الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
) وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد
فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع
اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر
على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان، عليه السلام، حدثان ذلك، فظهر
الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنـزل الله: وَلَمَّا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ واتبعوا الشهوات، [أي]: التي كانت [تتلو الشياطين] وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش،
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان
يعلم الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه،
فلما مات سليمان أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها
. قال: فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم
يسبونه، حتى أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) .
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم
بن جنادة السوائي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل
الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي امرأة-خاتمه. فلما أراد
الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات
يوم خاتَمه، فجاء
الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه
دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي
فقالت: كذبت، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال:
فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت
كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها
على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ
الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه
وسلم وأنـزل عليه: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا )
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير،عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران، وهو ابن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس -رضي الله عنهما -إذ جاء
رجل فقال له: مِنْ أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيِّه؟ قال: من
الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع ثم
قال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما
إني سأحدثكم
عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق
قد سمعها، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة، قال: فَتَشْرَبُها
قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان. عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه. فلما
توفي سليمان، عليه السلام، قام شيطانُ الطريق، فقال: أفلا أدلكم على كنـزه
الممنَّع الذي لا كنـز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقالوا هذا سحره فتناسخها الأمم-حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق-وأنـزل الله عز وجل ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريا العَنْبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به .
وقال السدي في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي: على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين تصعد
إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون
في الأرض من موت أو غيب
أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما
قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل
كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب، وفشا في بني إسرائيل
أن الجن تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في
صندوق. ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من
الكرسي إلا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا
ضربت عنقه. فلما مات سليمان، عليه السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا
يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان، ثم أتى
نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدًا؟
قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام
ناحية، فقالوا له: فَادْنُ. قال
لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك
الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين
والطير بهذا السحر. ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا. واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ؛ فذلك حين يقول الله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا
عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله تعالى عليه
ما سألوه عنه، فيخصمهم
، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه
عن السحر وخاصموه به، فأنـزل الله عز وجل: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وإن
الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك،
فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان [سليمان] عليه السلام، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة [إلا] زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسِل سليمان، عليه السلام، إلى ما كتبوا من ذلك. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير: كان سليمان، عليه السلام، يتتبع ما في أيدي الشياطين
من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين
أن يصلوا إليه، فدبَّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثار به الإنسُ واستخرجوه فعملوا بها. فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنـزل الله تعالى على [لسان]
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال: (
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود، عليه السلام
فكتبوا أصناف السحر: "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتى
إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب. ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان،
وكتبوا في عُنْوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود، عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته
بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا. فلما عثروا عليه قالوا:
والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس [وتعلموه
وعلموه] . وليس هو في أحد أكثر
منه في اليهود لعنهم الله. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
نـزل عليه من الله، سليمان بن داود، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين، قال من
كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا،
والله ما كان إلا ساحرًا. وأنـزل الله [في]
ذلك من قولهم: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثنا الحجاج
عن أبي بكر، عن شَهْر بن حَوشب، قال: لما سلب سليمان، عليه السلام، ملكه،
كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا
وكذا فليستقبل الشمس، وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، عليه السلام، قام إبليس، لعنه الله، خطيبًا، [ثم]
قال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نَبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتمسوا
سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله
لقد كان سليمان ساحرًا! هذا
سحره، بهذا تَعَبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا.
فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود
وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم الله]
انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنما كان
ساحرًا يركب الريح، فأنـزل الله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا المعتمر
بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حُدَير، عن أبي مِجْلَز، قال: أخذ سليمان،
عليه السلام، من كل دابة عهدًا، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد، خلى عنه.
فزاد الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به سليمان. فقال الله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رَوّاد، حدثنا آدم، حدثنا المسعودي،
عن زياد مولى ابن مصعب، عن الحسن: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ ) قال: ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة.
وقال: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي،
حدثني سُرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) واتبعته اليهود على
ملكه. وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك
سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة
والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله
الهادي. وقوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي: واتبعت اليهود -الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم
عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما
تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه بعلى؛ لأنه تضمن تتلو: تكذب. وقال ابن جرير: "على" هاهنا بمعنى "في"، أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج، وابن إسحاق.
قلت: والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم.
وقول الحسن البصري، رحمه الله: "قد كان السحر قبل زمان سليمان بن داود" صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان موسى، عليه السلام، وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الآية [البقرة: 246]، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] . وقال قوم صالح -وهم قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، لنبيهم صالح: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء: 153] أي: [من] المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى
أن "ما" نافية، أعني التي في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )
قال القرطبي: "ما" نافية ومعطوفة على قوله: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )
ثم قال: ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنـزلَ ) أي: السحر ( عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) وذلك أن
اليهود -لعنهم الله-كانوا يزعمون أنه نـزل به جبريل
وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: ( هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) بدلا من:
( الشياطين ) قال: وصح ذلك، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في
قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
[النساء: 11] أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير
الكلام عنده: تعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى
ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: ( وَمَا
أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) يقول: لم
ينـزل الله السحر. وبإسناده، عن الربيع بن أنس، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال: ما أنـزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين، ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: (
بِبَابِلَ هَارُوتَ [وَمَارُوت
] ) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم
ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) -"من السحر"- ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) وما
أنـزل الله "السحر" على الملكين، ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا
بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت
تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود،
فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل
وميكائيل لم ينـزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر،
وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين
يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت
وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه .
وقد قال ابن أبي حاتم: حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن
مرزوق، عن عطية ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال: ما أنـزل الله
على جبريل وميكائيل السحر.
حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يعلى -يعني ابن أسد-حدثنا بكر -يعني ابن مصعب-حدثنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها: (وما أنـزل على الملكين داود وسليمان).
وقال أبو العالية: لم ينـزل عليهما السحر، يقول: علما الإيمان والكفر،
فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن "ما" بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى
أن هاروت وماروت ملكان أنـزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر
اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على
ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما
أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [كما زعمه ابن حزم] !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده. عن الضحاك بن مزاحم: أنه كان يقرؤها: (
وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) ويقول: هما علجان من أهل بابل.
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنـزال بمعنى الخَلْق، لا بمعنى الإيحاء،
في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) كما قال تعالى: وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6]، وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25] ، وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر: 13] . وفي الحديث: "ما أنـزل الله داء إلا أنـزل له دواء". وكما يقال: أنـزل الله الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم
قرؤوا: "وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام. قال ابن أبزى:
وهما داود وسليمان. قال القرطبي: فعلى هذا تكون "ما" نافية أيضًا] .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) [و "ما" نافية]
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث، عن يحيى بن
سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل عن قول الله تعالى: ( يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ ) قال الرجل: يعلمان الناس السحر، ما أنـزل عليهما أو يعلمان الناس ما لم ينـزل عليهما؟ فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس، عن أنس بن عياض، عن بعض أصحابه: أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أيّ ذلك كان، إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنـزلا إلى
الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد
في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا
وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما
هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى [طه: 116] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت -على ما ذكر-أخف مما وقع من إبليس لعنه الله.
[وقد حكاه القرطبي عن على، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسدي، والكلبي] .
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه :
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن [أبي]
بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:
أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم -عليه السلام-لما
أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
[البقرة: 30] ، قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى
للملائكة: هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف
يعملان؟ قالوا: برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا والله
لا نشرك بالله شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها
نفسها. فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا لا والله لا نقتله
أبدًا. ثم ذهبت فرجعت
بقَدَح خَمْر تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر.
فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي. فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما
تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، به .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا
موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، رَوَى عن
ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك.
وروى عنه ابنه عبد السلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة،
وعبد الله بن لَهِيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب. وروى له أبو داود،
وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال
وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم. وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مَرْدُويه: حدثنا
دَعْلَجُ بن أحمد، حدثنا هشام [بن علي بن هشام]
حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سَرْجِس، عن
نافع، عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين -وهو سنيد بن داود
صاحب التفسير-حدثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال:
سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع، انظر، طلعت
الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثًا-ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها
ولا أهلا؟ قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال: قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم-: "إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا
والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك.
قال: فاختاروا ملكين منكم. قال: فلم يألوا جهدًا أن يختاروا، فاختاروا
هاروت وماروت" .
وهذان -أيضاً-غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال عبد الرزاق في تفسيره، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت. فقال
لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انـزلا لا تشركا
بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما
الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين، عن عبد الرزاق، به .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مُؤَمَّل، عن سفيان الثوري، به .
ورواه ابن جرير أيضًا: حدثني المثنى، حدثنا المعلى -وهو ابن أسد-حدثنا
عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، حدثني سالم أنه سمع عبد الله
يحدث، عن كعب الأحبار، فذكره .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج
حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت عليًا، رضي الله
عنه، يقول: كانت الزُّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى
الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [المتكلم] به يُعْرج به إلى السماء. فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء. فمسخت كوكبًا!
وهذا الإسناد [جيد و] رجاله ثقات، وهو غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا أبو معاوية، عن [ابن أبي] خالد، عن عمير بن سعيد، عن علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. يعني: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده، عن مغيث، عن مولاه
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا
الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزّهَرة، فإنها هي التي فتنت
الملكين هاروت وماروت". وهذا أيضًا لا يصح وهو منكر جدًا. والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن مِنْهال،
حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس
أنهما قالا جميعًا: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم
فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نـزلتم
لفعلتم أيضًا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم
أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض،
وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال: فوقعا بالخطيَّة . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7]
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا .
وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، أخبرنا
عبيد الله -يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال بن عمرو ويونس
بن خباب، عن مجاهد، قال: كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان
ذات ليلة قال لغلامه: انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا
حياها الله هي صاحبة الملكين. قالت الملائكة: يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم
وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إني قد
ابتليتهم، فعلَّ
إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال:
فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إني مهبطكما
إلى الأرض، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض
وألقي عليهما الشَّبَق، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت
لهما، فراوداها عن نفسها. فقالت: إني على دين لا يصح
لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله. قالا وما دينك؟ قالت: المجوسية. قالا
الشرك! هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما
فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجًا، وأنا أكره أن يطلع
على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى
السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى
السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه، فقال: رحمكما الله كيف يطلب أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا قد ابتلينا. قال: ائتياني
يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة
الثانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما، إن أحببتما معافاة الدنيا
وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله.
فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إني قد
أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا
يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا. قال: لا إني أرجو إن علم الله
أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال:
فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار،
عَاليهُمَا سافلَهما .
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر. وقد تقدم في رواية ابن جرير من
حديث معاوية بن صالح، عن نافع، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسنادًا. ثم هو
-والله أعلم-من رواية ابن عمر عن كعب، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن
أبيه. وقوله: إن الزُّهَرة نـزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن
علي، فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن روّاد، حدثنا
آدم، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس،
رضي الله عنهما
قال: لما وقع الناس من بعد آدم، عليه السلام، فيما وقعوا فيه من المعاصي
والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب، هذا العالم الذي إنما
خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس
وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم، ولا
يعذرونهم، فقيل: إنهم في غَيْب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من
أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض،
وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا،
ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب
الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس
عليه السلام. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهَرة في سائر
الكواكب، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت
إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها
عن دينها، فأخرجت لهما صنمًا فقالت: هذا أعبده. فقالا لا حاجة لنا في
عبادة هذا. فذهبا فغَبَرا ما شاء الله. ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها،
ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثم أتيا عليها فراوداها
على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا إحدى
الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن
تشربا هذا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر. فشربا
الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه
فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى
السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين
أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعَرَفوا
أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض،
فنـزل في ذلك: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن حكام بن سلم الرازي، وكان ثقة، عن أبي جعفر الرازي، به. ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهَرة، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني حدثنا يزيد -يعني الفارسي-عن ابن عباس [قال] أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي
فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال الله: أنتم معي، وهم
غُيَّب عني. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن
يهبطوا إلى الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين،
فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن.
فاستقال منهم واحد، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن
الناس يقال لها: مناهية
. فَهَويَاها جميعًا، ثم أتيا منـزلها فاجتمعا عندها، فأراداها فقالت
لهما: لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا لا نسجد.
ثم شربا من الخمر، ثم قتلا ثم سجدا. فأشرف أهل السماء عليهما. فقالت
لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما. فأخبراها فطارت فمسخت
جمرة. وهي هذه الزهَرة. وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين
عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا. فهما مناطان بين السماء
والأرض .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد
الله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ )
كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا
من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل
بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب
الدنيا. وقال مَعْمَر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما
ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) .
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات، فبها
يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نـزلنا
لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انـزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما
بين الناس. فنـزلا ببابل دَنْباوَند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا،
فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما
حسنها -واسمها بالعربية "الزّهَرة"، وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية
"أناهيد"-فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك
فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا
بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا
إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثم
واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي
يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء،
وبأي كلام تنـزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت، فأنساها الله ما تنـزل
به، فبقيت مكانها، وجعلها
الله كوكبًا. فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها، فقال: هذه التي فتنت
هاروت وماروت، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة
فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل،
وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر.
وقال ابن أبي نَجِيح
عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد
جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين
أنـزلهما يحكمان في الأرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إلا] هاروت وماروت، فقال لهما حين أنـزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [والبينات]
من وَرَاء وَرَاء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا
كذا وكذا، فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نـزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما،
فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا
مع الملائكة، وينـزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنـزلت عليهما
الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد
منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدتَ مثل الذي وجدتُ؟ قال: نعم. فبعثا
إليها أن ائتيانا نقض لك. فلما رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشفا لها
عن عورتيهما، وإنما كانت شهوتهما
في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك
واستحلا افتُتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا
فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه،
فقالا ادع لنا ربك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك
يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب
له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال:
ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي الدنيا تسع
مرات مثلها؟ فأمرا أن ينـزلا ببابل، فثَمَّ عذابهما. وزعم أنهما معلقان في
الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جما
مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد
فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع
اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر
على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان، عليه السلام، حدثان ذلك، فظهر
الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنـزل الله: وَلَمَّا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ واتبعوا الشهوات، [أي]: التي كانت [تتلو الشياطين] وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش،
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان
يعلم الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه،
فلما مات سليمان أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها
. قال: فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم
يسبونه، حتى أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) .
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم
بن جنادة السوائي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل
الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي امرأة-خاتمه. فلما أراد
الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات
يوم خاتَمه، فجاء
الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه
دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي
فقالت: كذبت، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال:
فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت
كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها
على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ
الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه
وسلم وأنـزل عليه: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا )
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير،عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران، وهو ابن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس -رضي الله عنهما -إذ جاء
رجل فقال له: مِنْ أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيِّه؟ قال: من
الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع ثم
قال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما
إني سأحدثكم
عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق
قد سمعها، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة، قال: فَتَشْرَبُها
قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان. عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه. فلما
توفي سليمان، عليه السلام، قام شيطانُ الطريق، فقال: أفلا أدلكم على كنـزه
الممنَّع الذي لا كنـز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقالوا هذا سحره فتناسخها الأمم-حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق-وأنـزل الله عز وجل ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريا العَنْبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به .
وقال السدي في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي: على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين تصعد
إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون
في الأرض من موت أو غيب
أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما
قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل
كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب، وفشا في بني إسرائيل
أن الجن تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في
صندوق. ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من
الكرسي إلا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا
ضربت عنقه. فلما مات سليمان، عليه السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا
يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان، ثم أتى
نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدًا؟
قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام
ناحية، فقالوا له: فَادْنُ. قال
لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك
الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين
والطير بهذا السحر. ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا. واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ؛ فذلك حين يقول الله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا
عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله تعالى عليه
ما سألوه عنه، فيخصمهم
، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه
عن السحر وخاصموه به، فأنـزل الله عز وجل: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وإن
الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك،
فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان [سليمان] عليه السلام، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة [إلا] زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسِل سليمان، عليه السلام، إلى ما كتبوا من ذلك. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير: كان سليمان، عليه السلام، يتتبع ما في أيدي الشياطين
من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين
أن يصلوا إليه، فدبَّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثار به الإنسُ واستخرجوه فعملوا بها. فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنـزل الله تعالى على [لسان]
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال: (
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود، عليه السلام
فكتبوا أصناف السحر: "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتى
إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب. ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان،
وكتبوا في عُنْوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود، عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته
بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا. فلما عثروا عليه قالوا:
والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس [وتعلموه
وعلموه] . وليس هو في أحد أكثر
منه في اليهود لعنهم الله. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
نـزل عليه من الله، سليمان بن داود، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين، قال من
كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا،
والله ما كان إلا ساحرًا. وأنـزل الله [في]
ذلك من قولهم: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )
الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثنا الحجاج
عن أبي بكر، عن شَهْر بن حَوشب، قال: لما سلب سليمان، عليه السلام، ملكه،
كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا
وكذا فليستقبل الشمس، وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، عليه السلام، قام إبليس، لعنه الله، خطيبًا، [ثم]
قال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نَبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتمسوا
سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله
لقد كان سليمان ساحرًا! هذا
سحره، بهذا تَعَبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا.
فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود
وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم الله]
انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنما كان
ساحرًا يركب الريح، فأنـزل الله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا المعتمر
بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حُدَير، عن أبي مِجْلَز، قال: أخذ سليمان،
عليه السلام، من كل دابة عهدًا، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد، خلى عنه.
فزاد الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به سليمان. فقال الله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رَوّاد، حدثنا آدم، حدثنا المسعودي،
عن زياد مولى ابن مصعب، عن الحسن: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ ) قال: ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة.
وقال: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي،
حدثني سُرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن: ( وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) واتبعته اليهود على
ملكه. وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك
سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة
والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله
الهادي. وقوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي: واتبعت اليهود -الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم
عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما
تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه بعلى؛ لأنه تضمن تتلو: تكذب. وقال ابن جرير: "على" هاهنا بمعنى "في"، أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج، وابن إسحاق.
قلت: والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم.
وقول الحسن البصري، رحمه الله: "قد كان السحر قبل زمان سليمان بن داود" صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان موسى، عليه السلام، وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الآية [البقرة: 246]، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] . وقال قوم صالح -وهم قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، لنبيهم صالح: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء: 153] أي: [من] المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى
أن "ما" نافية، أعني التي في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )
قال القرطبي: "ما" نافية ومعطوفة على قوله: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )
ثم قال: ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنـزلَ ) أي: السحر ( عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) وذلك أن
اليهود -لعنهم الله-كانوا يزعمون أنه نـزل به جبريل
وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: ( هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) بدلا من:
( الشياطين ) قال: وصح ذلك، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في
قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
[النساء: 11] أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير
الكلام عنده: تعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى
ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: ( وَمَا
أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) يقول: لم
ينـزل الله السحر. وبإسناده، عن الربيع بن أنس، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال: ما أنـزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين، ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: (
بِبَابِلَ هَارُوتَ [وَمَارُوت
] ) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم
ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) -"من السحر"- ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) وما
أنـزل الله "السحر" على الملكين، ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا
بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت
تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود،
فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل
وميكائيل لم ينـزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر،
وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين
يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت
وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه .
وقد قال ابن أبي حاتم: حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن
مرزوق، عن عطية ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال: ما أنـزل الله
على جبريل وميكائيل السحر.
حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يعلى -يعني ابن أسد-حدثنا بكر -يعني ابن مصعب-حدثنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها: (وما أنـزل على الملكين داود وسليمان).
وقال أبو العالية: لم ينـزل عليهما السحر، يقول: علما الإيمان والكفر،
فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن "ما" بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى
أن هاروت وماروت ملكان أنـزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر
اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على
ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما
أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [كما زعمه ابن حزم] !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده. عن الضحاك بن مزاحم: أنه كان يقرؤها: (
وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) ويقول: هما علجان من أهل بابل.
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنـزال بمعنى الخَلْق، لا بمعنى الإيحاء،
في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) كما قال تعالى: وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6]، وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25] ، وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر: 13] . وفي الحديث: "ما أنـزل الله داء إلا أنـزل له دواء". وكما يقال: أنـزل الله الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم
قرؤوا: "وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام. قال ابن أبزى:
وهما داود وسليمان. قال القرطبي: فعلى هذا تكون "ما" نافية أيضًا] .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) [و "ما" نافية]
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث، عن يحيى بن
سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل عن قول الله تعالى: ( يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ ) قال الرجل: يعلمان الناس السحر، ما أنـزل عليهما أو يعلمان الناس ما لم ينـزل عليهما؟ فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس، عن أنس بن عياض، عن بعض أصحابه: أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أيّ ذلك كان، إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنـزلا إلى
الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد
في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا
وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما
هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى [طه: 116] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت -على ما ذكر-أخف مما وقع من إبليس لعنه الله.
[وقد حكاه القرطبي عن على، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسدي، والكلبي] .
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه :
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن [أبي]
بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:
أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم -عليه السلام-لما
أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
[البقرة: 30] ، قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى
للملائكة: هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف
يعملان؟ قالوا: برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا والله
لا نشرك بالله شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها
نفسها. فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا لا والله لا نقتله
أبدًا. ثم ذهبت فرجعت
بقَدَح خَمْر تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر.
فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي. فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما
تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، به .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا
موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، رَوَى عن
ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك.
وروى عنه ابنه عبد السلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة،
وعبد الله بن لَهِيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب. وروى له أبو داود،
وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال
وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم. وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مَرْدُويه: حدثنا
دَعْلَجُ بن أحمد، حدثنا هشام [بن علي بن هشام]
حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سَرْجِس، عن
نافع، عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين -وهو سنيد بن داود
صاحب التفسير-حدثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال:
سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع، انظر، طلعت
الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثًا-ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها
ولا أهلا؟ قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال: قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم-: "إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا
والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك.
قال: فاختاروا ملكين منكم. قال: فلم يألوا جهدًا أن يختاروا، فاختاروا
هاروت وماروت" .
وهذان -أيضاً-غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال عبد الرزاق في تفسيره، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت. فقال
لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انـزلا لا تشركا
بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما
الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين، عن عبد الرزاق، به .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مُؤَمَّل، عن سفيان الثوري، به .
ورواه ابن جرير أيضًا: حدثني المثنى، حدثنا المعلى -وهو ابن أسد-حدثنا
عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، حدثني سالم أنه سمع عبد الله
يحدث، عن كعب الأحبار، فذكره .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج
حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت عليًا، رضي الله
عنه، يقول: كانت الزُّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى
الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [المتكلم] به يُعْرج به إلى السماء. فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء. فمسخت كوكبًا!
وهذا الإسناد [جيد و] رجاله ثقات، وهو غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا أبو معاوية، عن [ابن أبي] خالد، عن عمير بن سعيد، عن علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. يعني: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده، عن مغيث، عن مولاه
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا
الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزّهَرة، فإنها هي التي فتنت
الملكين هاروت وماروت". وهذا أيضًا لا يصح وهو منكر جدًا. والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن مِنْهال،
حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس
أنهما قالا جميعًا: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم
فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نـزلتم
لفعلتم أيضًا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم
أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض،
وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال: فوقعا بالخطيَّة . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7]
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا .
وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، أخبرنا
عبيد الله -يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال بن عمرو ويونس
بن خباب، عن مجاهد، قال: كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان
ذات ليلة قال لغلامه: انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا
حياها الله هي صاحبة الملكين. قالت الملائكة: يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم
وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إني قد
ابتليتهم، فعلَّ
إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال:
فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إني مهبطكما
إلى الأرض، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض
وألقي عليهما الشَّبَق، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت
لهما، فراوداها عن نفسها. فقالت: إني على دين لا يصح
لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله. قالا وما دينك؟ قالت: المجوسية. قالا
الشرك! هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما
فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجًا، وأنا أكره أن يطلع
على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى
السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى
السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه، فقال: رحمكما الله كيف يطلب أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا قد ابتلينا. قال: ائتياني
يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة
الثانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما، إن أحببتما معافاة الدنيا
وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله.
فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إني قد
أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا
يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا. قال: لا إني أرجو إن علم الله
أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال:
فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار،
عَاليهُمَا سافلَهما .
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر. وقد تقدم في رواية ابن جرير من
حديث معاوية بن صالح، عن نافع، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسنادًا. ثم هو
-والله أعلم-من رواية ابن عمر عن كعب، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن
أبيه. وقوله: إن الزُّهَرة نـزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن
علي، فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن روّاد، حدثنا
آدم، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس،
رضي الله عنهما
قال: لما وقع الناس من بعد آدم، عليه السلام، فيما وقعوا فيه من المعاصي
والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب، هذا العالم الذي إنما
خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس
وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم، ولا
يعذرونهم، فقيل: إنهم في غَيْب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من
أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض،
وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا،
ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب
الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس
عليه السلام. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهَرة في سائر
الكواكب، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت
إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها
عن دينها، فأخرجت لهما صنمًا فقالت: هذا أعبده. فقالا لا حاجة لنا في
عبادة هذا. فذهبا فغَبَرا ما شاء الله. ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها،
ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثم أتيا عليها فراوداها
على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا إحدى
الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن
تشربا هذا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر. فشربا
الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه
فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى
السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين
أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعَرَفوا
أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض،
فنـزل في ذلك: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن حكام بن سلم الرازي، وكان ثقة، عن أبي جعفر الرازي، به. ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهَرة، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني حدثنا يزيد -يعني الفارسي-عن ابن عباس [قال] أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي
فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال الله: أنتم معي، وهم
غُيَّب عني. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن
يهبطوا إلى الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين،
فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن.
فاستقال منهم واحد، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن
الناس يقال لها: مناهية
. فَهَويَاها جميعًا، ثم أتيا منـزلها فاجتمعا عندها، فأراداها فقالت
لهما: لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا لا نسجد.
ثم شربا من الخمر، ثم قتلا ثم سجدا. فأشرف أهل السماء عليهما. فقالت
لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما. فأخبراها فطارت فمسخت
جمرة. وهي هذه الزهَرة. وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين
عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا. فهما مناطان بين السماء
والأرض .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد
الله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ )
كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا
من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل
بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب
الدنيا. وقال مَعْمَر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما
ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) .
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات، فبها
يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نـزلنا
لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انـزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما
بين الناس. فنـزلا ببابل دَنْباوَند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا،
فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما
حسنها -واسمها بالعربية "الزّهَرة"، وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية
"أناهيد"-فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك
فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا
بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا
إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثم
واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي
يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء،
وبأي كلام تنـزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت، فأنساها الله ما تنـزل
به، فبقيت مكانها، وجعلها
الله كوكبًا. فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها، فقال: هذه التي فتنت
هاروت وماروت، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة
فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل،
وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر.
وقال ابن أبي نَجِيح
عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد
جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين
أنـزلهما يحكمان في الأرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إلا] هاروت وماروت، فقال لهما حين أنـزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [والبينات]
من وَرَاء وَرَاء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا
كذا وكذا، فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نـزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما،
فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا
مع الملائكة، وينـزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنـزلت عليهما
الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد
منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدتَ مثل الذي وجدتُ؟ قال: نعم. فبعثا
إليها أن ائتيانا نقض لك. فلما رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشفا لها
عن عورتيهما، وإنما كانت شهوتهما
في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك
واستحلا افتُتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا
فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه،
فقالا ادع لنا ربك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك
يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب
له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال:
ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي الدنيا تسع
مرات مثلها؟ فأمرا أن ينـزلا ببابل، فثَمَّ عذابهما. وزعم أنهما معلقان في
الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جما
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء التااسع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء العاشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى