الجزء الثالث من تفسير سورة الزمر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث من تفسير سورة الزمر
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) .
وقوله: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ ) أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، .
( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) قال السدي: يعني من أمته صلى الله عليه وسلم.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا
مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) .
يقول تعالى: قل يا محمد وأنت رسول الله: ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ، وهو يوم القيامة. وهذا شَرْط، ومعناه
التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى، ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا
لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) وهذا أيضا تهديد
وتَبَرّ منهم، ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ ) أي: إنما الخاسرون كل الخسران
( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
أي: تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم
إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، (
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) أي: هذا هو الخسار البين الظاهر
الواضح .
ثم وصف حالهم في النار فقال: ( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) كما قال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، وقال: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55] .
وقوله: ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ) أي: إنما يَقص خبر
هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينـزجروا عن المحارم والمآثم.
وقوله: ( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ (18)
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) نـزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذر،
وسلمان الفارسي.
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى
عبادة الرحمن. فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
ثم قال: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) أي: يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى
لموسى حين آتاه التوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145] .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ) أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، أي: ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا
يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) .
يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مما هو فيه من
الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي
له، ومن يهده فلا مضل له .
ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة (
مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ) ، أي: طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات
مزخرفات عاليات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، حدثنا محمد
بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها
من ظهورها، وظهورها من بطونها" فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال:
"لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام".
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، وقال: "حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي
كثير، عن ابن مُعانق -أو: أبي مُعَانق -عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام" .
تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري، عن أبي مالك، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم
، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة
ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء". قال: فحدثتُ بذلك
النعمان بن أبي عياش، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "كما تراءون الكوكب
الدري في الأفق الشرقي أو الغربي".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حازم ، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد: حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن
عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب
الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات". فقالوا: يا رسول
الله، أولئك النبيون؟ فقال: "بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله
وصدقوا الرسل".
ورواه الترمذي عن سُويد ، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو كامل
قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدله -مولى أم
المؤمنين-أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت
قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء
والأولاد. قال: "لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها
عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء
الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قلنا: يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما
بناؤها؟ قال: "لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر،
وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس،
ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تُرَدَّ
دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على
الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"
.
وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي -وكان ثقة-عن أبي المُدَلِّه -وكان ثقة-به .
وقوله: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، ( وَعَدَ اللَّهُ ) أي: هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لأُولِي الألْبَابِ (21)
يخبر تعالى: أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا
[الفرقان:48]، فإذا أنـزل الماء من السماء كَمَن في الأرض، ثم يصرفه تعالى
في أجزاء الأرض كما يشاء، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار، بحسب
الحاجة إليها؛ ولهذا قال: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) .
قال ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان، عن عكرمة
، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) ، قال: ليس في الأرض
ماء إلا نـزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده.
وكذا قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي: أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء.
وقال سعيد بن جبير: أصله من الثلج يعني: أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها.
وقوله: ( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) أي: ثم
يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا ( مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ) أي: أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، ( ثُمَّ يَهِيجُ ) أي:
بعد نضارته وشبابه يكتهل
( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) ، قد خالطه اليُبْس، ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ
حُطَامًا ) أي: ثم يعود يابسا يتحطم، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي
الألْبَابِ ) أي: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا، تكون
خَضرةً نضرةً حسناء، ثم تعود عَجُوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا
ضعيفا [قد خالطه اليبس]
، وبعد ذلك كله الموت. فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيرًا ما يضرب
الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينـزل الله من السماء من ماء، وينبت به
زروعا وثمارا، ثم يكون بعد ذلك حُطاما، كما قال تعالى: وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا
تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] .
وقوله: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ ) أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، .
( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) قال السدي: يعني من أمته صلى الله عليه وسلم.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا
مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) .
يقول تعالى: قل يا محمد وأنت رسول الله: ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ، وهو يوم القيامة. وهذا شَرْط، ومعناه
التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى، ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا
لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) وهذا أيضا تهديد
وتَبَرّ منهم، ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ ) أي: إنما الخاسرون كل الخسران
( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
أي: تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم
إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، (
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) أي: هذا هو الخسار البين الظاهر
الواضح .
ثم وصف حالهم في النار فقال: ( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) كما قال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، وقال: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55] .
وقوله: ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ) أي: إنما يَقص خبر
هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينـزجروا عن المحارم والمآثم.
وقوله: ( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ (18)
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) نـزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذر،
وسلمان الفارسي.
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى
عبادة الرحمن. فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
ثم قال: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) أي: يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى
لموسى حين آتاه التوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145] .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ) أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، أي: ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا
يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) .
يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مما هو فيه من
الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي
له، ومن يهده فلا مضل له .
ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة (
مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ) ، أي: طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات
مزخرفات عاليات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، حدثنا محمد
بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها
من ظهورها، وظهورها من بطونها" فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال:
"لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام".
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، وقال: "حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي
كثير، عن ابن مُعانق -أو: أبي مُعَانق -عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام" .
تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري، عن أبي مالك، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم
، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة
ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء". قال: فحدثتُ بذلك
النعمان بن أبي عياش، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "كما تراءون الكوكب
الدري في الأفق الشرقي أو الغربي".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حازم ، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد: حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن
عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب
الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات". فقالوا: يا رسول
الله، أولئك النبيون؟ فقال: "بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله
وصدقوا الرسل".
ورواه الترمذي عن سُويد ، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو كامل
قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدله -مولى أم
المؤمنين-أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت
قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء
والأولاد. قال: "لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها
عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء
الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قلنا: يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما
بناؤها؟ قال: "لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر،
وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس،
ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تُرَدَّ
دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على
الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"
.
وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي -وكان ثقة-عن أبي المُدَلِّه -وكان ثقة-به .
وقوله: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، ( وَعَدَ اللَّهُ ) أي: هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لأُولِي الألْبَابِ (21)
يخبر تعالى: أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا
[الفرقان:48]، فإذا أنـزل الماء من السماء كَمَن في الأرض، ثم يصرفه تعالى
في أجزاء الأرض كما يشاء، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار، بحسب
الحاجة إليها؛ ولهذا قال: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) .
قال ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان، عن عكرمة
، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) ، قال: ليس في الأرض
ماء إلا نـزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده.
وكذا قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي: أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء.
وقال سعيد بن جبير: أصله من الثلج يعني: أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها.
وقوله: ( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) أي: ثم
يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا ( مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ) أي: أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، ( ثُمَّ يَهِيجُ ) أي:
بعد نضارته وشبابه يكتهل
( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) ، قد خالطه اليُبْس، ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ
حُطَامًا ) أي: ثم يعود يابسا يتحطم، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي
الألْبَابِ ) أي: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا، تكون
خَضرةً نضرةً حسناء، ثم تعود عَجُوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا
ضعيفا [قد خالطه اليبس]
، وبعد ذلك كله الموت. فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيرًا ما يضرب
الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينـزل الله من السماء من ماء، وينبت به
زروعا وثمارا، ثم يكون بعد ذلك حُطاما، كما قال تعالى: وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا
تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] .
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الزمر
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الزمر
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة الزمر
شكرا على الpرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة الزمر
» الجزء الثامن من تفسير سورة الزمر
» الجزء التاسع من تفسير سورة الزمر
» الجزء العاشر من تفسير سورة الزمر
» الجزء الاول من تفسير سورة الزمر
» الجزء الثامن من تفسير سورة الزمر
» الجزء التاسع من تفسير سورة الزمر
» الجزء العاشر من تفسير سورة الزمر
» الجزء الاول من تفسير سورة الزمر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى