الجزء الأول من تفسير سورة الرعد
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الأول من تفسير سورة الرعد
[وهي مكية]
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقَدَّمنا أن كل سورة تَبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نـزوله
من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب؛ ولهذا قال: ( تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ ) أي: هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، وقيل: التوارة والإنجيل.
قاله مجاهد وقتادة، وفيه نظر بل هو بعيد.
ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله: ( وَالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي: يا
محمد، ( مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) خبر تقدم مبتدؤه، وهو قوله: ( وَالَّذِي
أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد
وقتادة. واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا، واستشهد بقول الشاعر:
وقوله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] أي: مع هذا البيان والجلاء والوضوح، لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.
اللَّهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ
مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها
وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض
من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام. ثم
السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد
مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، ثم السماء الثالثة محيطة بالثانية، بما فيها، وبينها وبينها خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال [الله] تعالى: اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] وفي الحديث: "ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة
وفي رواية: "والعرش لا يقدر قدره إلا الله، عز وجل، وجاء عن بعض السلف أن
بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة
خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء.
وقوله: ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) روي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة: أنهم: قالوا: لها عَمَد ولكن لا ترى.
وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد. وكذا
روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ
[الحج: 65] فعلى هذا يكون قوله: ( ترونها ) تأكيدا لنفي ذلك، أي: هي
مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة. وفي شعر أمية بن أبي
الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله ورضي عنه:
وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) تقدم تفسير ذلك في سورة "الأعراف" وأنه يُمَرَّر كما جاء من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا.
وقوله: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى ) قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كما في
قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38].
وقيل: المراد إلى مستقرهما، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب
الآخر، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك، يكونون أبعد ما يكون عن العرش؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه
له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن
تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.
وذكر الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة، التي هي أشرف وأعظم.
من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] مع أنه قد صرح بذلك بقوله وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
وقوله: ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) أي: يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.
وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي
الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم
السفلي، فقال: ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ ) أي: جعلها متسعة ممتدة في
الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول
والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم
والروائح، من كل زوجين اثنين، أي: من كل شكل صنفان.
( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) أي: جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أي: في آلاء الله وحكمته ودلائله.
وقوله: ( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ) أي: أراضٍ تجاور
بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا
تنبت شيئا. هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك،
وغيرهم.
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة
وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات. فهذه
بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله
إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) يحتمل أن تكون عاطفة على ( جنات ) فيكون ( وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله: ( صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) الصنوان: هي الأصول المجتمعة
في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك. وغير الصنوان: ما كان
على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في
الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟" .
وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه:
الصنوان: هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان: المتفرقات. وقاله ابن
عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: ( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فِي الأكُلِ ) قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي
الأكُلِ ) قال: "الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض". رواه الترمذي وقال:
حسن غريب .
أي: هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها.
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا
جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا أصفر وهذا
أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد
من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا
ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل
المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال
تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
وَإِنْ
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (5)
يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَإِنْ تَعْجَبْ )
من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه
ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون
به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم
بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا، وقد اعترفوا
وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم: ( أَئِذَا كُنَّا
تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق
السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه،
كما قال تعالى: أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ
يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف : 33]
ثم نعت المكذبين بهذا فقال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) أي: يسحبون بها في النار، (
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي: ماكثون فيها
أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون.
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقَدَّمنا أن كل سورة تَبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نـزوله
من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب؛ ولهذا قال: ( تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ ) أي: هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، وقيل: التوارة والإنجيل.
قاله مجاهد وقتادة، وفيه نظر بل هو بعيد.
ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله: ( وَالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي: يا
محمد، ( مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) خبر تقدم مبتدؤه، وهو قوله: ( وَالَّذِي
أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد
وقتادة. واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا، واستشهد بقول الشاعر:
إلــى المَلـك القَـرْمِ وابـن الهُمَـام | وَلَيــث الكتيبــة فــي المُزْدَحَـمْ |
اللَّهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ
مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها
وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض
من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام. ثم
السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد
مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، ثم السماء الثالثة محيطة بالثانية، بما فيها، وبينها وبينها خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال [الله] تعالى: اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] وفي الحديث: "ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة
وفي رواية: "والعرش لا يقدر قدره إلا الله، عز وجل، وجاء عن بعض السلف أن
بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة
خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء.
وقوله: ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) روي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة: أنهم: قالوا: لها عَمَد ولكن لا ترى.
وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد. وكذا
روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ
[الحج: 65] فعلى هذا يكون قوله: ( ترونها ) تأكيدا لنفي ذلك، أي: هي
مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة. وفي شعر أمية بن أبي
الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله ورضي عنه:
وأنـتَ الـذي مِـنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمـَة | بَعَـثـتَ إلـى مُـوسَى رَسُـولا مُنَاديا | |
فقلـت لـه: فـاذهَبْ وهارونَ فادعُـوَا | إلـى اللـه فـرْعَونَ الذي كـانَ طَاغيا | |
وَقُــولا لـه: هَـلْ أنتَ سَـوّيت هَـذه | بـلا [وتَد حَـتَّى اطمـأنت كَمَـا هيا | |
وقُـــولا لـه: أأنــتَ رَفَّـعتَ هَـذه | بـــلا] عَمَد أرْفِقْ إذَا بِـَك بانـيَا؟ | |
وَقُـولا لَـه: هَـل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَـا | مُنــيرًا إذا مـا جَنَّـك الليَّل هــاديـا | |
وقُـولا لـه: مَـنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً | فيُصبـحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيـا? | |
وَقُـولا لـه: مَن يُنْبِـت الحَبَّ في الثَّرَى | فيُصبــحَ مِنْه العُـشب يَهْـَتُّز رَابيـا? | |
وَيُـْخِـرجُ منْــه حَبَّــه في رءوسه | فَفِــي ذَاكَ آيــاتٌ لـِمنْ كَانَ وَاعيَا |
وقوله: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى ) قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كما في
قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38].
وقيل: المراد إلى مستقرهما، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب
الآخر، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك، يكونون أبعد ما يكون عن العرش؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه
له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن
تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.
وذكر الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة، التي هي أشرف وأعظم.
من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] مع أنه قد صرح بذلك بقوله وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
وقوله: ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) أي: يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.
وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي
الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم
السفلي، فقال: ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ ) أي: جعلها متسعة ممتدة في
الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول
والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم
والروائح، من كل زوجين اثنين، أي: من كل شكل صنفان.
( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) أي: جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أي: في آلاء الله وحكمته ودلائله.
وقوله: ( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ) أي: أراضٍ تجاور
بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا
تنبت شيئا. هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك،
وغيرهم.
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة
وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات. فهذه
بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله
إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) يحتمل أن تكون عاطفة على ( جنات ) فيكون ( وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله: ( صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) الصنوان: هي الأصول المجتمعة
في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك. وغير الصنوان: ما كان
على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في
الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟" .
وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه:
الصنوان: هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان: المتفرقات. وقاله ابن
عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: ( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فِي الأكُلِ ) قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي
الأكُلِ ) قال: "الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض". رواه الترمذي وقال:
حسن غريب .
أي: هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها.
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا
جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا أصفر وهذا
أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد
من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا
ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل
المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال
تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
وَإِنْ
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (5)
يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَإِنْ تَعْجَبْ )
من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه
ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون
به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم
بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا، وقد اعترفوا
وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم: ( أَئِذَا كُنَّا
تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق
السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه،
كما قال تعالى: أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ
يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف : 33]
ثم نعت المكذبين بهذا فقال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) أي: يسحبون بها في النار، (
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي: ماكثون فيها
أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون.
رد: الجزء الأول من تفسير سورة الرعد
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الأول من تفسير سورة الرعد
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني من تفسير سورة الرعد
» الجزء الثالث من تفسير سورة الرعد
» الجزء الرابع من تفسير سورة الرعد
» الجزء السادس من تفسير سورة الرعد
» الجزء السابع من تفسير سورة الرعد
» الجزء الثالث من تفسير سورة الرعد
» الجزء الرابع من تفسير سورة الرعد
» الجزء السادس من تفسير سورة الرعد
» الجزء السابع من تفسير سورة الرعد
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنعام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى