الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الشعراء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الشعراء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الشعراء
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ
(207)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ
(208)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
(209) .
< 6-164 >
وفي الحديث الصحيح: "يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ، ثم يقال له: هل رأيت < 6-165 >
خيرًا قط؟ هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا [والله يا رب]
. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال
له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب" أي: ما كأن شيئًا كان ؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:
كـأنَّك لَـمْ تُوتِـر مـن الدّهْـر لَيْلَـةً | | إذا أنْـتَ أدْرَكْـتَ الـذي كـنتَ تَطْلُبُ |
قال الله تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه: أنَّه ما أهلك أمة من الأمم إلا
بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجج عليهم؛
ولهذا قال: ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ.
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) كما قال تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا
[الإسراء:15]، وقال تعالى:
وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا] وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
[القصص:59] .
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ
(210)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ
(211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
(212)
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد: أنه نـزل به الروح الأمين المؤيد من
الله، ( وَمَا تَنّزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) . ثم ذكر أنه يمتنع عليهم
من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ما
ينبغي لهم، أي: ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد
وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى
وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا
يَنْبَغِي لَهُمْ ) .
وقوله: ( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) أي: ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
[الحشر:21] .
ثم بين أنه لو انبغى
لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع
القرآن حال نـزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنـزال
القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا
يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه
ولرسوله؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) ، كما
قال تعالى مخبرًا عن الجن:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا
*
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا
*
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا
[الجن:8-10] .
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
(213)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ
(214)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(215)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
(216)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
(217)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
(218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
(219)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(220)
< 6-166 >
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له، ومخبرًا أنّ مَنْ أشرك به عذبه.
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه
أن ينذر عشيرته الأقربين، أي: الأدنين إليه، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم
إلا إيمانهُ بربه عز وجل، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله
المؤمنين. ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه؛ ولهذا قال: (
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) . وهذه
النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة، بل هي فرد من أجزائها، كما قال:
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
[يس:6]، وقال:
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا
[الشورى:7]، وقال:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ
[الأنعام:51 ] ، وقال:
لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا
[مريم : 97] ، وقال:
لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
[الأنعام:19] ، كما قال:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
[هود : 17].
وفي صحيح مسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
وقد وردت أحاديث كثيرة في نـزول هذه الآية الكريمة، فلنذكرها:
الحديث الأول:
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، عن الأعمش،
عن عمرو بن مُرَّة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: لما أنـزل الله،
عز وجل: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، أتى النبي صلى الله
عليه وسلم الصفا فصعد عليه، ثم نادى: "يا صباحاه". فاجتمع الناس إليه بين
رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا
بسفح هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟" . قالوا: نعم. قال: "فإني
نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، أما
دعوتنا إلا لهذا؟ وأنـزل الله:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
[ المسد: 1] .
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي، من طرق، عن الأعمش، به .
الحديث الثاني:
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:
لما نـزلت: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا
بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم". انفرد
بإخراجه مسلم .
< 6-167 >
الحديث الثالث:
قال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن
عُمَير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما نـزلت هذه
الآية: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، دعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم [قريشا]
، فعمَّ وخصَّ، فقال: "يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني
كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من
النار. يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب،
أنقذوا أنفسكم من النار. [يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار] ، فإني -والله -ما أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها" .
ورواه مسلم والترمذي، من حديث عبد الملك بن عمير، به . وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه. ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة . والموصول هو الصحيح. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد -يعني ابن إسحاق -عن أبي
الزنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله. يا صفية عمة
رسول الله، ويا فاطمة بنت رسول الله، اشتريا أنفسكما من الله، لا أُغني
عنكما من الله شيئًا، سلاني من مالي ما شئتما".
تفرد به من هذا الوجه . وتفرد به أيضا، عن معاوية، عن زائدة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . ورواه أيضًا عن حسن، ثنا ابن لَهِيعة، عن الأعرج: سمعت أبا هريرة مرفوعا .
وقال أبو يعلى: حدثنا سُوَيد بن سَعيد، حدثنا
ضِمَام بن إسماعيل، عن موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "يا بني قُصَي، يا بني هَاشم، يا بني عبد مناف. أنا النذير
والموت المغير. والساعة الموعد" .
الحديث الرابع:
قال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا التيمي، عن أبي عثمان، عن قَبِيصة بن مُخَارق < 6-168 >
وزُهَير بن عمرو قالا لما نـزلت: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ )
صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر، فجعل
ينادي: "يا بني عبد مناف، إنما أنا نذير، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو،
فذهب يربأ أهله، يخشى أن يسبقوه، فجعل ينادي ويهتف: يا صباحاه".
ورواه مسلم والنسائي، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي، عن أبي عثمان
عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي، به .
الحديث الخامس:
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك عن الأعمش، عن
المْنهَال، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي، رضي الله عنه، قال: لما
نـزلت هذه الآية: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) جمع النبي صلى
الله عليه وسلم من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا قال: وقال لهم:
"من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في
أهلي؟". فقال رجل -لم يسمه شريك -يا رسول الله، أنت كنت بحرًا من يقوم بهذا؟ قال: ثم قال الآخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال عَليٌ: أنا .
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق: قال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو
عَوَانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي، رضي
الله عنه، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو دعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم -بني عبد المطلب، وهم رَهْطٌ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب
الفّرَق -قال: وصنع لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا -قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس. ثم دعا بغُمَرٍ
فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس -أولم يشرب -وقال: "يا بني عبد
المطلب، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما
رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟". قال: فلم يقم إليه أحد.
قال: فقمتُ إليه -وكنت أصغر القوم -قال: فقال: "اجلس". ثم قال ثلاث مرات،
كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: "اجلس". حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي .
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر: قال الحافظ أبو بكر
البيهقي في "دلائل النبوة": أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو
العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر،
عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل
-واستكتمني اسمه -عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: لما
نـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفت أنّي إن
بادأتُ بها قومِي، رأيت منهم ما أكره، < 6-169 >
فَصَمَتُّ. فجاءني جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أمرك
به ربك عذبك ربك". قال علي، رضي الله عنه: فدعاني فقال: "يا علي، إن الله
قد أمرني [أن]
أنذر عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره،
فَصَمت عن ذلك، ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك
ربك. فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدّ لنا عُسَّ لبن، ثم اجمع
لي
بني عبد المطلب". ففعلتُ فاجتمعوا له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا
أو ينقصون رجلا. فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر
الخبيث. فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها، وقال: "كلوا بسم الله".
فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل
منهم ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي".
فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا، وايم الله إن كان الرجل
منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم،
بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال: لَهَدّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم
يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "يا علي، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام
والشراب؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم".
ففعلت، ثم جمعتهم له، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس،
فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها. ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي". فجئت بذلك القَعب فشربوا
منه حتى نهلوا جميعًا. وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال:
لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
. فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي، عُدْ لنا
بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب؛ فإن هذا الرجل قد
بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم". ففعلت، ثم جمعتهم له فصنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم [كما صنع]
بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه،
وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها، ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، إني -والله -ما أعلم شابًا من
العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة".
قال أحمد بن عبد الجبار: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث .
وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن
عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن
عباس، عن علي بن أبي طالب، فذكر مثله، وزاد بعد قوله: "إني جئتكم بخير
الدنيا والآخرة". "وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي، وكذا وكذا"؟ قال: فأحجم < 6-170 >
القوم عنها جميعًا، وقلت -وإني لأحدثهم سنًا، وأرمصُهم عينا، وأعظمهم
بطنا، وأحمشهم ساقا. أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ يَرْقُبُني ثم
قال: "إن هذا أخي، وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا". قال: فقام القوم
يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، وهو متروك كذاب شيعي،
اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعّفه الأئمة رحمهم الله.
طريق أخرى: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن
مَيْسَرة الحارثي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن
عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال: قال علي رضي الله عنه: لما نـزلت هذه
الآية: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا". قال: ففعلت،
ثم قال: "ادع بني هاشم". قال: فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل -أو:
أربعون ورجل -قال: وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها. قال: فلما أتوا
بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال: "كلوا"،
فأكلوا حتى شبعوا، وهي على هيئتها
لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا، قال: ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا.
قال: وفَضَل فَضْلٌ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يتكلم، فبدرُوه الكلام، فقالوا: ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اصنع [لي]
رجل شاة بصاع من طعام". فصنعت، قال: فدعاهم، فلما أكلوا وشربوا، قال:
فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قال لي: "اصنع [لي]
رجل شاة بصاع من طعام. فصنعت، قال: فجمعتهم، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال: "أيكم يقضي عني دَيني
ويكون خليفتي في أهلي؟". قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله،
قال: وسكتُّ أنا لسِنّ العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت
ذلك قلت: أنا يا رسول الله. [فقال: "أنت"] قال: وإني يومئذ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن، حَمْش الساقين .
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي، رضي الله عنه. ومعنى سؤاله، عليه الصلاة والسلام
لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه، ويخلفوه في أهله، يعني إن قتل في
سبيل الله، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل، ولما أنـزل الله عز
وجل:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ
[المائدة:67] ، فعند ذلك أمِن .
وكان أولا يحرس حتى نـزلت هذه الآية:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
. ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي، رضي الله عنه؛ ولهذا
بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد
هذا -والله أعلم -دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا، وإنذاره لبطون قريش عموما
وخصوصا، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته، لينبه بالأدنى على
الأعلى، أي: إنما أنا نذير، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
< 6-171 >
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي -غير منسوب -من
طريق عمرو بن سَمُرَةَ، عن محمد بن سُوقَةَ، عن عبد الواحد الدمشقي قال:
رأيت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يحدث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه، وأهل
بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما
عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "أزهد الناس في الدنيا الأنبياء، وأشدهم عليهم الأقربون".
وذلك فيما أنـزل الله، عز وجل: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ،
ثم قال: "إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم". ولهذا قال [الله
تعالى] :
( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ ) .
وقوله: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي: في جميع أمورك؛ فإنه مؤيدك وناصرك وحافظك ومظفرك ومُعْلٍ كلمتك.
وقوله: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) أي: هو معتن بك، كما قال تعالى:
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا
[الطور:48] .
قال ابن عباس: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) يعني: إلى الصلاة.
وقال عكرمة: يرى قيامه وركوعه وسجوده.
وقال الحسن: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) : إذا صليت وحدك.
وقال الضحاك: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. ) أي: من فراشك أو مجلسك.
وقال قتادة: ( الَّذِي يَرَاكَ ) : قائما وجالسا وعلى حالاتك.
وقوله: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) : قال قتادة: ( الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال: في
الصلاة، يراك وحدك ويراك في الجَمْع. وهذا قول عكرمة، وعطاء الخراساني،
والحسن البصري.
وقال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى مَنْ خلفه كما يرى
مَنْ أمامه؛ ويشهد لهذا ما صح في الحديث: "سَوّوا صفوفكم؛ فإني أراكم من
وراء ظهري" .
وروى البزار وابن أبي حاتم، من طريقين، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي، حتى أخرجه نبيا.
وقوله: ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى:
وَمَا
تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ
الآية. [يونس:61] .
< 6-172 >
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ
(221)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
(222)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
(223)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
(224)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
(225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ
(226)
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
(227) .
يقول تعالى مخاطبًا لِمَنْ زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ليس
حقا، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، فنـزه
الله، سبحانه، جناب رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبه أن ما جاء به إنما هو
[الحق]
من عند الله، وأنه تنـزيله ووحيه، نـزل به ملك كريم أمين عظيم، وأنه ليس
من قَبيل الشياطين، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم، وإنما
ينـزلون
على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة؛ ولهذا قال الله: ( هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ ) أي: أخبركم. ( عَلَى مَنْ تَنـزلُ الشَّيَاطِينُ. تَنـزلُ
عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) أي: كذوب في قوله، وهو الأفاك الأثيم، أي الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنـزل عليه الشياطين كالكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة، فإن الشياطين أيضا كذبة فسقة.
( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) أي: يسترقون السمع من السماء، فيسمعون الكلمة
من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس
فيتحدثون بها، فيصدقهم الناس في كل ما قالوه، بسبب صدقهم في تلك الكلمة
التي سمعت من السماء، كما صح بذلك الحديث، كما رواه البخاري، من حديث
الزهري: أخبرني يحيى بن عُروَةَ بن الزبير، أنه سمع عُرْوَةَ بن الزبير
يقول: قالت عائشة، رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن
الكهان، فقال: "إنهم ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون
بالشيء يكون حقا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق
يخطفها الجني، فَيُقَرقرِها في أذن وليه كقَرْقَرة الدجاجة، فيخلطون معها أكثر من مائه كذبة" .
وقال البخاري أيضا: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال: سمعت
عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله،
كأنها
سلسلة على صَفْوان، حتى إذا فُزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا
للذي قال: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع،
هكذا بعضهم فوق بعض". ووصف سفيان بيده فَحَرفها، وبَدّدَ بين أصابعه "فيسمع
الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها
على لسان الساحر -أو الكاهن -فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما
ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم
كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء". انفرد به البخاري .
< 6-173 >
وروى مسلم من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن رجال من الأنصار قريبًا من هذا. وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ :
حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
الآية [سبأ:23] ، [إن شاء الله تعالى] .
وقال البخاري: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال:
أن أبا الأسود أخبره، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إن الملائكة تَحَدّث في العَنَان -والعَنَان: الغَمَام -بالأمر
[يكون] في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة، فتقرُّها في أذن الكاهن كما تُقَرّ القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة" .
وقال البخاري في موضع آخر من كتاب "بدء الخلق" عن سعيد بن أبي مريم، عن
الليث، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن
عروة، عن عائشة، بنحوه .
وقوله: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس: يعني: الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن. وكذا قال مجاهد،
رحمه الله، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما.
وقال عكرمة: كان الشاعران يتهاجيان، فينتصر لهذا فِئَامٌ من الناس،
ولهذا فئَامٌ من الناس، فأنـزل الله: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ ) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا لَيث، عن ابن الهاد، عن يُحَنَّس
-مولى مصعب بن الزبير -عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالعَرْج، إذ عَرَض شاعر يُنشد، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "خذوا الشيطان -أو امسكوا الشيطان -لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له
من أن يمتلئ شعرًا" .
وقوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: في كل لغو يخوضون.
وقال الضحاك عن ابن عباس: في كل فن من الكلام. وكذا قال مجاهد وغيره.
وقال الحسن البصري: قد -والله -رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها، مرة في شتمة فلان، ومرة في مدحة فلان.
وقال قتادة: الشاعر يمدح قومًا بباطل، ويذم قومًا بباطل.
وقوله: ( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) قال العوفي، عن
ابن عباس: كان رجلان على عهد رسول الله، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم
آخرين، وإنهما تهاجيا، فكان مع كل < 6-174 >
واحد منهما غواة من قومه -وهم
السفهاء -فقال الله تعالى: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ
مَا لا يَفْعَلُونَ ) .
. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه.
وهذا الذي قاله ابن عباس، رضي الله عنه، هو الواقع في نفس الأمر؛ فإن
الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس
لهم؛ ولهذا اختلف العلماء، رحمهم الله، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما
يوجب حَدًّا: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا
يفعلون؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في الطبقات،
والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي
الله عنه، استعمل النعمان بن عدي بن نَضْلَة على "ميسان" -من أرض البصرة
-وكان يقول الشعر، فقال:
ألا هَــل أتَـى الحَسْـنَاءَ أنّ حَليِلَهـا | | بِمَيْسَـانَ , يُسـقَى فـي زُجاج وَحَنْتَم |
إذَا شــئْتُ غَنَّتـْنـي دَهـاقينُ قَرْيَـة | | وَرَقَّاصَـةٌ تَجـذُو عـلى كـل مَنْـسم |
فـإنْ كُـنتَ نَدْمـانِي فَبـالأكْبر اسْقني | | وَلا تَـسْـقني بــالأصْغَر المُتَثَـلـم |
لَعَـــل أمـيرَ المـؤمنينَ يـَسُـوءه | | تَنــادُمُنــا بـالجَوْسَـق الـمُتَهَـدَم |
[غافر:1-3] أما بعد فقد بلغني قولك:
لَعَــلَّ أمــير المُــؤمنينَ يَسُـوُءه | | تَنَادُمُنَـا بالجَوْســق المُتَهَـــدّم |
الله، إنه ليسوءني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر،
فقال: والله -يا أمير المؤمنين -ما شربتها قَطّ، وما ذاك الشعر إلا شيء
طَفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا،
وقد قُلتَ ما قلتَ .
فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب، وقد ضمنه شعره؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه
ذمَّه عمر، رضي الله عنه، ولامه على ذلك وعزله به. ولهذا جاء في الحديث:
"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، يَرِيه خير له من أن يمتلئ شعرًا" .
والمراد من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنـزل عليه القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر؛ < 6-175 >
لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة، كما قال تعالى:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ
[يس:69] وقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
*
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ
*
وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ
*
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[الحاقة:40-43] ، وهكذا قال هاهنا:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
*
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
*
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
إلى أن قال: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ
*
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
إلى أن قال: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنـزلُ الشَّيَاطِينُ
* تَنـزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) .
وقوله: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) : قال محمد بن إسحاق، عن يزيد
بن عبد الله بن قُسَيْط، عن أبي الحسن سالم البَرّاد -مولى تميم الداري
-قال: لما نـزلت: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) ، جاء حسان
بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهم يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنـزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا
النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ) قال: "أنتم"، ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) قال:
"أنتم"، ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال: "أنتم".
رواه ابن أبي حاتم. وابن جرير، من رواية ابن إسحاق .
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي سعيد الأشج، عن أبي أسامة، عن الوليد
بن كثير، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي الحسن مولى بني نوفل؛ أن حسان بن
ثابت، وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت: (
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) يبكيان، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهو يقرؤها عليهما: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ ) حتى بلغ: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
) ، قال: "أنتم" .
وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة
حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عُرْوَة، عن عروة قال: لما نـزلت: (
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) إلى قوله: ( يَقُولُونَ مَا لا
يَفْعَلُونَ ) قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، قد علم الله أني
منهم. فأنـزل الله: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )
إلى قوله: ( ينقلبون ) .
وهكذا قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، وغير واحد
أن هذا استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء، ولكن هذه السورة مكية، فكيف
يكون سبب نـزول هذه الآية [في]
شعراء الأنصار؟ في ذلك نظر، ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها، والله
أعلم، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه
مَنْ كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب، ورجع
وأقلع، وعمل صالحًا، وذكر الله كثيرًا في < 6-176 >
مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كذب بذمه، كما قال عبد الله بن الزبَعْرَى حين أسلم:
يَـا رَسُـولَ المَــليـك , إنّ لـسَاني | رَاتــقٌ مَــا فَتَقْـتُ إذْ أنـا بُــورُ | |
إذْ أجَـاري الشَّـيْطانَ فـي سَنن الغَيْ | يِ وَمَــن مـَـــالَ مَيْلَـه مَثْبُـورٌ |
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى
الله عليه وسلم، وهو ابن عمه، وأكثرهم له هجوًا، فلما أسلم لم يكن أحد أحب
إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعدما كان يهجوه، ويتولاه بعدما كان قد عاداه. وهكذا روى مسلم في
صحيحه، عن ابن عباس: أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال: يا رسول الله،
ثلاث أعطنيهن قال: "نعم". قال: معاوية تجعله كاتبا بين يديك. قال: "نعم".
قال: وتُؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: "نعم". وذكر
الثلاثة .
ولهذا قال تعالى: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) قيل: معناه: ذكروا الله كثيرًا في كلامهم.
وقيل: في شعرهم،وكلاهما صحيح مُكَفّر لما سبق.
وقوله: ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال ابن عباس: يردون
على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين. وكذا قال مجاهد، وقتادة، وغير
واحد. وهذا كما ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان:
"اهجهم -أو قال: هاجهم -وجبريل معك" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عبد
الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن
الله، عز وجل، قد أنـزل في الشعّر ما أنـزل، فقال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه
ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل" .
وقوله: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ، كما قال تعالى:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[غافر:52] وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" .
وقال قتادة بن دِعَامَة في قوله: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) يعني: من الشعراء وغيرهم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا إياس بن أبي تميمة، قال: حضرت الحسن
وَمُرَّ عليه بجنازة نصراني، فقال الحسن: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
وقال عبد الله بن رَبَاح، عن صفوان بن مُحْرز: أنه كان إذا قرأ هذه
الآية -بكى حتى أقول: قد اندق قَضِيب زَوره -( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
< 6-177 >
وقال ابن وهب: أخبرني ابن سُرَيج الإسكندراني، عن بعض المشيخة: أنهم كانوا بأرض الروم، فبينما هم ليلة على نار يشتوون عليها -أو: يصطلون -إذا بركاب
قد أقبلوا، فقاموا إليهم، فإذا فضالة بن عبُيد فيهم، فأنـزلوه فجلس معهم
-قال: وصاحب لنا قائم يصلي -قال حتى مَرّ بهذه الآية: ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) قال فضالة بن عبيد:
هؤلاء الذين يخربون البيت.
وقيل: المراد بهم أهل مكة. وقيل: الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن
هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم: ذُكر عن زكريا بن يحيى
الواسطي: حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجير
حدثنا هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كتب أبي
وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي
قُحَافة، عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، وينتهي الف
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الشعراء
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الشعراء
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع من تفسير سورة الشعراء
» الجزء الخامس من تفسير سورة الشعراء
» الجزء السادس من تفسير سورة الشعراء
» الجزء السابع من تفسير سورة الشعراء
» الجزء الثامن من تفسير سورة الشعراء
» الجزء الخامس من تفسير سورة الشعراء
» الجزء السادس من تفسير سورة الشعراء
» الجزء السابع من تفسير سورة الشعراء
» الجزء الثامن من تفسير سورة الشعراء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الشعراء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى