الجزء الرابع من تفسير سورة الصافات
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع من تفسير سورة الصافات
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82 )
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ
هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح [عليه السلام] .
وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد بن بشير، عن
قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: "سام، وحام ويافث".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم".
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة- عن قتادة، به .
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: وقد روي عن عمران بن حُصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي
بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام. ثم روى من حديث إسماعيل بن
عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة:
سام وحام ويافث، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة، فولد سامُ العربَ
وفارسَ والروم، وولد يافثُ الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حامُ
القبطَ والسودان والبربر. وروي عن وهب بن منبه نحو هذا ، والله أعلم .
وقوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) ، قال ابن عباس: يذكر بخير.
وقال مجاهد: يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك: السلام والثناء الحسن .
وقوله تعالى: ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) مفسر لما أبقى
عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم.
( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك .
ثم قال: ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) أي المصدقين
الموحدين الموقنين، ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) أي: أهلكناهم، فلم
تبْق منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87 )
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول: من أهل دينه. وقال مجاهد: على منهاجه وسنته .
( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال ابن عباس: يعني شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن عَوْف: قلت لمحمد بن سِيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعانا .
وقوله: ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) : أنكر
عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: ( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ
اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال قتادة:
[يعني]: ما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم غيره؟!
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ (98 )
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا
ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي
بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم
على مقتضى ما يعتقدونه، ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) قال قتادة:
والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم: يعني قتادة: أنه نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به، فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أي: ضعيف.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة
؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم، عليه الصلاة
والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ،
وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63]، وقوله في سارة: هي أختي" فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: "إن [في] المعاريض لمندوحة عن الكذب"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة
، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم
الثلاث التي قال: "ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى، فقال: (
إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ، وقال للملك حين أراد المرأة: هي أختي" .
قال سفيان في قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) يعني: طعين. وكانوا يفرون من
المطعون، فأراد أن يخلو بآلهتهم. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: ( فَنَظَرَ
نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ، فقالوا له وهو في
بيت آلهتهم: اخرج. فقال: إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: رأى نجما طلع فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) كابد نبي الله عن دينه ( فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) .
وقال آخرون: فقال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) بالنسبة إلى ما يستقبل، يعني: مرض الموت.
وقيل: أراد ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج،
فاضطجع على ظهره وقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وجعل ينظر في السماء فلما
خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى: ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) أي: إلى عيدهم، (
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء،
( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها
طعاما قربانا لتُبرّك لهم فيه.
قال السدي: دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [صنم آخر]
أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو،
وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا: إذا كان حين نرجع
وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام،
إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: ( أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ ) ؟!
وقوله: ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) : قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين.
وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
قوله هاهنا: ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : قال مجاهد وغير واحد: أي يسرعون.
وهذه القصة هاهنا مختصرة، وفي سورة الأنبياء مبسوطة، فإنهم لما رجعوا ما
عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم،
عليه السلام، هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم،
فقال: ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟! أي: أتعبدون من دون الله من
الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم؟! ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ ) يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله
خلقكم وعملكم. ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" تقديره: والله خلقكم والذي
تعملونه. وكلا القولين متلازم، والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب
"أفعال العباد"، عن علي بن المديني، عن مروان بن معاوية، عن أبي مالك، عن ربْعِيّ بن حراش، عن حذيفة مرفوعا قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" . وقرأ بعضهم: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )
فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فقالوا: (
ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وكان من أمرهم ما
تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونجاه الله من النار وأظهره عليهم، وأعلى
حجته ونصرها؛ ولهذا قال تعالى: ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ
الأسْفَلِينَ )
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102 )
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم [عليه السلام] : إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم
بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: ( إِنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ )
يعني: أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى:
( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام،
فإنه أولُ ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق
المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم، عليه
السلام، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم
أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكْره، فأقحموا
هاهنا كذبا وبهتانا "إسحاق"، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما
أقحموا "إسحاق" لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك
وحَرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه
إلى جنب
مكة وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال: "وحيد" إلا لمن ليس له غيره،
وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ
في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة
من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن
ذلك تُلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب
الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر
أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]. وقال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
[هود:71]، أي: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب
ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن
الله [تعالى] قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
وقوله: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) أي: كبر وترعرع وصار يذهب
مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد
ولده وأم ولده ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على
البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني،
وزيد بن أسلم، وغيرهم: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يعني: شب
وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء
وَحْي، ثم تلا هذه الآية: ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى )
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل بن يونس، عن سِمَاك، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي" ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه .
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) أي: امض لما أمرك
الله من ذبحي، ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) أي:
سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما
وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54، 55]
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ
هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح [عليه السلام] .
وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد بن بشير، عن
قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: "سام، وحام ويافث".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم".
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة- عن قتادة، به .
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: وقد روي عن عمران بن حُصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي
بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام. ثم روى من حديث إسماعيل بن
عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة:
سام وحام ويافث، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة، فولد سامُ العربَ
وفارسَ والروم، وولد يافثُ الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حامُ
القبطَ والسودان والبربر. وروي عن وهب بن منبه نحو هذا ، والله أعلم .
وقوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) ، قال ابن عباس: يذكر بخير.
وقال مجاهد: يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك: السلام والثناء الحسن .
وقوله تعالى: ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) مفسر لما أبقى
عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم.
( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك .
ثم قال: ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) أي المصدقين
الموحدين الموقنين، ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) أي: أهلكناهم، فلم
تبْق منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87 )
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول: من أهل دينه. وقال مجاهد: على منهاجه وسنته .
( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال ابن عباس: يعني شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن عَوْف: قلت لمحمد بن سِيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعانا .
وقوله: ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) : أنكر
عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: ( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ
اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال قتادة:
[يعني]: ما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم غيره؟!
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ (98 )
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا
ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي
بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم
على مقتضى ما يعتقدونه، ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) قال قتادة:
والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم: يعني قتادة: أنه نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به، فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أي: ضعيف.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة
؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم، عليه الصلاة
والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ،
وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63]، وقوله في سارة: هي أختي" فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: "إن [في] المعاريض لمندوحة عن الكذب"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة
، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم
الثلاث التي قال: "ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى، فقال: (
إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ، وقال للملك حين أراد المرأة: هي أختي" .
قال سفيان في قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) يعني: طعين. وكانوا يفرون من
المطعون، فأراد أن يخلو بآلهتهم. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: ( فَنَظَرَ
نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ، فقالوا له وهو في
بيت آلهتهم: اخرج. فقال: إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: رأى نجما طلع فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) كابد نبي الله عن دينه ( فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) .
وقال آخرون: فقال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) بالنسبة إلى ما يستقبل، يعني: مرض الموت.
وقيل: أراد ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج،
فاضطجع على ظهره وقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وجعل ينظر في السماء فلما
خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى: ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) أي: إلى عيدهم، (
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء،
( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها
طعاما قربانا لتُبرّك لهم فيه.
قال السدي: دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [صنم آخر]
أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو،
وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا: إذا كان حين نرجع
وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام،
إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: ( أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ ) ؟!
وقوله: ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) : قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين.
وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
قوله هاهنا: ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : قال مجاهد وغير واحد: أي يسرعون.
وهذه القصة هاهنا مختصرة، وفي سورة الأنبياء مبسوطة، فإنهم لما رجعوا ما
عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم،
عليه السلام، هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم،
فقال: ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟! أي: أتعبدون من دون الله من
الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم؟! ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ ) يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله
خلقكم وعملكم. ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" تقديره: والله خلقكم والذي
تعملونه. وكلا القولين متلازم، والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب
"أفعال العباد"، عن علي بن المديني، عن مروان بن معاوية، عن أبي مالك، عن ربْعِيّ بن حراش، عن حذيفة مرفوعا قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" . وقرأ بعضهم: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )
فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فقالوا: (
ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وكان من أمرهم ما
تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونجاه الله من النار وأظهره عليهم، وأعلى
حجته ونصرها؛ ولهذا قال تعالى: ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ
الأسْفَلِينَ )
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102 )
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم [عليه السلام] : إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم
بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: ( إِنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ )
يعني: أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى:
( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام،
فإنه أولُ ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق
المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم، عليه
السلام، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم
أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكْره، فأقحموا
هاهنا كذبا وبهتانا "إسحاق"، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما
أقحموا "إسحاق" لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك
وحَرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه
إلى جنب
مكة وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال: "وحيد" إلا لمن ليس له غيره،
وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ
في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة
من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن
ذلك تُلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب
الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر
أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]. وقال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
[هود:71]، أي: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب
ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن
الله [تعالى] قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
وقوله: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) أي: كبر وترعرع وصار يذهب
مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد
ولده وأم ولده ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على
البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني،
وزيد بن أسلم، وغيرهم: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يعني: شب
وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء
وَحْي، ثم تلا هذه الآية: ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى )
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل بن يونس، عن سِمَاك، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي" ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه .
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) أي: امض لما أمرك
الله من ذبحي، ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) أي:
سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما
وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54، 55]
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الصافات
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الصافات
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الصافات
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الأول من تفسير سورة الصافات
» الجزء الثاني من تفسير سورة الصافات
» الجزء الثالث من تفسير سورة الصافات
» الجزء الخامس من تفسير سورة الصافات
» الجزء السادس من تفسير سورة الصافات
» الجزء الثاني من تفسير سورة الصافات
» الجزء الثالث من تفسير سورة الصافات
» الجزء الخامس من تفسير سورة الصافات
» الجزء السادس من تفسير سورة الصافات
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى