الشيخ مبارك الميلي
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الشيخ مبارك الميلي
الشيخ مبارك الميلي رحمه الله (1898 - 1945م).
العلامة الشيخ مبارك الميلي
بقلم: الأستاذ نبيل أحمد حلاق
الحديث عن عظيم من عظماء أيّ أمة أو علم من أعلامها، هو حديث عن ذاكرتها وتاريخها، ووصل بين حلقات الأجيال المتعاقبة فيها، يتعرّف من خلاله اللاحقُ منها على السابق، وترث منها أسبابَ العز والمجد، وتستأنف بزادها مسيرة الحياة. وليس عيبا أن تتذكر أمةٌ أعلامَها ورجالَها وتجعل لذلك آثاراً و علامات، ما لم تكن تلك الذكريات مناحات قائمة على الندب والتفجّع، وهدر للأموال والأوقات، وتلاعب بالتاريخ والحقائق، بل عظة وتدبراً، وتأملاً في جوانب العظمة والقوة في حياتهم لغرض الاقتداء والتأسّي.
والجانب المفيد في هذه الذكريات -كما يقول العلامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي- أن تكون درساً لخصائص الرجال، وتجلية لمناشئ ذلك فيهم، ووضعاً للأيدي على الذخائر الخلُقية المودعة في نفوسهم الكبيرة، وإعلاناً للميزات العالية التي كانوا بها رجالاً، وإذاعة لما يجهله الناس أو يغلطون فيه من موازين الرجولة أو يبخسونه من قيمها. (1)
والعلاّمة الشيخ مبارك الميلي واحد من الأعلام العظام الذين تفتخر الأمة المسلمة بانتمائهم إليها، وتتشرف أرض الجزائر بإنجاب أمثاله. فلقد أفنى - رحمه الله- حياته كلها في خدمة أمته وبلده، والدفاع عن كل ما تقوم به حياتهما، وتتحقق به كرامتهما. فكان من ثَمّ حقه على الأجيال أن تحفظ له فضله وتذكر أعماله ومناقبه، لتكون مناراً مرشداً لها، ولمن سيأتي بعدها.وهذه السطور محاولة للوقوف عند بعض المحطات الرئيسة في حياة ذلك الرجل العظيم -في الذكرى الستين لوفاته- والتأمل في بعض جوانب العظمة من سيرته.
عصره و بيئته
يُعتبر العصر الذي وُلِد ونشأ فيه الشيخ مبارك الميلي، من أظلم الحقب التي مرت بها الجزائر منذ عهود طويلة من تاريخها. ذلك لأنه قد مضى على الاحتلال الفرنسي لها حينئذ قرابة القرن. كما أن فشل ثورات الجزائريين المتتالية ضد ذلك الاحتلال، وما تبعه من بطش وانتقام، قد بعث روحَ اليأس في الكثيرين منهم، وأرسى من جهة أخرى قناعة قويّة لدى الاحتلال بأن الجزائر صارت -وإلى غير رجعة- قطعة من ممتلكاته وامتداداً لنفوذه وسلطانه، وقد عبّر ذلك المستعمر عن تلك القناعة بكل تحدٍّ وغرور في احتفالاته الاستفزازية بمناسبة مرور قرن على احتلاله للبلاد.
ورغم تلك الصورة القاتمة، فقد كانت -على الجانب الآخر منها- تلوح تباشير الأمل بميلاد جيل جديد من الجزائريين، حيث شهد زمنُ ميلاد الشيخ مبارك الميلي، ميلادَ العديد من أبناء جيل النهضة والأمل من أمثال ابن باديس والعقبي والإبراهيمي والتبسي وكثيرين غيرهم. كما عرف أيضا حركةً علمية كان يقوم بها جملةٌ من العلماء المصلحين من أمثال الشيوخ بن مهنا والمجاوي وبن سماية وبن الموهوب وحمدان الونيسي وغيرهم، بالإضافة إلى جهود المقاومة السلمية المتمثلة في حركة الأمير خالد وغيره. غير أن تلك الحركة العلمية كانت تتم بشكل فردي وتخضع لامكانات القائمين عليها وللظروف المحيطة بهم؛ إذ إنَّ معظمهم كان موظفاً رسمياً يعمل تحت رقابة وإشراف إدارة الاحتلال. وعندما عاد روّادُ النهضة العلمية والإصلاحية -فيما بعد- من دراساتهم خارج الجزائر في جامعتي الزيتونة والأزهر وغيرهما، اتّحدت الجهود وتوحّدت الفكرة وتحدّد المنهج، فدُكّت على إثر ذلك صروحُ الجهالة والخرافات، وتهاوت أصنام الاستعمار في نفوس الجزائريين وعقولهم، فانتفضوا وأزالوها من واقعهم، وحطّموا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وذلك بثورة 1954 المباركة.
مولده ونشأته وتعلمه
وُلد الشيخ مبارك بن محمد الإبراهيمي الميلي في قرية »أورمامن« في جبال الميلية بشرق الجزائر حوالي سنة 1896. و مات والده وهو في الرابعة من عمره.
عكف منذ صغره -كغيره من الكثيرين من أبناء الجزائريين آنذاك- على حفظ القرآن الكريم، فأتمّ حفظه على يد الشيخ أحمد بن الطاهر مزهود في جامع سيدي عزوز بأولاد مبارك.(2)
بعد إتمام حفظ القرآن، رَغبَ الميلي في مواصلة مسيرة طلب العلم، فاتجه إلى مدرسة الشيخ محمد بن معنصر الشهير بالميلي (3) ببلدة ميلة مكث أربع سنوات، ثم اتجه إلى مدينة قسنطينة وانضم إلى دروس الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، وأصبح من بين أعظم تلاميذه وأكثرهم انتفاعاً بعلمه.(4) غادر الميلي قسنطينة بعد ذلك إلى تونس لمواصلة دراسته »بالزيتونة« درس مثل شيخه ابن باديس على أبرز شيوخها من أمثال عثمان خوجة ومحمد النخلي والصادق النيفر ومحمد بن القاضي والطاهر بن عاشور وغيرهم، ثم ليعود بعد تخرجه منها إلى بلده الجزائر سنة 1925.(5)
عودته إلى الجزائر وأعماله فيها
استقر الشيخ مبارك الميلي فور عودته إلى الجزائر بمدينة قسنطينة عمل مُعلماً في مدرسة قرآنية عصرية تأسست في مسجد »سيدي بومعزة « الذي كان يقع في نفس شارع مطبعة وإدارة جريدة الشيخ ابن باديس »الشهاب«. (6)
فبقي في تلك المدرسة إلى بداية سنة 1927 ثم غادر قسنطينة إلى مدينة الأغواط في الجنوب الجزائري، والتي استقبله أهلها استقبالاً عظيماً.(7) فقام فور وصوله إليها بتأسيس مدرسة تولى فيها الإشراف على تعليم أبناء الجزائريين بنفسه.
تعرّف الشيخ الميلي من خلال تلك المدرسة على بعض أبناء المدينة ورجالها الذين كانوا يؤيّدون منهجه الإصلاحي ويؤازرونه في أعماله، كما تعرّف أهل الأغواط بدورهم على الميلي، فأحبّوه ورأوا فيه رجل العلم المتمكن والمتنوّر والمتحرّر من قيود الشعوذة والخرافات السائدة بين أوساط أهل العلم في ذلك العصر.
ذاع سيط الشيخ الميلي بين سكان المدينة، وعرفت مدرسته نشاطاً متنامياً وقبولاً متزايداً لدى الشباب خاصة، كما صار نشاطه يمثل وجوداً بارزاً للإصلاح الذي كانت تعارضه الطرق الصوفية آنذاك، وباتت أفكاره وآراؤه محل حديث الخاص والعام في المجتمع. ولم يكن يقتصر نشاطه في تلك المدينة على الجانب العلمي فقط، بل تجاوزه إلى جوانب أخرى لم تكن مألوفة ولا معروفة عن أهل العلم حينئذ مثل قيامه بتأسيس أول نادٍ لكرة القدم في المدينة سنة 1927.
أثار تنامي نشاط الميلي تخوف السلطات الفرنسية من الانعكاسات التي قد تنتج عن تأثيره في فئة الشباب خاصة والمجتمع عامة، فأمرته بمغادرة الأغواط بعد سنوات من العمل والنشاط. ويبدو أنَّ الطريقة التيجانيّة لم تكن بريئة من السعي لإثارة تلك المخاوف في أوساط إدارة الاحتلال ومن ثَمَّ استصدار قرار الإبعاد النهائي.(
غادر الشيخ مبارك الأغواط متجها إلى بلدة بوسعادة قام بالأعمال والنشاطات نفسها، إلا أن حظه مع الإدارة الفرنسية في تلك البلدة لم يكن أفضل من الأولى، حيث أمرته بدورها بمغادرة بوسعادة أيضاً.
بعد سنوات من العمل والنشاط في قسنطينة والأغواط وبوسعادة، عاد الشيخ الميلي إلى ميلة ليستأنف ما بدأه من أعمال منذ عودته من تونس، فاستقر بها، وسعى بمعية بعض أعيانها إلى تأسيس مسجد جامع تُقام فيه الصلوات، فكان هو خطيبَه والواعظَ فيه، وقد أُقيم المسجد على جزء من بيت فسيح أهداه أحد أعيان المدينة المناصرين للإصلاح - محمد بن ناصف- إلى أهل البلدة. ثم أنشأ الإصلاحيون في ميلة بقيادة الشيخ الميلي، جمعيةً باسم »النادي الإسلامي« فانضمت جهودُها إلى ما كان يقوم به ذلك المسجد من أعمال في مجال الإصلاح. وتوسيعاً لدائرة الأعمال والنشاطات فقد كوّن المسجد والنادي المذكورين جمعيةً أخرى تحت اسم »جمعية حياة الشباب«. (9)
وقد أثّرت تلك النشاطات المكثفة والمتنوعة - من خلال تلك المراكز العلمية- في الناس أيَّما تأثير، مما أدّى ببعض التقارير الفرنسية آنذاك، بالإقرار بأن الشيخ مبارك الميلي كان يُقَدِّم تعليماً حيًّا وواسعا.(10) وهذا ما جلب له كغيره من زملائه من علماء الإصلاح الآخرين، سخطَ إدارة الاحتلال من جهة، والعلماء الرسميين –الموظفين عند الإدارة الفرنسية- وشيوخ الطرق الصوفيّة من جهة أخرى.
نشاطه الصحفي
ساهم الشيخ مبارك الميلي بقلمه السيال في الحياة الصحفية في الجزائر في عهده، فأظهر نشاطاً بارزاً فيها، وكان أحدَ أبرز الطاقات التي قامت عليها الصحافة الإصلاحية بصفة خاصة؛ إذ كان من أول المحررين في »المنتقد« و »الشهاب« منذ أيامهما الأولى ثم في »السُنة« و»البصائر« التي تولى إدارة تحريرها بعد تخلي الشيخ الطيب العقبي عنها سنة 1935. »فقد تولى إدارتها فأحسن الإدارة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصّر عن شأو، ولا كبا دون غاية... « (11)
كانت كتابات الميلي الصحفية تصدر بإمضائه الصريح تارة، وباسم »البيضاوي« تارة أخرى، كما كان يكتب بغير إمضاء أو بأسماء مستعارة تارات أخرى حسب الظروف المحيطة بالحدث أو الموضوع الذي كان يتناوله.(12) وقد نالت مساهماته الصحفية إعجاب الكثيرين من أهل العلم والاختصاص، حيث وصف بعضُهم عملَه الصحفي بأنه كان مملوءًا قوةً وحركة ونشاطاً، وأنّ أسلوبه الكتابي كان قوياً في التعبير والانسجام مع دلالة أفكاره على كفاية واضحة وتضلّع ووفرة مادة. (13)
وكانت كتاباته تدور في معظمها حول قضية عصره، ألا وهي الإصلاح الديني والاجتماعي، فكان يصوّب سهامه تجاه قلاع الاستعمار من خلال الهجوم على الخرافات التي علقت بأذهان الناس وسلوكياتهم، وبكشف أباطيل اعتقاداتهم في أدعياء التديّن من شيوخ التصوف الموالين للاحتلال. وكان ما كتبه في »البصائر« تحت عنوان »الشرك ومظاهره« في حلقات عديدة أبرز دليل على ذلك الخط الذي رسمه لنفسه في هذا المجال. وقد تم جمع تلك الحلقات فيما بعد ونشرت في كتاب بطلب من بعض أصدقائه وقرائه سنة 1937 تحت عنوان »رسالة الشرك ومظاهره«.
في جمعية العلماء
حينما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931 بنادي الترقي بعاصمة الجزائر، كان من الطبيعي لشخص بمثل صفات الشيخ مبارك الميلي أن يكون واحداً من أهم أركان ودعائم إدارتها، خاصة وأنه كان قد لازَم الشيخ عبد الحميد ابن باديس-قبل تأسيسها- طالباً جاداً ثم عاملاً ناجحاً مقتدراً في حقل الإصلاح بجانبيه التعليمي والصحفي. وكنتيجة لتلك المكانة، فقد تم انتخابه عند تأسيس الجمعية عضواً في مجلس إدارتها وأميناً للمال فيها. ولقد شَهِد له بعض من عرفه عن قرب بالأمانة وحسن التسيير والتدبير في أعماله التي اضطلع بها. (14)
إلى جانب تلك المهام التي كُلّف بها، كان يقوم مع غيره من زملائه العلماء بأعمال الجمعية المتنوعة الأخرى كالتعليم والخطابة والصحافة والجولات العملية لمختلف أنحاء الجزائر وغيرها. وقد كان الشيخ الميلي يقوم بتلك الأعمال جنباً إلى جنب مع الشيخ ابن باديس إلى أن توفي الأخير في 16/04/ 1940، فكان من شدة وَقْعِ مصيبة موته على نفسه أن سقط مغشيًّا عليه أمام جثمانه رحمه الله (15) لعظم حبّه له وتقديره لمكانته وإدراكه لقيمة الخسارة المترتبة عن فقده.
لمّا توفي رئيس الجمعية الشيخ ابن باديس كان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في منفاه في آفلو جنوب غرب الجزائر، فانتخبه إخوانه العلماء - وهو في منفاه- رئيساً جديداً لهم، فاضطلع الميلي مع بقية العلماء ورجال الجمعية بمهامها والقيام بأعمالها إلى أن عاد رئيسُها المنفي إلى أعماله فكان خيرَ عون له عليها، كيف لا، وقد وصف الإبراهيمي نفسه مكانتَه وسيرتَه فيها بقوله رحمهما الله جميعا » وإنّ لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقاً، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضل الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلَها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفترٍ، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه «. (16)
آثاره ومكانته العلمية
لم يترك الشيخ مبارك الميلي كغيره من علماء الجمعية آنذاك آثاراً علمية مدونة كثيرة، وذلك بسبب انشغالهم بأعمال التربية والتعليم، وإدارة أمور الجمعية ومصالحها، والتنقل المستمر في أطراف البلاد لتلك الأغراض وغيرها.
ورغم تلك الظروف والأسباب فإننا نجد أنه -رحمه الله- قد ترك بالإضافة إلى مجموعة مقالاته في صحف جمعية العلماء وغيرها، مؤلّفين مشهورين كان أولهما هو »تاريخ الجزائر في القديم والحديث« والذي صدر الجزء الأول منه سنة 1927، والثاني في 1932، وقد انتهى الشيخ الميلي في تأليفه للكتاب إلى بداية العهد العثماني من تاريخ الجزائر، ومات من غير أن يتمّه، فأضاف له بعد استقلال الجزائر ابنُه محمد جزءاً ثالثاً خاصاً بالحقبة العثمانية.
وقد نال كتاب الشيخ مبارك هذا إعجابَ وتقدير الكثيرين من العلماء والمفكرين والسياسيين والصحف والنوادي الأدبية والفكرية. وقد نظّم محبّو المؤلف حفلاً بمدينة قسنطينة تكريماً له بمناسبة إصداره للجزء الأول منه.(17)
و مِن الشخصيات التي أُعجبت بذلك التأليف، الأمير شكيب أرسلان الذي كتب -بعد اطّلاعه عليه- إلى الشيخ الطيب العقبي قائلاً »... وأما تاريخ الجزائر فوالله ما كنت أظن أنّ في الجزائر من يفري مثل هذا الفرْي. ولقد أُعجبت به كثيراً«. (18)
أما شيخه العالم المجدّد عبد الحميد بن باديس فقد سرّ لذلك الكتاب أيّما سرور، إدراكاً منه لقيمته وحاجة المسلمين في الجزائر لمثله في تلك المرحلة من حياتهم، فأرسل إليه كتابَ ثناء وتقدير ننقل فيما يلي بعض ما جاء فيه » ... وقفتُ على الجزء الأول من كتابك »تاريخ الجزائر في القديم والحديث« فقلتُ لو سمّيتَه »حياة الجزائر« لكان بذلك خليقاً، فهو أول كتاب صوَّر الجزائر في لغة الضاد صورةً سوية تامة، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك...إذا كان من أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً، فكيف من أحيا أمة كاملة، أحيا ماضيها وحاضرها... فليس-والله- كفاء عملك أن تشكره الأفراد، ولكنّ كفاءه أن تشكره الأجيال... « (19)
أما الأثر الثاني فهو »رسالة الشرك ومظاهره« الذي سبقت الإشارة إليه من قبل. فقد كانت له مكانته العلمية أيضاً، وتلقّى حينئذ قبولاً واسعاً لدى الكثيرين من أهل العلم داخل الجزائر وخارجها، خاصة في مصر والحجاز. وقد تقرّر اعتماده كمصدر علمي في بعض جامعات وثانويات تونس والجزائر وغيرهما، (20) ولا يزال يُطبع إلى الآن.
ولأهمية ذلك الأثر، فقد أقرّه مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين -بعد اجتماع دَرس فيه أعضاؤُه مادته- من خلال تقرير أمضاه الكاتب العام للجمعية آنذاك، الشيخ العربي التبسي -رحمه الله- نسوق فيما يلي بعض ما جاء فيه: »...إذ دعاة الإصلاح اليوم في حاجة ماسة إلى رسالة في هذا الموضوع جامعة لأدلة هذه المسائل... فنهض إلى القيام بهذا الفرض الكفائي، الأستاذ المحقق مؤرخ الجزائر الشيخ مبارك الميلي أمين مال جمعية العلماء، وجمعَ رسالةً تحت عنوان »رسالة الشرك ومظاهره« خدم بها الإسلام ونصر بها السنة وقاوم بها العوائد الضالة، والخرافات المفسدة للعقول. وعرض هذه الرسالة على مجلس إدارة الجمعية، فتصفحها واستقصى مسائلها، فإذا هي رسالة تعدّ في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصرة السنن وإماتة البدع، تقرّ بها عين السنة والسنيين، وتنشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشّين للإسلام والمسلمين من جهلة المسلمين، ومن أحمرة المستعمرين الذين يجدون في هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم... وإنّ المجلس الإداري لجمعية العلماء يقرّر بإجماع أعضائه أحقية ما اشتملت عليه هذه الرسالة العلمية المفيدة، ويوافق مؤلفَها على ما فيها، ويدعو المسلمين إلى دراستها والعمل بما فيها... «. (21)
وكما لقي كتابُ الميلي ترحيبًا كبيراً في أوساط علماء الإصلاح، فقد قُوبِل أيضاً برفض شديد من قِبَل الكثيرين من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم، وخاصة في أوساط الطريقتين التيجانيّة والعلويّة، هذه الأخيرة التي تهجمت على الكتاب ومؤلفه بصفة خاصة وجمعية العلماء ودعاة الإصلاح بصفة عامة، ومثال ذلك ما تضمّنَتهُ رسالةٌ نُشِرَت لأحد أتباع تلك الطريقة في صحيفة »لسان الدين« (22) وكان مما جاء فيها: »...لقد اطلعت على الكتاب المسمّى بالشرك ومظاهره لمؤلفه الشيخ مبارك الميلي، ولقد عرَّفتني صورةُ ذلك الكتاب ما تُقاسيه الأمة الجزائرية من المحن والبلايا من جماعة الإصلاح... وقد حوى الكتابُ جملةً من التمويهات والأضاليل وفساد العقائد، وبالجملة فقد دَسَّ الشيخُ مبارك الميلي في هذا الكتاب ما لم يَدُسُّه إبليسُ في ثلاثة عشر قرناً« .
بالإضافة إلى الكتابين السابقين، كان للميلي شروحاً لبعض القصائد، منها بائية حافظ، وقصيدةٌ لبشر بن عوانة، وقصيدة للضرير الأندلسي وغيرها.
ورغم قلمه الخصب، وفكره النير، وميله إلى التأليف، فإنه لم يكمل ما بدأه في تأليفه في تاريخ الجزائر ولم يُنتج غيرَ ما ذكرنا من قبل، وربما يكون مرض »السكري« الذي لازمه طيلة السنوات الأخيرة من حياته أحدَ الأسباب الرئيسة التي شكلت حاجزاً بينه وبين التفرغ لذلك، ومؤثراً على نشاطه ومستوى أدائه في القيام بمسؤولياته. فلقد أرهقه المرض، وأثّر في صحته بشكل كبير حتى صيَّرَ بدنَه هيكلاً هزيلاً تهتزّ لرؤيته قلوبُ من عرفوه أيام الصحة والعافية. (23)
رغم قصر حياته والظروف الصعبة التي تخلّلتها، فقد ترك الشيخ الميلي بصمات واضحة جلية في تاريخ النهضة والإصلاح في الجزائر، وفراغاً رهيباً بعد اشتداد المرض عليه، ثم وفاته بعد ذلك، إذ كان يعتبر واحداً من المؤهلين للقيام بدور قيادي وريادي مهم في الحركة الإصلاحية بصفة خاصة، وفيما استقبلته الجزائر من أحداث جسام بعد وفاته بصورة عامة. ذلك الدور -الذي كانت صفاته ومؤهلاته وأعماله خلال حياته- تنبئ وتبشر به. »... ويمينًا لولا ملازمة المرض الذي أودى به، وتأثيره في قوته البدنية، وفي قوته العقلية، لكان فلتةً في البطولة العلمية بهذا الوطن، كما كان آية في الذكاء ودقة الفهم والجلَد على البحث والاطلاع«. (24)
فقد نال -رحمه الله- بتلك الصفات مكانة علمية مرموقة في تاريخ الجزائر الحديث، شهد له بها كلُّ من عرفه عن قرب. ولعل أبلغ وأجمع ما كُتب أو قيل في وصف مؤهلات تلك الشخصية الفذة ومكانتها العلمية ما كتبه الإبراهيمي في »البصائر« العدد 26 بتاريخ 8 /3/1948 بمناسبة الذكرى الثالثة لوفاته رحمه الله؛ إذ قال: » حياة كلها جدٌّ وعمل، وحيٌّ كله فكر وعلم، وعُمر كله درس وتحصيل، وشباب كله تَلقّ واستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعةُ خِلال سديدة، وأعمال مفيدة، قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيَّأت لصاحبها مكانَه من قيادة الجيل، ومهدَّت له مقعدَه من زعامة النهضة. « (25)
وفاته
ورغم شدة المرض، وتزايد تأثيراته على بدنه ونشاطه في أيامه الأخيرة، فقد كان الشيخ مبارك الميلي يحاول تحدي ذلك الوضع ولو بالقيام بالحد الأدنى من الأعمال، فلم تمنعه تلك الظروف الصحية من الحضور والتواجد في »مدرسة التربية والتعليم« بقسنطينة بيوم واحد قبل وفاته، حيث نُقِل-بطلب منه- إلى ميلة ليموت بين أهله، دخل في غيبوبة فارق بعدها الحياة في يوم 9 فبراير 1945. (26)
وشيع جنازتَه الآلاف من المحبين الذين قدِموا من أنحاء مختلفة من البلاد، وأبَّنَه باسم العلماء رئيسُهم الشيخ محمد البشير الإبراهمي، وباسم الهيئات الوطنية فرحات عباس زعيم حزب البيان يومها. و دُفن بجانب قبر شيخه محمد بن معنصر الميلي. (27)
وقد حزن لفراقه العلماءُ والمحبون وكل من عرف قدره ومكانته. ونظراً لأهمية مكانته العلمية، فقد أقامت إدارة »مجلة الزيتونة« بتونس تأبيناً له بجامع الزيتونة، تحدّث فيه العديد من الشخصيات العلمية التي عرفته من شيوخ وزملاء.
وكان مِن جملة المتحدثين في ذلك الجمع العلمي، شيخُه السابق في »جامع الزيتونة« الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي الذي ذكر مناقبه ومكانته العلمية ودوره الريادي في نهضة الشمال الإفريقي، وكان مما جاء في تلك الكلمة ما يلي: » ...فقد جاهد في الإصلاح بلسانه وقلمه، وبرّز في الميادين كمصلح عظيم وداعية خطير ومؤلف تاريخي واجتماعي من خيرة المؤلفين وأصدقهم قولاً وأنفعهم تأليفاً، ومن أَقْدَر الكُتّاب وأبلغهم حجة. بعيدٌ عن الاصطناع والأقاويل الزائفة، لا تأخذه هوادة في الإصداع بما يمليه عليه وجدانه، شديدٌ في المقاومة و المناضلة والمناظرة، شديدُ التأثر بآراء الشيخ ابن تيمية، مُؤمِنٌ برجاحة مذهبه... «(28)
و قد خسرت الأمة بوفاة الشيخ مبارك الميلي، واحدا من أبرز رجالها وأعلامها الذين أحسنوا حمل الرسالة وأداء الأمانة والواجبات من غير كلٍّ أو مَلَل. ولقد أحسن مَلِكُ اللغة العربية في العصر الحديث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وصفَ أبعاد الفراغ الذي ترتب عن وفاته، وآثار ذلك على أصعدة مختلفة ومجالات متعددة، حيث أجملَها ببيانه -في الذكرى الثالثة لوفاته- فيما يلي »... مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين ففقدت بفقده مؤرّخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافلُ الإصلاحية؛ ففقدت منه عالماً بالسلفية الحقة عاملاً بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنة ...وفقدته دواوين الكتابة؛ ففقدت كاتبًا فحلَ الأسلوب جزل العبارة لبقاً بتوزيع الألفاظ على المعاني ...وفقدته مجالسُ النظر والرأي ففقدت مدرهاً لا يُبارى في سوق الحجة وحضور البديهة، وسداد الرمية، والصلابة في الحق، والوقوف عند حدوده. وفقدته جمعيةُ العلماء ففقدت ركناً باذخاً من أركانها لا كلاً ولا وكلاً، بل نهّاضاً بالعبء مضطلعًا بما حمل من واجب، لا تُؤتَى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سدّه، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه. وفقدت بفقده عَلَماً كانت تستضيء برأيه في المشكلات، فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح« (29)
فرحم الله الشيخ مبارك الميلي رحمة واسعة.
العلامة الشيخ مبارك الميلي
بقلم: الأستاذ نبيل أحمد حلاق
الحديث عن عظيم من عظماء أيّ أمة أو علم من أعلامها، هو حديث عن ذاكرتها وتاريخها، ووصل بين حلقات الأجيال المتعاقبة فيها، يتعرّف من خلاله اللاحقُ منها على السابق، وترث منها أسبابَ العز والمجد، وتستأنف بزادها مسيرة الحياة. وليس عيبا أن تتذكر أمةٌ أعلامَها ورجالَها وتجعل لذلك آثاراً و علامات، ما لم تكن تلك الذكريات مناحات قائمة على الندب والتفجّع، وهدر للأموال والأوقات، وتلاعب بالتاريخ والحقائق، بل عظة وتدبراً، وتأملاً في جوانب العظمة والقوة في حياتهم لغرض الاقتداء والتأسّي.
والجانب المفيد في هذه الذكريات -كما يقول العلامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي- أن تكون درساً لخصائص الرجال، وتجلية لمناشئ ذلك فيهم، ووضعاً للأيدي على الذخائر الخلُقية المودعة في نفوسهم الكبيرة، وإعلاناً للميزات العالية التي كانوا بها رجالاً، وإذاعة لما يجهله الناس أو يغلطون فيه من موازين الرجولة أو يبخسونه من قيمها. (1)
والعلاّمة الشيخ مبارك الميلي واحد من الأعلام العظام الذين تفتخر الأمة المسلمة بانتمائهم إليها، وتتشرف أرض الجزائر بإنجاب أمثاله. فلقد أفنى - رحمه الله- حياته كلها في خدمة أمته وبلده، والدفاع عن كل ما تقوم به حياتهما، وتتحقق به كرامتهما. فكان من ثَمّ حقه على الأجيال أن تحفظ له فضله وتذكر أعماله ومناقبه، لتكون مناراً مرشداً لها، ولمن سيأتي بعدها.وهذه السطور محاولة للوقوف عند بعض المحطات الرئيسة في حياة ذلك الرجل العظيم -في الذكرى الستين لوفاته- والتأمل في بعض جوانب العظمة من سيرته.
عصره و بيئته
يُعتبر العصر الذي وُلِد ونشأ فيه الشيخ مبارك الميلي، من أظلم الحقب التي مرت بها الجزائر منذ عهود طويلة من تاريخها. ذلك لأنه قد مضى على الاحتلال الفرنسي لها حينئذ قرابة القرن. كما أن فشل ثورات الجزائريين المتتالية ضد ذلك الاحتلال، وما تبعه من بطش وانتقام، قد بعث روحَ اليأس في الكثيرين منهم، وأرسى من جهة أخرى قناعة قويّة لدى الاحتلال بأن الجزائر صارت -وإلى غير رجعة- قطعة من ممتلكاته وامتداداً لنفوذه وسلطانه، وقد عبّر ذلك المستعمر عن تلك القناعة بكل تحدٍّ وغرور في احتفالاته الاستفزازية بمناسبة مرور قرن على احتلاله للبلاد.
ورغم تلك الصورة القاتمة، فقد كانت -على الجانب الآخر منها- تلوح تباشير الأمل بميلاد جيل جديد من الجزائريين، حيث شهد زمنُ ميلاد الشيخ مبارك الميلي، ميلادَ العديد من أبناء جيل النهضة والأمل من أمثال ابن باديس والعقبي والإبراهيمي والتبسي وكثيرين غيرهم. كما عرف أيضا حركةً علمية كان يقوم بها جملةٌ من العلماء المصلحين من أمثال الشيوخ بن مهنا والمجاوي وبن سماية وبن الموهوب وحمدان الونيسي وغيرهم، بالإضافة إلى جهود المقاومة السلمية المتمثلة في حركة الأمير خالد وغيره. غير أن تلك الحركة العلمية كانت تتم بشكل فردي وتخضع لامكانات القائمين عليها وللظروف المحيطة بهم؛ إذ إنَّ معظمهم كان موظفاً رسمياً يعمل تحت رقابة وإشراف إدارة الاحتلال. وعندما عاد روّادُ النهضة العلمية والإصلاحية -فيما بعد- من دراساتهم خارج الجزائر في جامعتي الزيتونة والأزهر وغيرهما، اتّحدت الجهود وتوحّدت الفكرة وتحدّد المنهج، فدُكّت على إثر ذلك صروحُ الجهالة والخرافات، وتهاوت أصنام الاستعمار في نفوس الجزائريين وعقولهم، فانتفضوا وأزالوها من واقعهم، وحطّموا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وذلك بثورة 1954 المباركة.
مولده ونشأته وتعلمه
وُلد الشيخ مبارك بن محمد الإبراهيمي الميلي في قرية »أورمامن« في جبال الميلية بشرق الجزائر حوالي سنة 1896. و مات والده وهو في الرابعة من عمره.
عكف منذ صغره -كغيره من الكثيرين من أبناء الجزائريين آنذاك- على حفظ القرآن الكريم، فأتمّ حفظه على يد الشيخ أحمد بن الطاهر مزهود في جامع سيدي عزوز بأولاد مبارك.(2)
بعد إتمام حفظ القرآن، رَغبَ الميلي في مواصلة مسيرة طلب العلم، فاتجه إلى مدرسة الشيخ محمد بن معنصر الشهير بالميلي (3) ببلدة ميلة مكث أربع سنوات، ثم اتجه إلى مدينة قسنطينة وانضم إلى دروس الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، وأصبح من بين أعظم تلاميذه وأكثرهم انتفاعاً بعلمه.(4) غادر الميلي قسنطينة بعد ذلك إلى تونس لمواصلة دراسته »بالزيتونة« درس مثل شيخه ابن باديس على أبرز شيوخها من أمثال عثمان خوجة ومحمد النخلي والصادق النيفر ومحمد بن القاضي والطاهر بن عاشور وغيرهم، ثم ليعود بعد تخرجه منها إلى بلده الجزائر سنة 1925.(5)
عودته إلى الجزائر وأعماله فيها
استقر الشيخ مبارك الميلي فور عودته إلى الجزائر بمدينة قسنطينة عمل مُعلماً في مدرسة قرآنية عصرية تأسست في مسجد »سيدي بومعزة « الذي كان يقع في نفس شارع مطبعة وإدارة جريدة الشيخ ابن باديس »الشهاب«. (6)
فبقي في تلك المدرسة إلى بداية سنة 1927 ثم غادر قسنطينة إلى مدينة الأغواط في الجنوب الجزائري، والتي استقبله أهلها استقبالاً عظيماً.(7) فقام فور وصوله إليها بتأسيس مدرسة تولى فيها الإشراف على تعليم أبناء الجزائريين بنفسه.
تعرّف الشيخ الميلي من خلال تلك المدرسة على بعض أبناء المدينة ورجالها الذين كانوا يؤيّدون منهجه الإصلاحي ويؤازرونه في أعماله، كما تعرّف أهل الأغواط بدورهم على الميلي، فأحبّوه ورأوا فيه رجل العلم المتمكن والمتنوّر والمتحرّر من قيود الشعوذة والخرافات السائدة بين أوساط أهل العلم في ذلك العصر.
ذاع سيط الشيخ الميلي بين سكان المدينة، وعرفت مدرسته نشاطاً متنامياً وقبولاً متزايداً لدى الشباب خاصة، كما صار نشاطه يمثل وجوداً بارزاً للإصلاح الذي كانت تعارضه الطرق الصوفية آنذاك، وباتت أفكاره وآراؤه محل حديث الخاص والعام في المجتمع. ولم يكن يقتصر نشاطه في تلك المدينة على الجانب العلمي فقط، بل تجاوزه إلى جوانب أخرى لم تكن مألوفة ولا معروفة عن أهل العلم حينئذ مثل قيامه بتأسيس أول نادٍ لكرة القدم في المدينة سنة 1927.
أثار تنامي نشاط الميلي تخوف السلطات الفرنسية من الانعكاسات التي قد تنتج عن تأثيره في فئة الشباب خاصة والمجتمع عامة، فأمرته بمغادرة الأغواط بعد سنوات من العمل والنشاط. ويبدو أنَّ الطريقة التيجانيّة لم تكن بريئة من السعي لإثارة تلك المخاوف في أوساط إدارة الاحتلال ومن ثَمَّ استصدار قرار الإبعاد النهائي.(
غادر الشيخ مبارك الأغواط متجها إلى بلدة بوسعادة قام بالأعمال والنشاطات نفسها، إلا أن حظه مع الإدارة الفرنسية في تلك البلدة لم يكن أفضل من الأولى، حيث أمرته بدورها بمغادرة بوسعادة أيضاً.
بعد سنوات من العمل والنشاط في قسنطينة والأغواط وبوسعادة، عاد الشيخ الميلي إلى ميلة ليستأنف ما بدأه من أعمال منذ عودته من تونس، فاستقر بها، وسعى بمعية بعض أعيانها إلى تأسيس مسجد جامع تُقام فيه الصلوات، فكان هو خطيبَه والواعظَ فيه، وقد أُقيم المسجد على جزء من بيت فسيح أهداه أحد أعيان المدينة المناصرين للإصلاح - محمد بن ناصف- إلى أهل البلدة. ثم أنشأ الإصلاحيون في ميلة بقيادة الشيخ الميلي، جمعيةً باسم »النادي الإسلامي« فانضمت جهودُها إلى ما كان يقوم به ذلك المسجد من أعمال في مجال الإصلاح. وتوسيعاً لدائرة الأعمال والنشاطات فقد كوّن المسجد والنادي المذكورين جمعيةً أخرى تحت اسم »جمعية حياة الشباب«. (9)
وقد أثّرت تلك النشاطات المكثفة والمتنوعة - من خلال تلك المراكز العلمية- في الناس أيَّما تأثير، مما أدّى ببعض التقارير الفرنسية آنذاك، بالإقرار بأن الشيخ مبارك الميلي كان يُقَدِّم تعليماً حيًّا وواسعا.(10) وهذا ما جلب له كغيره من زملائه من علماء الإصلاح الآخرين، سخطَ إدارة الاحتلال من جهة، والعلماء الرسميين –الموظفين عند الإدارة الفرنسية- وشيوخ الطرق الصوفيّة من جهة أخرى.
نشاطه الصحفي
ساهم الشيخ مبارك الميلي بقلمه السيال في الحياة الصحفية في الجزائر في عهده، فأظهر نشاطاً بارزاً فيها، وكان أحدَ أبرز الطاقات التي قامت عليها الصحافة الإصلاحية بصفة خاصة؛ إذ كان من أول المحررين في »المنتقد« و »الشهاب« منذ أيامهما الأولى ثم في »السُنة« و»البصائر« التي تولى إدارة تحريرها بعد تخلي الشيخ الطيب العقبي عنها سنة 1935. »فقد تولى إدارتها فأحسن الإدارة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصّر عن شأو، ولا كبا دون غاية... « (11)
كانت كتابات الميلي الصحفية تصدر بإمضائه الصريح تارة، وباسم »البيضاوي« تارة أخرى، كما كان يكتب بغير إمضاء أو بأسماء مستعارة تارات أخرى حسب الظروف المحيطة بالحدث أو الموضوع الذي كان يتناوله.(12) وقد نالت مساهماته الصحفية إعجاب الكثيرين من أهل العلم والاختصاص، حيث وصف بعضُهم عملَه الصحفي بأنه كان مملوءًا قوةً وحركة ونشاطاً، وأنّ أسلوبه الكتابي كان قوياً في التعبير والانسجام مع دلالة أفكاره على كفاية واضحة وتضلّع ووفرة مادة. (13)
وكانت كتاباته تدور في معظمها حول قضية عصره، ألا وهي الإصلاح الديني والاجتماعي، فكان يصوّب سهامه تجاه قلاع الاستعمار من خلال الهجوم على الخرافات التي علقت بأذهان الناس وسلوكياتهم، وبكشف أباطيل اعتقاداتهم في أدعياء التديّن من شيوخ التصوف الموالين للاحتلال. وكان ما كتبه في »البصائر« تحت عنوان »الشرك ومظاهره« في حلقات عديدة أبرز دليل على ذلك الخط الذي رسمه لنفسه في هذا المجال. وقد تم جمع تلك الحلقات فيما بعد ونشرت في كتاب بطلب من بعض أصدقائه وقرائه سنة 1937 تحت عنوان »رسالة الشرك ومظاهره«.
في جمعية العلماء
حينما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931 بنادي الترقي بعاصمة الجزائر، كان من الطبيعي لشخص بمثل صفات الشيخ مبارك الميلي أن يكون واحداً من أهم أركان ودعائم إدارتها، خاصة وأنه كان قد لازَم الشيخ عبد الحميد ابن باديس-قبل تأسيسها- طالباً جاداً ثم عاملاً ناجحاً مقتدراً في حقل الإصلاح بجانبيه التعليمي والصحفي. وكنتيجة لتلك المكانة، فقد تم انتخابه عند تأسيس الجمعية عضواً في مجلس إدارتها وأميناً للمال فيها. ولقد شَهِد له بعض من عرفه عن قرب بالأمانة وحسن التسيير والتدبير في أعماله التي اضطلع بها. (14)
إلى جانب تلك المهام التي كُلّف بها، كان يقوم مع غيره من زملائه العلماء بأعمال الجمعية المتنوعة الأخرى كالتعليم والخطابة والصحافة والجولات العملية لمختلف أنحاء الجزائر وغيرها. وقد كان الشيخ الميلي يقوم بتلك الأعمال جنباً إلى جنب مع الشيخ ابن باديس إلى أن توفي الأخير في 16/04/ 1940، فكان من شدة وَقْعِ مصيبة موته على نفسه أن سقط مغشيًّا عليه أمام جثمانه رحمه الله (15) لعظم حبّه له وتقديره لمكانته وإدراكه لقيمة الخسارة المترتبة عن فقده.
لمّا توفي رئيس الجمعية الشيخ ابن باديس كان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في منفاه في آفلو جنوب غرب الجزائر، فانتخبه إخوانه العلماء - وهو في منفاه- رئيساً جديداً لهم، فاضطلع الميلي مع بقية العلماء ورجال الجمعية بمهامها والقيام بأعمالها إلى أن عاد رئيسُها المنفي إلى أعماله فكان خيرَ عون له عليها، كيف لا، وقد وصف الإبراهيمي نفسه مكانتَه وسيرتَه فيها بقوله رحمهما الله جميعا » وإنّ لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقاً، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضل الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلَها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفترٍ، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه «. (16)
آثاره ومكانته العلمية
لم يترك الشيخ مبارك الميلي كغيره من علماء الجمعية آنذاك آثاراً علمية مدونة كثيرة، وذلك بسبب انشغالهم بأعمال التربية والتعليم، وإدارة أمور الجمعية ومصالحها، والتنقل المستمر في أطراف البلاد لتلك الأغراض وغيرها.
ورغم تلك الظروف والأسباب فإننا نجد أنه -رحمه الله- قد ترك بالإضافة إلى مجموعة مقالاته في صحف جمعية العلماء وغيرها، مؤلّفين مشهورين كان أولهما هو »تاريخ الجزائر في القديم والحديث« والذي صدر الجزء الأول منه سنة 1927، والثاني في 1932، وقد انتهى الشيخ الميلي في تأليفه للكتاب إلى بداية العهد العثماني من تاريخ الجزائر، ومات من غير أن يتمّه، فأضاف له بعد استقلال الجزائر ابنُه محمد جزءاً ثالثاً خاصاً بالحقبة العثمانية.
وقد نال كتاب الشيخ مبارك هذا إعجابَ وتقدير الكثيرين من العلماء والمفكرين والسياسيين والصحف والنوادي الأدبية والفكرية. وقد نظّم محبّو المؤلف حفلاً بمدينة قسنطينة تكريماً له بمناسبة إصداره للجزء الأول منه.(17)
و مِن الشخصيات التي أُعجبت بذلك التأليف، الأمير شكيب أرسلان الذي كتب -بعد اطّلاعه عليه- إلى الشيخ الطيب العقبي قائلاً »... وأما تاريخ الجزائر فوالله ما كنت أظن أنّ في الجزائر من يفري مثل هذا الفرْي. ولقد أُعجبت به كثيراً«. (18)
أما شيخه العالم المجدّد عبد الحميد بن باديس فقد سرّ لذلك الكتاب أيّما سرور، إدراكاً منه لقيمته وحاجة المسلمين في الجزائر لمثله في تلك المرحلة من حياتهم، فأرسل إليه كتابَ ثناء وتقدير ننقل فيما يلي بعض ما جاء فيه » ... وقفتُ على الجزء الأول من كتابك »تاريخ الجزائر في القديم والحديث« فقلتُ لو سمّيتَه »حياة الجزائر« لكان بذلك خليقاً، فهو أول كتاب صوَّر الجزائر في لغة الضاد صورةً سوية تامة، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك...إذا كان من أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً، فكيف من أحيا أمة كاملة، أحيا ماضيها وحاضرها... فليس-والله- كفاء عملك أن تشكره الأفراد، ولكنّ كفاءه أن تشكره الأجيال... « (19)
أما الأثر الثاني فهو »رسالة الشرك ومظاهره« الذي سبقت الإشارة إليه من قبل. فقد كانت له مكانته العلمية أيضاً، وتلقّى حينئذ قبولاً واسعاً لدى الكثيرين من أهل العلم داخل الجزائر وخارجها، خاصة في مصر والحجاز. وقد تقرّر اعتماده كمصدر علمي في بعض جامعات وثانويات تونس والجزائر وغيرهما، (20) ولا يزال يُطبع إلى الآن.
ولأهمية ذلك الأثر، فقد أقرّه مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين -بعد اجتماع دَرس فيه أعضاؤُه مادته- من خلال تقرير أمضاه الكاتب العام للجمعية آنذاك، الشيخ العربي التبسي -رحمه الله- نسوق فيما يلي بعض ما جاء فيه: »...إذ دعاة الإصلاح اليوم في حاجة ماسة إلى رسالة في هذا الموضوع جامعة لأدلة هذه المسائل... فنهض إلى القيام بهذا الفرض الكفائي، الأستاذ المحقق مؤرخ الجزائر الشيخ مبارك الميلي أمين مال جمعية العلماء، وجمعَ رسالةً تحت عنوان »رسالة الشرك ومظاهره« خدم بها الإسلام ونصر بها السنة وقاوم بها العوائد الضالة، والخرافات المفسدة للعقول. وعرض هذه الرسالة على مجلس إدارة الجمعية، فتصفحها واستقصى مسائلها، فإذا هي رسالة تعدّ في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصرة السنن وإماتة البدع، تقرّ بها عين السنة والسنيين، وتنشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشّين للإسلام والمسلمين من جهلة المسلمين، ومن أحمرة المستعمرين الذين يجدون في هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم... وإنّ المجلس الإداري لجمعية العلماء يقرّر بإجماع أعضائه أحقية ما اشتملت عليه هذه الرسالة العلمية المفيدة، ويوافق مؤلفَها على ما فيها، ويدعو المسلمين إلى دراستها والعمل بما فيها... «. (21)
وكما لقي كتابُ الميلي ترحيبًا كبيراً في أوساط علماء الإصلاح، فقد قُوبِل أيضاً برفض شديد من قِبَل الكثيرين من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم، وخاصة في أوساط الطريقتين التيجانيّة والعلويّة، هذه الأخيرة التي تهجمت على الكتاب ومؤلفه بصفة خاصة وجمعية العلماء ودعاة الإصلاح بصفة عامة، ومثال ذلك ما تضمّنَتهُ رسالةٌ نُشِرَت لأحد أتباع تلك الطريقة في صحيفة »لسان الدين« (22) وكان مما جاء فيها: »...لقد اطلعت على الكتاب المسمّى بالشرك ومظاهره لمؤلفه الشيخ مبارك الميلي، ولقد عرَّفتني صورةُ ذلك الكتاب ما تُقاسيه الأمة الجزائرية من المحن والبلايا من جماعة الإصلاح... وقد حوى الكتابُ جملةً من التمويهات والأضاليل وفساد العقائد، وبالجملة فقد دَسَّ الشيخُ مبارك الميلي في هذا الكتاب ما لم يَدُسُّه إبليسُ في ثلاثة عشر قرناً« .
بالإضافة إلى الكتابين السابقين، كان للميلي شروحاً لبعض القصائد، منها بائية حافظ، وقصيدةٌ لبشر بن عوانة، وقصيدة للضرير الأندلسي وغيرها.
ورغم قلمه الخصب، وفكره النير، وميله إلى التأليف، فإنه لم يكمل ما بدأه في تأليفه في تاريخ الجزائر ولم يُنتج غيرَ ما ذكرنا من قبل، وربما يكون مرض »السكري« الذي لازمه طيلة السنوات الأخيرة من حياته أحدَ الأسباب الرئيسة التي شكلت حاجزاً بينه وبين التفرغ لذلك، ومؤثراً على نشاطه ومستوى أدائه في القيام بمسؤولياته. فلقد أرهقه المرض، وأثّر في صحته بشكل كبير حتى صيَّرَ بدنَه هيكلاً هزيلاً تهتزّ لرؤيته قلوبُ من عرفوه أيام الصحة والعافية. (23)
رغم قصر حياته والظروف الصعبة التي تخلّلتها، فقد ترك الشيخ الميلي بصمات واضحة جلية في تاريخ النهضة والإصلاح في الجزائر، وفراغاً رهيباً بعد اشتداد المرض عليه، ثم وفاته بعد ذلك، إذ كان يعتبر واحداً من المؤهلين للقيام بدور قيادي وريادي مهم في الحركة الإصلاحية بصفة خاصة، وفيما استقبلته الجزائر من أحداث جسام بعد وفاته بصورة عامة. ذلك الدور -الذي كانت صفاته ومؤهلاته وأعماله خلال حياته- تنبئ وتبشر به. »... ويمينًا لولا ملازمة المرض الذي أودى به، وتأثيره في قوته البدنية، وفي قوته العقلية، لكان فلتةً في البطولة العلمية بهذا الوطن، كما كان آية في الذكاء ودقة الفهم والجلَد على البحث والاطلاع«. (24)
فقد نال -رحمه الله- بتلك الصفات مكانة علمية مرموقة في تاريخ الجزائر الحديث، شهد له بها كلُّ من عرفه عن قرب. ولعل أبلغ وأجمع ما كُتب أو قيل في وصف مؤهلات تلك الشخصية الفذة ومكانتها العلمية ما كتبه الإبراهيمي في »البصائر« العدد 26 بتاريخ 8 /3/1948 بمناسبة الذكرى الثالثة لوفاته رحمه الله؛ إذ قال: » حياة كلها جدٌّ وعمل، وحيٌّ كله فكر وعلم، وعُمر كله درس وتحصيل، وشباب كله تَلقّ واستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعةُ خِلال سديدة، وأعمال مفيدة، قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيَّأت لصاحبها مكانَه من قيادة الجيل، ومهدَّت له مقعدَه من زعامة النهضة. « (25)
وفاته
ورغم شدة المرض، وتزايد تأثيراته على بدنه ونشاطه في أيامه الأخيرة، فقد كان الشيخ مبارك الميلي يحاول تحدي ذلك الوضع ولو بالقيام بالحد الأدنى من الأعمال، فلم تمنعه تلك الظروف الصحية من الحضور والتواجد في »مدرسة التربية والتعليم« بقسنطينة بيوم واحد قبل وفاته، حيث نُقِل-بطلب منه- إلى ميلة ليموت بين أهله، دخل في غيبوبة فارق بعدها الحياة في يوم 9 فبراير 1945. (26)
وشيع جنازتَه الآلاف من المحبين الذين قدِموا من أنحاء مختلفة من البلاد، وأبَّنَه باسم العلماء رئيسُهم الشيخ محمد البشير الإبراهمي، وباسم الهيئات الوطنية فرحات عباس زعيم حزب البيان يومها. و دُفن بجانب قبر شيخه محمد بن معنصر الميلي. (27)
وقد حزن لفراقه العلماءُ والمحبون وكل من عرف قدره ومكانته. ونظراً لأهمية مكانته العلمية، فقد أقامت إدارة »مجلة الزيتونة« بتونس تأبيناً له بجامع الزيتونة، تحدّث فيه العديد من الشخصيات العلمية التي عرفته من شيوخ وزملاء.
وكان مِن جملة المتحدثين في ذلك الجمع العلمي، شيخُه السابق في »جامع الزيتونة« الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي الذي ذكر مناقبه ومكانته العلمية ودوره الريادي في نهضة الشمال الإفريقي، وكان مما جاء في تلك الكلمة ما يلي: » ...فقد جاهد في الإصلاح بلسانه وقلمه، وبرّز في الميادين كمصلح عظيم وداعية خطير ومؤلف تاريخي واجتماعي من خيرة المؤلفين وأصدقهم قولاً وأنفعهم تأليفاً، ومن أَقْدَر الكُتّاب وأبلغهم حجة. بعيدٌ عن الاصطناع والأقاويل الزائفة، لا تأخذه هوادة في الإصداع بما يمليه عليه وجدانه، شديدٌ في المقاومة و المناضلة والمناظرة، شديدُ التأثر بآراء الشيخ ابن تيمية، مُؤمِنٌ برجاحة مذهبه... «(28)
و قد خسرت الأمة بوفاة الشيخ مبارك الميلي، واحدا من أبرز رجالها وأعلامها الذين أحسنوا حمل الرسالة وأداء الأمانة والواجبات من غير كلٍّ أو مَلَل. ولقد أحسن مَلِكُ اللغة العربية في العصر الحديث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وصفَ أبعاد الفراغ الذي ترتب عن وفاته، وآثار ذلك على أصعدة مختلفة ومجالات متعددة، حيث أجملَها ببيانه -في الذكرى الثالثة لوفاته- فيما يلي »... مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين ففقدت بفقده مؤرّخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافلُ الإصلاحية؛ ففقدت منه عالماً بالسلفية الحقة عاملاً بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنة ...وفقدته دواوين الكتابة؛ ففقدت كاتبًا فحلَ الأسلوب جزل العبارة لبقاً بتوزيع الألفاظ على المعاني ...وفقدته مجالسُ النظر والرأي ففقدت مدرهاً لا يُبارى في سوق الحجة وحضور البديهة، وسداد الرمية، والصلابة في الحق، والوقوف عند حدوده. وفقدته جمعيةُ العلماء ففقدت ركناً باذخاً من أركانها لا كلاً ولا وكلاً، بل نهّاضاً بالعبء مضطلعًا بما حمل من واجب، لا تُؤتَى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سدّه، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه. وفقدت بفقده عَلَماً كانت تستضيء برأيه في المشكلات، فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح« (29)
فرحم الله الشيخ مبارك الميلي رحمة واسعة.
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
مواضيع مماثلة
» عيد مبارك
» مسابقة توظيف في مركز التكوين المهني والتمهين الرغاية الجزائر أوت 2014
» مسابقة توظيف بالمؤسسة العمومية للصحة الجوارية باب الواد أكتوبر 2014
» رمضان مبارك
» عام مبارك إن شاء الله
» مسابقة توظيف في مركز التكوين المهني والتمهين الرغاية الجزائر أوت 2014
» مسابقة توظيف بالمؤسسة العمومية للصحة الجوارية باب الواد أكتوبر 2014
» رمضان مبارك
» عام مبارك إن شاء الله
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى