الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(17)
وقوله: ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ) أي: فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) أي: جزاء كل ظالم.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ(18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ(20)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي
جُحَيْفة، عن المنذر ابن جرير، عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار
-أو: العَبَاء-مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم
خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء : 1]. وقرأ الآية التي في الحشر: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) تَصَدَّق
رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره -حتى قال-:
ولو بشق تمرة". قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل
قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها
بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان
عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه، بإسناد مثله .
فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أمر بتقواه، وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.
وقوله: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) أي: حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم
معادكم وعرضكم على ربكم، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تأكيد ثان، ( إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم
وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.
وقال
( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ )
أي: لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في
معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ) أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة،
الخاسرون يوم معادهم، كما قال: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ [المنافقون : 9] .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا [أبو]
المغيرة، حدثنا حَريز بن عثمان، عن نعيم بن نَمحة قال: كان في خطبة أبي
بكر الصديق، رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن
استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله، عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا
بالله، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن تكونوا
أمثالهم: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام
سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن
وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى
عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، [وائتضحوا بسنائه وبيانه] إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء
: 90] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في
سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة
لائم .
هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، وشيخ حَريز بن عثمان، وهو نعيم بن
نمحة، لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ
حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر، والله أعلم.
وقوله: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة، كما قال: أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية : 21] ، وقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ الآية[غافر : 58] . قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
[ص : 28] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله، سبحانه، يكرم الأبرار، ويهين
الفجار؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي:
الناجون المسلمون من عذاب الله، عز وجل.
لَوْ
أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24)
يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع
له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: ( لَوْ
أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) أي: فإن كان الجبل في غلظته وقساوته،
لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف
يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد
فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .
قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا] ) إلى آخرها، يقول: لو أني أنـزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نـزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل
له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع
المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى
نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن
، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال
الحسن البصري بعد إيراده: "فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الجذع" . وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الآية [الرعد : 31] . وقد تقدم أن معنى ذلك: أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة : 74] .
ثم قال تعالى: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) أخبر تعالى أنه
الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه
فباطل، وأنه عالم الغيب
والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى
عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في
الظلمات.
وقوله: ( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول
التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة
لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف : 156] ، وقال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام : 54] ، وقال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس : 58] .
وقوله ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ ) أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله: ( الْقُدُّوسُ ) قال وهب بن منبه: أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة: أي المبارك: وقال ابن جريج: تقدسه الملائكة الكرام.
( السَّلامُ ) أي: من جميع العيوب والنقائص؛ بكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله: ( الْمُؤْمِنُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: [أي] أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمَّن بقوله: إنه حق. وقال ابن زيد: صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.
وقوله: ( الْمُهَيْمِنُ ) قال ابن عباس وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى: هو رقيب عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج : 9] ، وقوله ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس : 46] .
وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الآية [الرعد : 33].
وقوله: (الْعَزِيزُ ) أي: الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا
ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال: ( الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ ) أي: الذي لا تليق الجَبْريّة إلا له، ولا التكبر إلا
لعظمته، كما تقدم في الصحيح: "العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني
واحدًا منهما عَذَّبته".
وقال قتادة: الجبار: الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.
وقال ابن جرير: الجبار: المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.
وقال قتادة: المتكبر: يعني عن كل سوء.
ثم قال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
وقوله: ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) الخلق:
التقدير، والبَراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى
الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز
وجل. قال الشاعر يمدح آخر
أي: أنت تنفذ ما خلقت، أي: قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد.
فالخلق: التقدير. والفري: التنفيذ. ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فَرَى، أي:
قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى: ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) أي: الذي إذا أراد
شيئًا قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله:
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار : 8] ولهذا قال: (الْمُصَوِّرُ ) أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله: ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) قد تقدم الكلام على ذلك في "سورة
الأعراف"، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من
أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر". وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له،
عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: "وهو وتر يحب الوتر" -واللفظ للترمذي-:
"هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام،
المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور،
الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض،
الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير،
الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب،
الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث،
الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ،
المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد،
القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي،
المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال
والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور،
الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور".
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا .
وقوله: ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) كقوله تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء : 44] .
وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي: فلا يرام جَنَابه ( الحَكِيمُ ) في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد -يعني: ابن طَهْمَان، أبو العلاء
الخَفَّاف-حدثنا نافع ابن أبي نافع، عن مَعقِل بن يسار، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين
ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها
حين يمسي كان بتلك المنـزلة".
ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان، عن أبي أحمد الزبيري، به ، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ) أي: فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) أي: جزاء كل ظالم.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ(18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ(20)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي
جُحَيْفة، عن المنذر ابن جرير، عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار
-أو: العَبَاء-مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم
خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء : 1]. وقرأ الآية التي في الحشر: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) تَصَدَّق
رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره -حتى قال-:
ولو بشق تمرة". قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل
قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها
بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان
عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه، بإسناد مثله .
فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أمر بتقواه، وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.
وقوله: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) أي: حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم
معادكم وعرضكم على ربكم، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تأكيد ثان، ( إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم
وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.
وقال
( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ )
أي: لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في
معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ) أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة،
الخاسرون يوم معادهم، كما قال: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ [المنافقون : 9] .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا [أبو]
المغيرة، حدثنا حَريز بن عثمان، عن نعيم بن نَمحة قال: كان في خطبة أبي
بكر الصديق، رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن
استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله، عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا
بالله، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن تكونوا
أمثالهم: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام
سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن
وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى
عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، [وائتضحوا بسنائه وبيانه] إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء
: 90] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في
سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة
لائم .
هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، وشيخ حَريز بن عثمان، وهو نعيم بن
نمحة، لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ
حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر، والله أعلم.
وقوله: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة، كما قال: أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية : 21] ، وقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ الآية[غافر : 58] . قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
[ص : 28] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله، سبحانه، يكرم الأبرار، ويهين
الفجار؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي:
الناجون المسلمون من عذاب الله، عز وجل.
لَوْ
أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24)
يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع
له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: ( لَوْ
أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) أي: فإن كان الجبل في غلظته وقساوته،
لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف
يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد
فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .
قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا] ) إلى آخرها، يقول: لو أني أنـزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نـزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل
له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع
المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى
نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن
، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال
الحسن البصري بعد إيراده: "فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الجذع" . وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الآية [الرعد : 31] . وقد تقدم أن معنى ذلك: أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة : 74] .
ثم قال تعالى: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) أخبر تعالى أنه
الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه
فباطل، وأنه عالم الغيب
والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى
عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في
الظلمات.
وقوله: ( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول
التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة
لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف : 156] ، وقال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام : 54] ، وقال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس : 58] .
وقوله ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ ) أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله: ( الْقُدُّوسُ ) قال وهب بن منبه: أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة: أي المبارك: وقال ابن جريج: تقدسه الملائكة الكرام.
( السَّلامُ ) أي: من جميع العيوب والنقائص؛ بكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله: ( الْمُؤْمِنُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: [أي] أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمَّن بقوله: إنه حق. وقال ابن زيد: صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.
وقوله: ( الْمُهَيْمِنُ ) قال ابن عباس وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى: هو رقيب عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج : 9] ، وقوله ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس : 46] .
وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الآية [الرعد : 33].
وقوله: (الْعَزِيزُ ) أي: الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا
ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال: ( الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ ) أي: الذي لا تليق الجَبْريّة إلا له، ولا التكبر إلا
لعظمته، كما تقدم في الصحيح: "العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني
واحدًا منهما عَذَّبته".
وقال قتادة: الجبار: الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.
وقال ابن جرير: الجبار: المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.
وقال قتادة: المتكبر: يعني عن كل سوء.
ثم قال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
وقوله: ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) الخلق:
التقدير، والبَراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى
الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز
وجل. قال الشاعر يمدح آخر
ولأنـــت تَفــري مــا خَــلَقت | وبعـضُ القـوم يَخـلُق ثـم لا يَفْري |
فالخلق: التقدير. والفري: التنفيذ. ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فَرَى، أي:
قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى: ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) أي: الذي إذا أراد
شيئًا قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله:
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار : 8] ولهذا قال: (الْمُصَوِّرُ ) أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله: ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) قد تقدم الكلام على ذلك في "سورة
الأعراف"، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من
أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر". وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له،
عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: "وهو وتر يحب الوتر" -واللفظ للترمذي-:
"هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام،
المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور،
الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض،
الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير،
الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب،
الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث،
الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ،
المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد،
القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي،
المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال
والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور،
الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور".
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا .
وقوله: ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) كقوله تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء : 44] .
وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي: فلا يرام جَنَابه ( الحَكِيمُ ) في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد -يعني: ابن طَهْمَان، أبو العلاء
الخَفَّاف-حدثنا نافع ابن أبي نافع، عن مَعقِل بن يسار، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين
ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها
حين يمسي كان بتلك المنـزلة".
ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان، عن أبي أحمد الزبيري، به ، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
رد: الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الحشر
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الرحمان
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الذاريات
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة محمد
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الواقعة
» الجزء الثاني من تفسير سورة الحشر
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الذاريات
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة محمد
» الجزء الرابع والأخير من تفسير سورة الواقعة
» الجزء الثاني من تفسير سورة الحشر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى