فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة، من قَصَب، لا
صَخَب فيه ولا نَصَب
وهذه لعَمْر الله خاصة، لم تكن لسواها. وأما عائشة، رضي الله عنها، فإن
جبريل سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري
بإسناده أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "يا
عائشة، هذا جبريل يقرئك السلام". فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته،
ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
. ومن خواص خديجة، رضي الله عنها: أنه لم تسوءه قط، ولم تغاضبه، ولم ينلها
منه إيلاءً، ولا عتب قط، ولا هجر، وكفى بهذه منقبة وفضيلة.
ومن خواصها: أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة.
فصل:
فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة، رضي الله عنها، وهي سودة
بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن
لؤي، وكبرت عنده، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها. وهذا من
خواصها: أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وحبا له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لعائشة
يومها ويوم سودة، ويقسم لنسائه، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة، لترضي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، وهي بنت
ست سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في
السنة الأولى، وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة،
ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين، ومن
خصائصها: أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، كما ثبت
ذلك عنه في البخاري وغيره، أنه سئل أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". قيل:
فمن الرجال؟ قال: "أبوها" .
ومن خصائصها أيضا: أنه لم يتزوج بكرا غيرها.
ومن خصائصها : أنه كان ينـزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها : أن الله، عز وجل، لما أنـزل عليه آية التخيير بدأ
بها فخيرها، فقال: "ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". فقالت: أفي هذا
أستأمر أبويَّ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فاستن بها بقية
أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقلن كما قالت.
ومن خصائصها : أن الله، سبحانه، برأها مما رماها به أهل الإفك،
وأنـزل في عذرها، وبراءتها، وحيا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى
يوم القيامة، وشهد لها أنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم،
وأخبر سبحانه، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن بذلك الذي
قيل فيها شر لها، ولا عيب لها، ولا خافض من شأنها، بل رفعها الله بذلك،
وأعلى قدرها وعظم شأنها، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض
والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها. وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن
فرط تواضعها واستصغارها لنفسها، حيث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن
يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم رؤيا يبرئني الله بها، فهذه صديقة الأمة، وأم المؤمنين، وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون
مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن قد صام يوما
أو يومين، أو شهرا أو شهرين، قد قام ليلة أو ليلتين، فظهر عليه شيء من
الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم،
ويُغتنم بصالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم
وتوقيرهم، فيتمسح بأثوابهم، ويقبل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة
التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم
من غير إمهال، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف، وهذه الحماقات
والرعونات نتاج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم، فإن ذلك إنما يصدر من
جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه
بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه. نسأل الله
العافية في الدنيا والآخرة. وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه
عظيما، وهو عند الله حقير، ومن خصائص عائشة، رضي الله عنها: أن الأكابر من
الصحابة، رضي الله عنهم، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها
فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها.
ومن خصائصها: أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها
في خرقة حرير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكن هذا من عند الله
يمضه" .
ومن خصائصها : أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله
صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتحفونه بما
يحب في منـزل أحب نسائه إليه، رضي الله عنهم أجمعين، وتكنى أم عبد الله،
وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولا يثبت ذلك.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله
عند حبيش بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد
بدرا، توفيت سنة سبع، وقيل: ثمان وعشرين، ومن خواصها: ما ذكره الحافظ أبو
محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها،
فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة وإنها
زوجتك في الجنة.
وقال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى،
حدثنا جدي حرملة، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي، عن موسى بن
علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق
حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ الله
بابن الخطاب بعد هذا. فنـزل جبريل، عليه السلام، على النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إن الل
رد: الجزء الرابع من تفسير سورةالاحزاب
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع من تفسير سورةالاحزاب
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع من تفسير سورة ص
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة هود
» الجزء الرابع من تفسير سورة يس
» الجزء الرابع من تفسير سورة سبأ
» الجزء الرابع من تفسير سورة هود
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة هود
» الجزء الرابع من تفسير سورة يس
» الجزء الرابع من تفسير سورة سبأ
» الجزء الرابع من تفسير سورة هود
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأحزاب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى