تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( 14 ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( 15 ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( 16 ) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ( 17 )
( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ) أي: منا
المسلم ومنا القاسط، وهو: الجائر عن الحق الناكب عنه، بخلاف المقسط فإنه
العادل، ( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ) أي: طلبوا
لأنفسهم النجاة،
( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) أي: وقودًا تسعر بهم.
وقوله: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) اختلف المفسرون في معنى هذا على
قولين:
أحدهما: وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها
واستمروا عليها، ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي: كثيرًا. والمراد
بذلك سَعَة الرزق. كقوله تعالى: وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] وكقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
[الأعراف: 96] وعلى هذا يكون معنى قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي:
لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم: ( لِنَفْتِنَهُمْ ) لنبتليهم، من
يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟.
ذكر من قال بهذا القول: قال العوفي، عن ابن عباس: ( وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني بالاستقامة: الطاعة. وقال مجاهد: (
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) قال: الإسلام. وكذا قال
سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي.
وقال قتادة: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.
وقال مجاهد: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي: طريقة
الحق. وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل
هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي لنبتليهم به.
وقال مقاتل: فنـزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.
والقول الثاني: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ )
الضلالة ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي: لأوسعنا عليهم في الرزق
استدراجا، كما قال: فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] وكقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
[المؤمنون: 55، 56] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد؛ فإنه في قوله: (
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي: طريقة الضلالة. رواه
ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم،
والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، ويتأيد بقوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )
وقوله: ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ) أي: عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد: ( عَذَابًا صَعَدًا ) أي: مشقة لا راحة معها.
وعن ابن عباس: جبل في جهنم. وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ( 18 ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( 19 ) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( 20 ) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ( 21 ) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 22 ) إِلا
بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( 23 ) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( 24 )
يقول تعالى آمرًا عباده أن يُوَحِّدوه في مجال عبادته، ولا يُدْعى معه أحد ولا يشرك به
كما قال قتادة في قوله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم
وبِيَعِهِم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه
وحده.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين: حدثنا إسماعيل بن بنت السدي،
أخبرنا رجل سماه، عن السدي، عن أبي مالك -أو أبي صالح-عن ابن عباس في قوله:
( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )
قال: لم يكن يوم نـزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد
إيليا: بيت المقدس.
وقال الأعمش: قالت الجن: يا رسول الله، ائذن لنا نشهد معك الصلوات في
مسجدك. فأنـزل الله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا ) يقول: صلوا، لا تخالطوا الناس.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا سفيان، عن إسماعيل
بن أبي خالد، عن محمود عن سعيد بن جبير: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ )
قال: قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم: كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون [عنك] ؟، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنـزلت: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )
وقال سفيان، عن خُصَيْف، عن عكرمة: نـزلت في المساجد كلها.
وقال سعيد بن جبير. نـزلت في أعضاء السجود، أي: هي لله فلا تسجدوا بها
لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح، من رواية عبد الله بن طاوس، عن
أبيه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -أشار بيديه إلى أنفه-واليدين والركبتين وأطراف القدمين"
وقوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال العوفي، عن ابن عباس يقول: لما سمعوا
النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه؛ من الحرص، لما سمعوه
يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن.
هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن معمر، حدثنا أبو مسلم، عن أبي عَوَانة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: ( وَأَنَّهُ لَمَّا
قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )
قال: لما رأوه يصلي وأصحابه، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قالوا: عجبوا
من طواعية أصحابه له، قال: فقالوا لقومهم: ( لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )
وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.
وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا الله" ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تلبد عليه جميعًا.
وقال قتادة في قوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال: تَلَبَّدت الإنس والجن على
هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه.
وهذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقول ابن
زيد، واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) أي: قال لهم الرسول-لما آذوه
وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على
عداوته: ( إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ) أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له،
وأستجير به وأتوكل عليه، ( وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا )
وقوله: ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) أي:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس إليّ من الأمر شيء في
هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل.
ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد، أي: لو عصيته فإنه لا
يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، ( وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )
قال مجاهد، وقتادة، والسدي: لا ملجأ. وقال قتادة أيضا: ( قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )
أي: لا نصير ولا ملجأ. وفي رواية: لا ولي ولا موئل.
وقوله تعالى: ( إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ) قال بعضهم:
هو مستثنى من قوله: ( لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) ( إِلا
بَلاغًا ) ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: ( لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ
أَحَدٌ ) أي: لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها
عليّ، كما قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ [المائدة: 67]
وقوله: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي: أنما أبلغكم رسالة الله، فمن
يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا، أي لا محيد لهم
عنها، ولا خروج لهم منها.
وقوله: ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) أي: حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من
الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل
عددًا، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل، أي: بل المشركين لا ناصر لهم
بالكلية، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل.
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( 25 ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( 26 ) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( 27 ) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( 28 )
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: إنه لا علم
له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد؟ ( قُلْ إِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ) ؟ أي: مدة
طويلة.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة
من أنه عليه السلام، لا يؤلف تحت الأرض، كذب لا أصل له، ولم نره في شيء من
الكتب. وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما
تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد، فأخبرني
عن الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"
ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال: يا محمد، متى الساعة؟ قال:
"ويحك. إنها كائنة، فما أعددت لها؟". قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. قال: "فأنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مُصفَى، حدثنا محمد بن حمير
حدثني أبو بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم
من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت"
وقد قال أبو داود في آخر "كتاب الملاحم" : حدثنا موسى بن سهيل، حدثنا
حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن
جُبَير، عن أبيه، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم"
انفرد به أبو داود، ثم قال أبو داود:
حدثنا عمرو بن عثمان. حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان، عن شُرَيح بن
عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأرجو
ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال:
خمسمائة عام. انفرد به أبو داود
وقوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) هذه كقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ
[البقرة: 255] وهكذا قال هاهنا: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع
أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال: ( فَلا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) وهذا
يعم الرسول الملكي والبشري.
ثم قال: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا ) أي: يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله،
ويساوقونه على ما معه من وحي الله؛ ولهذا قال: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: ( لِيَعْلَمَ ) إلى من يعود؟ فقيل: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي
عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ
عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال: أربعة حفظة
من الملائكة مع جبريل، ( لِيَعْلَمَ ) محمد صلى الله عليه وسلم ( أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك، والسدي، ويزيد بن أبي حبيب.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن قتادة: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن
الله، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها. وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة. واختاره ابن جرير.
وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان،
حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول، ليعلم أهل الشرك أن قد
أبلغوا رسالات ربهم.
وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم.
وفي هذا نظر.
وقال البغوي: قرأ يعقوب: "ليُعلَم" بالضم، أي: ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في "زاد المسير"
ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته،
ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون
ذلك كقوله: وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] وكقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
[العنكبوت: 11] إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل
كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .
( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ) أي: منا
المسلم ومنا القاسط، وهو: الجائر عن الحق الناكب عنه، بخلاف المقسط فإنه
العادل، ( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ) أي: طلبوا
لأنفسهم النجاة،
( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) أي: وقودًا تسعر بهم.
وقوله: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) اختلف المفسرون في معنى هذا على
قولين:
أحدهما: وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها
واستمروا عليها، ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي: كثيرًا. والمراد
بذلك سَعَة الرزق. كقوله تعالى: وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] وكقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
[الأعراف: 96] وعلى هذا يكون معنى قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي:
لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم: ( لِنَفْتِنَهُمْ ) لنبتليهم، من
يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟.
ذكر من قال بهذا القول: قال العوفي، عن ابن عباس: ( وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني بالاستقامة: الطاعة. وقال مجاهد: (
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) قال: الإسلام. وكذا قال
سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي.
وقال قتادة: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.
وقال مجاهد: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي: طريقة
الحق. وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل
هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي لنبتليهم به.
وقال مقاتل: فنـزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.
والقول الثاني: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ )
الضلالة ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي: لأوسعنا عليهم في الرزق
استدراجا، كما قال: فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] وكقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
[المؤمنون: 55، 56] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد؛ فإنه في قوله: (
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي: طريقة الضلالة. رواه
ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم،
والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، ويتأيد بقوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )
وقوله: ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ) أي: عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد: ( عَذَابًا صَعَدًا ) أي: مشقة لا راحة معها.
وعن ابن عباس: جبل في جهنم. وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ( 18 ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( 19 ) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( 20 ) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ( 21 ) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 22 ) إِلا
بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( 23 ) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( 24 )
يقول تعالى آمرًا عباده أن يُوَحِّدوه في مجال عبادته، ولا يُدْعى معه أحد ولا يشرك به
كما قال قتادة في قوله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم
وبِيَعِهِم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه
وحده.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين: حدثنا إسماعيل بن بنت السدي،
أخبرنا رجل سماه، عن السدي، عن أبي مالك -أو أبي صالح-عن ابن عباس في قوله:
( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )
قال: لم يكن يوم نـزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد
إيليا: بيت المقدس.
وقال الأعمش: قالت الجن: يا رسول الله، ائذن لنا نشهد معك الصلوات في
مسجدك. فأنـزل الله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا ) يقول: صلوا، لا تخالطوا الناس.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا سفيان، عن إسماعيل
بن أبي خالد، عن محمود عن سعيد بن جبير: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ )
قال: قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم: كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون [عنك] ؟، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنـزلت: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )
وقال سفيان، عن خُصَيْف، عن عكرمة: نـزلت في المساجد كلها.
وقال سعيد بن جبير. نـزلت في أعضاء السجود، أي: هي لله فلا تسجدوا بها
لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح، من رواية عبد الله بن طاوس، عن
أبيه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -أشار بيديه إلى أنفه-واليدين والركبتين وأطراف القدمين"
وقوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال العوفي، عن ابن عباس يقول: لما سمعوا
النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه؛ من الحرص، لما سمعوه
يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن.
هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن معمر، حدثنا أبو مسلم، عن أبي عَوَانة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: ( وَأَنَّهُ لَمَّا
قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )
قال: لما رأوه يصلي وأصحابه، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قالوا: عجبوا
من طواعية أصحابه له، قال: فقالوا لقومهم: ( لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )
وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.
وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا الله" ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تلبد عليه جميعًا.
وقال قتادة في قوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال: تَلَبَّدت الإنس والجن على
هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه.
وهذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقول ابن
زيد، واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) أي: قال لهم الرسول-لما آذوه
وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على
عداوته: ( إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ) أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له،
وأستجير به وأتوكل عليه، ( وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا )
وقوله: ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) أي:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس إليّ من الأمر شيء في
هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل.
ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد، أي: لو عصيته فإنه لا
يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، ( وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )
قال مجاهد، وقتادة، والسدي: لا ملجأ. وقال قتادة أيضا: ( قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )
أي: لا نصير ولا ملجأ. وفي رواية: لا ولي ولا موئل.
وقوله تعالى: ( إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ) قال بعضهم:
هو مستثنى من قوله: ( لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) ( إِلا
بَلاغًا ) ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: ( لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ
أَحَدٌ ) أي: لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها
عليّ، كما قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ [المائدة: 67]
وقوله: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي: أنما أبلغكم رسالة الله، فمن
يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا، أي لا محيد لهم
عنها، ولا خروج لهم منها.
وقوله: ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) أي: حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من
الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل
عددًا، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل، أي: بل المشركين لا ناصر لهم
بالكلية، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل.
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( 25 ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( 26 ) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( 27 ) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( 28 )
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: إنه لا علم
له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد؟ ( قُلْ إِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ) ؟ أي: مدة
طويلة.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة
من أنه عليه السلام، لا يؤلف تحت الأرض، كذب لا أصل له، ولم نره في شيء من
الكتب. وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما
تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد، فأخبرني
عن الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"
ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال: يا محمد، متى الساعة؟ قال:
"ويحك. إنها كائنة، فما أعددت لها؟". قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. قال: "فأنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مُصفَى، حدثنا محمد بن حمير
حدثني أبو بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم
من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت"
وقد قال أبو داود في آخر "كتاب الملاحم" : حدثنا موسى بن سهيل، حدثنا
حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن
جُبَير، عن أبيه، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم"
انفرد به أبو داود، ثم قال أبو داود:
حدثنا عمرو بن عثمان. حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان، عن شُرَيح بن
عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأرجو
ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال:
خمسمائة عام. انفرد به أبو داود
وقوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) هذه كقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ
[البقرة: 255] وهكذا قال هاهنا: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع
أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال: ( فَلا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) وهذا
يعم الرسول الملكي والبشري.
ثم قال: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا ) أي: يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله،
ويساوقونه على ما معه من وحي الله؛ ولهذا قال: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: ( لِيَعْلَمَ ) إلى من يعود؟ فقيل: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي
عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ
عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال: أربعة حفظة
من الملائكة مع جبريل، ( لِيَعْلَمَ ) محمد صلى الله عليه وسلم ( أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك، والسدي، ويزيد بن أبي حبيب.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن قتادة: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن
الله، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها. وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة. واختاره ابن جرير.
وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان،
حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول، ليعلم أهل الشرك أن قد
أبلغوا رسالات ربهم.
وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم.
وفي هذا نظر.
وقال البغوي: قرأ يعقوب: "ليُعلَم" بالضم، أي: ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في "زاد المسير"
ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته،
ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون
ذلك كقوله: وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] وكقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
[العنكبوت: 11] إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل
كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .
رد: تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة الجن
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» تفسير الجزء الثاني والاخير من سورة نوح
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة المنافقون
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة التغابن
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة المزمل
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة الأعلى لابن كثير
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة المنافقون
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة التغابن
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة المزمل
» الجزء الثاني والاخير من تفسير سورة الأعلى لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى