الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
وَإِذْ
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)
وقوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ ) يعني: التوراة قد بَشَّرَت بي، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه، وأنا
مُبَشّر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه
السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام
في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي
لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جُبَير بن
مُطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي
أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا
الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي
عُبَيدة، عن أبي موسى قال: سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه
أسماءً، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمد، وأحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي
الرحمة، والتوبة، والملحمة".
ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به
وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [الأعراف : 157] وقال تعالى: وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران : 81]
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد وهو
حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه
وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يَزيد، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن
نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" .
وهذا إسناد جيد. ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال
السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأول
ذلك دَعْوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات
النبيين يَرَين" .
وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن
عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال:
"دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له
قصورُ الشام"
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى: سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية،
عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم: عبد
الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن [عُرْفُطَة]
وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص،
وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن
يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرًا من بني عمنا نـزلوا أرضك، ورغبوا
عنا وعن ملتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم.
فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد، فقالوا
له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟
قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل،
وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في
عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه
ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها
ولد. قال: فرفع عودًا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين
والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم
وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه
الذي بشر به عيسى ابن مريم. انـزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من
الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت
إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله
عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب
السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها
على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر
في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل
مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا
قالوا: "أخبرنا عن بَدْء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم،
وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك
والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ ) قال ابن جريج وابن جرير: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ ) أحمد، أي:
المُبَشَّر به في الأعصار المتقادمة، المُنَوَّه بذكره في القرون السالفة،
لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ )
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى
الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(9)
يقول تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ ) أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على
الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
ثم قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي: يحاولون أن يَرُدّوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل
؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقد تقدم الكلام
على هاتين الآيتين في سورة "براءة"، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ(11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن
يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنـزل الله هذه السورة،
ومن جملتها هذا الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ثم فسر هذه التجارة
العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال:
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ) أي: من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها.
ثم قال: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) أي: إن فعلتم ما أمرتكم
به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات،
والدرجات العاليات؛ ولهذا قال: (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
ثم قال: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها،
وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي: إذا قاتلتم في سبيله
ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد : 7] وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
[الحج : 40] وقوله (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي: عاجل فهذه الزيادة هي خير
الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا
قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ(14)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم،
بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب
الحواريون لعيسى حين قال: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) ؟ أي: معيني
في الدعوة إلى الله عز وجل؟ (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ) -وهم أتباع عيسى
عليه السلام-: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به
ومُوَازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في
الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
أيام الحج: "من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن
أبلغ رسالة ربي"
حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه،
وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم
بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله
ورسوله: الأنصار، وصار ذلك علما عليهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم. وقوله:
(فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) أي:
لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من
الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت
عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود -عليهم لعائن
الله المتتابعة إلى يوم القيامة-وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق
ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا، فمن قائل منهم: إنه ابن
الله. وقائل: إنه ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس. ومن قائل: إنه
الله. وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ) أي:
نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) أي:
عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن
جرير رحمه الله.
حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهال -يعني ابن
عمرو-عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله
عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا
من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر
مرة بعد أن آمن بي. قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون
معي في درجتي؟ قال: فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. قال: فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا. فقال له: اجلس. ثم عاد عليهم فقام
الشاب، فقال: أنا. فقال: نعم، أنت ذاك. قال: فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع
عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلَبُ من
اليهود، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن
آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق. فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد
إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم
رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء
الله ثم رفعه اليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة،
فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم،
(فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ )
يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت
في زمن عيسى، (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين
الكفار (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النسائي عند
تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء، عن أبي
معاوية، بمثله سواء .
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر
الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه
السلام، كما وردت [بذلك] الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)
وقوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ ) يعني: التوراة قد بَشَّرَت بي، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه، وأنا
مُبَشّر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه
السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام
في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي
لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جُبَير بن
مُطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي
أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا
الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي
عُبَيدة، عن أبي موسى قال: سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه
أسماءً، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمد، وأحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي
الرحمة، والتوبة، والملحمة".
ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به
وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [الأعراف : 157] وقال تعالى: وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران : 81]
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد وهو
حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه
وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يَزيد، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن
نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" .
وهذا إسناد جيد. ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال
السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأول
ذلك دَعْوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات
النبيين يَرَين" .
وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن
عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال:
"دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له
قصورُ الشام"
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى: سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية،
عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم: عبد
الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن [عُرْفُطَة]
وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص،
وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن
يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرًا من بني عمنا نـزلوا أرضك، ورغبوا
عنا وعن ملتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم.
فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد، فقالوا
له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟
قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل،
وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في
عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه
ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها
ولد. قال: فرفع عودًا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين
والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم
وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه
الذي بشر به عيسى ابن مريم. انـزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من
الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت
إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله
عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب
السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها
على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر
في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل
مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا
قالوا: "أخبرنا عن بَدْء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم،
وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك
والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ ) قال ابن جريج وابن جرير: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ ) أحمد، أي:
المُبَشَّر به في الأعصار المتقادمة، المُنَوَّه بذكره في القرون السالفة،
لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ )
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى
الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(9)
يقول تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ ) أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على
الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
ثم قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي: يحاولون أن يَرُدّوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل
؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقد تقدم الكلام
على هاتين الآيتين في سورة "براءة"، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ(11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن
يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنـزل الله هذه السورة،
ومن جملتها هذا الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ثم فسر هذه التجارة
العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال:
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ) أي: من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها.
ثم قال: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) أي: إن فعلتم ما أمرتكم
به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات،
والدرجات العاليات؛ ولهذا قال: (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
ثم قال: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها،
وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي: إذا قاتلتم في سبيله
ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد : 7] وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
[الحج : 40] وقوله (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي: عاجل فهذه الزيادة هي خير
الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا
قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ(14)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم،
بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب
الحواريون لعيسى حين قال: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) ؟ أي: معيني
في الدعوة إلى الله عز وجل؟ (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ) -وهم أتباع عيسى
عليه السلام-: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به
ومُوَازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في
الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
أيام الحج: "من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن
أبلغ رسالة ربي"
حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه،
وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم
بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله
ورسوله: الأنصار، وصار ذلك علما عليهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم. وقوله:
(فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) أي:
لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من
الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت
عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود -عليهم لعائن
الله المتتابعة إلى يوم القيامة-وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق
ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا، فمن قائل منهم: إنه ابن
الله. وقائل: إنه ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس. ومن قائل: إنه
الله. وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ) أي:
نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) أي:
عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن
جرير رحمه الله.
حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهال -يعني ابن
عمرو-عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله
عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا
من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر
مرة بعد أن آمن بي. قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون
معي في درجتي؟ قال: فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. قال: فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا. فقال له: اجلس. ثم عاد عليهم فقام
الشاب، فقال: أنا. فقال: نعم، أنت ذاك. قال: فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع
عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلَبُ من
اليهود، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن
آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق. فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد
إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم
رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء
الله ثم رفعه اليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة،
فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم،
(فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ )
يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت
في زمن عيسى، (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين
الكفار (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النسائي عند
تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء، عن أبي
معاوية، بمثله سواء .
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر
الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه
السلام، كما وردت [بذلك] الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
|
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النبأ
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الجمعة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة البينة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النبأ
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الجمعة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة البينة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى