الجزء السادس من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السادس من تفسير سورة آل عمران
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ (41)
لما رأى زكريا، عليه السلام، أن الله تعالى يرزق مريم، عليها السلام،
فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، و[إن]
كان شيخا كبيرا قد [ضعف و] وَهَن منه
العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع
هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفيا، وقال: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ )
أي: من عندك ( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) أي: ولدا صالحا ( إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ ) .
قال الله تعالى: ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي
فِي الْمِحْرَابِ ) أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم
يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته. ثم أخبر عما
بشّرته به الملائكة: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) أي: بولد
يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله
تعالى أحياه بالإيمان.
وقوله: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) روى العَوْفيّ وغيره عن
ابن عباس. وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع
بن أنس، والضحاك، وغيرهم في هذه الآية: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ ) أي: بعيسى ابن مريم؛ قال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن
مريم، وقال قتادة: وعلى سننه
ومنهاجه. وقال ابن جُرَيْج: قال ابن عباس في قوله: ( مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى
تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى:
تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى، وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من
عيسى عليه السلام، وهكذا قال السدي أيضا.
وقوله: ( وَسَيِّدًا ) قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وغيرهم: الحكيم وقال قتادة: سيدًا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس، والثوري، والضحاك: السيد الحكيم المتقي
وقال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقال عطية: السيد في خلقه ودينه.
وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد: هو الشريف. وقال مجاهد
وغيره هو الكريم على الله، عز وجل.
وقوله: ( وَحَصُورًا ) رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة،
وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، وعطية العَوْفي أنهم قالوا: هو الذي لا يأتي
النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له. وقال الضحاك:
هو الذي لا ولد له ولا ماء له.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن
قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس في الحَصُور: الذي لا ينـزل الماء، وقد روى
ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب
البغدادي، حدثني سعيد بن سليمان، حدثنا عبادة -يعني ابن العوام-عن يحيى بن
سعيد، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن ابن العاص -لا يدري عبد الله أو عمرو-عن
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) قال: ثم
تناول شيئا من الأرض فقال: "كان ذكره مثل هذا" .
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا يحيى بن سعيد
القَطَّان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى
بن زكريا، ثم قرأ سعيد: ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) ثم أخذ شيئا من الأرض
فقال الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة. فهذا موقوف وهو أقوى إسنادًا من المرفوع، بل وفي صحة المرفوع نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه
كان ( حَصُورًا ) ليس كما قاله بعضهم: إنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد
أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا
تليق
بالأنبياء، عليهم السلام، وإنما معناه: أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها
كأنه حصر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات. وقيل: ليست له شهوة في
النساء.
وقد
بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة
ثم قمعها: إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى، عليه
السلام. ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي
لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة، بتحصينهن وقيامه عليهن،
واكتسابه لهن، وهدايته إياهن. بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن
كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ".
هذا لفظه. والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل
معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك
من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من
دعاء زكريا المتقدم حيث قال: ( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) كأنه قال: ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن
سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج، عن سلمان بن القمري، عن الليث بن سعد، عن
محمد بن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه، إن
شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من
الصالحين"، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها
وقال: "كان ذكره مثل هذه القذاة"] .
قوله: ( وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى كقوله تعالى لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
[ القصص : 7 ]فلما تحقق زكريا، عليه السلام، هذه البشارة أخذ يتعجب من
وجود الولد منه بعد الكبر ( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ
بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ ) أي الملك: ( كَذَلِكَ
اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) أي: هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء
ولا يتعاظمه أمر .
( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي: علامة أستدل بها على وجود الولد
مني ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا
رَمْزًا ) أي: إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح، كما في قوله: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
[ مريم : 10 ] ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال، فقال: (
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ) وسيأتي
طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، إن شاء الله تعالى.
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم، عليها السلام، عن
أمر الله لهم بذلك: أن الله قد اصطفاها، أي: اختارها لكثرة عبادتها
وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين.
قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في قوله:
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ ) قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خَيْرُ نِسَاءٍ رَكبْن الإبلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أحْناهُ عَلَى وَلَدٍ في
صِغَرِهِ، وأرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، ولمَْ تَرْكَبْ
مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ". لم يخرجوه من هذا الوجه، سوى
مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حُمَيد كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خَيْرُ
نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ
بِنْتُ خُوَيْلِدٍ". أخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام، به مثله .
وقال الترمذي: حدثنا أبو بكر بن زَنْجَوِيْه، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا
مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ
حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ
وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ". تفرد به الترمذي وصححه .
وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه قال: كان ثابت البُنَاني
يحدث عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أرْبَع، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ
امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بَنْتُ
رَسُولِ اللهِ [صلى الله عليه وسلم]" رواه ابن مردويه .
وروى ابن مردويه من طريق شعبة، عن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ
يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا ثَلاث: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ
عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ "
.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا آدم العسقلاني،
حدثنا شُعْبة، حدثنا عمرو بن مُرَّة، سمعت مُرَّة الهَمْداني بحديث عن أبي
موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ مِنَ
الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". وقد أخرجه الجماعة إلا أبا
داود من طرق عن شعبة به
ولفظ البخاري: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ
عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام، في كتابنا: "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة: أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع
والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله [تعالى]
بها من الأمر الذي قدره وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما
أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولدًا من غير أب،
فقال تعالى: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ ) أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [ البقرة : 116 ].
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب،
أخبرني عَمْرو بن الحارث: أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن
أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ حَرْفٍ فِي
الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ". ورواه ابن جرير من
حديث ابن لهيعة، عن دَرّاج، به، وفيه نكارة
وقال مجاهد: كانت مريم، عليها السلام، تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو: طول الركوع
في الصلاة، يعني امتثالا لقوله تعالى: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ )
بل قال الحسن: يعني اعبدي لربك ( وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ ) أي: كوني منهم.
وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة، حتى نـزل الماء الأصفر في قدميها، رضي الله عنها.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي
-وفيه مقال-: حدثنا علي بن بحر بن بَرّي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن
الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
وَاسْجُدِي ) قال: سَجَدت حتى نـزل الماء الأصفر في عينيها .
وذكر ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا ضَمْرة، عن ابن شَوْذَب قال: كانت مريم، عليها السلام، تغتسل في كل ليلة.
ثم قال تعالى لرسوله [عليه أفضل الصلوات والسلام]
بعدما أطلعه على جلية الأمر: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ ) أي: نقصه عليك ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ ) أي: ما كنت عندهم يا محمد فَتُخْبرهم
عنهم معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك كأنك كنت حاضرا وشاهدًا لما
كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن
جُرَيْج، عن القاسم بن أبي بَزَّة، أنه أخبره عن عكرمة -وأبي بكر، عن
عكرمة-قال: ثم خَرَجَتْ بها -يعني أم مريم بمريم-تحملها في خرقها إلى بني
الكاهن بن هارون أخي موسى، عليهما السلام -قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحَجَبَة من الكعبة-فقالت لهم: دُونكم هذه النَّذِيرة فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي؟ فقالوا
هذه ابنة إمامنا -وكان عمران يؤمهم في الصلاة-وصاحب قرباننا فقال زكريا:
ادفعوها إليَّ: فإن خالتها تحتي. فقالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فَقَرَعَهُم زكريا، فكفلها
وقد ذكر عكرمة أيضًا، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، وغير واحد -دخل حديث بعضهم في بعض-أنهم دخلوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم [فيه] فأيهم ثبت في جَرْية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها
الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت. ويقال: إنه ذهب صُعُدًا يشق جرية الماء،
وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم، وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه سائر النبيين [والمرسلين]
إِذْ
قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
هذه بشارة من الملائكة لمريم، عليها السلام، بأن سيوجد منها ولد عظيم،
له شأن كبير. قال الله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ) أي: بولد يكون وجوده بكلمة
من الله، أي: بقوله له: "كن" فيكون، وهذا تفسير قوله: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
[ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه ( اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا، يعرفه
المؤمنون بذلك.
وسمي المسيح، قال بعض السلف: لكثرة سياحته. وقيل: لأنه كان مسيح القدمين: [أي] لا أخْمَص لهما. وقيل: لأنه [كان] إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى.
وقوله: ( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) نسبة له إلى أمه، حيث لا أب له (
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي: له
وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينـزل عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منحه به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه، أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله عليهم
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ (41)
لما رأى زكريا، عليه السلام، أن الله تعالى يرزق مريم، عليها السلام،
فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، و[إن]
كان شيخا كبيرا قد [ضعف و] وَهَن منه
العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع
هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفيا، وقال: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ )
أي: من عندك ( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) أي: ولدا صالحا ( إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ ) .
قال الله تعالى: ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي
فِي الْمِحْرَابِ ) أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم
يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته. ثم أخبر عما
بشّرته به الملائكة: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) أي: بولد
يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله
تعالى أحياه بالإيمان.
وقوله: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) روى العَوْفيّ وغيره عن
ابن عباس. وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع
بن أنس، والضحاك، وغيرهم في هذه الآية: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ ) أي: بعيسى ابن مريم؛ قال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن
مريم، وقال قتادة: وعلى سننه
ومنهاجه. وقال ابن جُرَيْج: قال ابن عباس في قوله: ( مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى
تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى:
تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى، وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من
عيسى عليه السلام، وهكذا قال السدي أيضا.
وقوله: ( وَسَيِّدًا ) قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وغيرهم: الحكيم وقال قتادة: سيدًا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس، والثوري، والضحاك: السيد الحكيم المتقي
وقال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقال عطية: السيد في خلقه ودينه.
وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد: هو الشريف. وقال مجاهد
وغيره هو الكريم على الله، عز وجل.
وقوله: ( وَحَصُورًا ) رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة،
وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، وعطية العَوْفي أنهم قالوا: هو الذي لا يأتي
النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له. وقال الضحاك:
هو الذي لا ولد له ولا ماء له.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن
قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس في الحَصُور: الذي لا ينـزل الماء، وقد روى
ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب
البغدادي، حدثني سعيد بن سليمان، حدثنا عبادة -يعني ابن العوام-عن يحيى بن
سعيد، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن ابن العاص -لا يدري عبد الله أو عمرو-عن
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) قال: ثم
تناول شيئا من الأرض فقال: "كان ذكره مثل هذا" .
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا يحيى بن سعيد
القَطَّان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى
بن زكريا، ثم قرأ سعيد: ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) ثم أخذ شيئا من الأرض
فقال الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة. فهذا موقوف وهو أقوى إسنادًا من المرفوع، بل وفي صحة المرفوع نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه
كان ( حَصُورًا ) ليس كما قاله بعضهم: إنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد
أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا
تليق
بالأنبياء، عليهم السلام، وإنما معناه: أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها
كأنه حصر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات. وقيل: ليست له شهوة في
النساء.
وقد
بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة
ثم قمعها: إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى، عليه
السلام. ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي
لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة، بتحصينهن وقيامه عليهن،
واكتسابه لهن، وهدايته إياهن. بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن
كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ".
هذا لفظه. والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل
معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك
من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من
دعاء زكريا المتقدم حيث قال: ( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) كأنه قال: ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن
سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج، عن سلمان بن القمري، عن الليث بن سعد، عن
محمد بن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه، إن
شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من
الصالحين"، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها
وقال: "كان ذكره مثل هذه القذاة"] .
قوله: ( وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى كقوله تعالى لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
[ القصص : 7 ]فلما تحقق زكريا، عليه السلام، هذه البشارة أخذ يتعجب من
وجود الولد منه بعد الكبر ( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ
بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ ) أي الملك: ( كَذَلِكَ
اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) أي: هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء
ولا يتعاظمه أمر .
( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي: علامة أستدل بها على وجود الولد
مني ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا
رَمْزًا ) أي: إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح، كما في قوله: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
[ مريم : 10 ] ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال، فقال: (
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ) وسيأتي
طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، إن شاء الله تعالى.
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم، عليها السلام، عن
أمر الله لهم بذلك: أن الله قد اصطفاها، أي: اختارها لكثرة عبادتها
وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين.
قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في قوله:
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ ) قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خَيْرُ نِسَاءٍ رَكبْن الإبلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أحْناهُ عَلَى وَلَدٍ في
صِغَرِهِ، وأرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، ولمَْ تَرْكَبْ
مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ". لم يخرجوه من هذا الوجه، سوى
مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حُمَيد كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خَيْرُ
نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ
بِنْتُ خُوَيْلِدٍ". أخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام، به مثله .
وقال الترمذي: حدثنا أبو بكر بن زَنْجَوِيْه، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا
مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ
حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ
وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ". تفرد به الترمذي وصححه .
وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه قال: كان ثابت البُنَاني
يحدث عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أرْبَع، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ
امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بَنْتُ
رَسُولِ اللهِ [صلى الله عليه وسلم]" رواه ابن مردويه .
وروى ابن مردويه من طريق شعبة، عن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ
يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا ثَلاث: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ
عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ "
.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا آدم العسقلاني،
حدثنا شُعْبة، حدثنا عمرو بن مُرَّة، سمعت مُرَّة الهَمْداني بحديث عن أبي
موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ مِنَ
الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". وقد أخرجه الجماعة إلا أبا
داود من طرق عن شعبة به
ولفظ البخاري: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ
عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام، في كتابنا: "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة: أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع
والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله [تعالى]
بها من الأمر الذي قدره وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما
أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولدًا من غير أب،
فقال تعالى: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ ) أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [ البقرة : 116 ].
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب،
أخبرني عَمْرو بن الحارث: أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن
أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ حَرْفٍ فِي
الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ". ورواه ابن جرير من
حديث ابن لهيعة، عن دَرّاج، به، وفيه نكارة
وقال مجاهد: كانت مريم، عليها السلام، تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو: طول الركوع
في الصلاة، يعني امتثالا لقوله تعالى: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ )
بل قال الحسن: يعني اعبدي لربك ( وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ ) أي: كوني منهم.
وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة، حتى نـزل الماء الأصفر في قدميها، رضي الله عنها.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي
-وفيه مقال-: حدثنا علي بن بحر بن بَرّي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن
الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
وَاسْجُدِي ) قال: سَجَدت حتى نـزل الماء الأصفر في عينيها .
وذكر ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا ضَمْرة، عن ابن شَوْذَب قال: كانت مريم، عليها السلام، تغتسل في كل ليلة.
ثم قال تعالى لرسوله [عليه أفضل الصلوات والسلام]
بعدما أطلعه على جلية الأمر: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ ) أي: نقصه عليك ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ ) أي: ما كنت عندهم يا محمد فَتُخْبرهم
عنهم معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك كأنك كنت حاضرا وشاهدًا لما
كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن
جُرَيْج، عن القاسم بن أبي بَزَّة، أنه أخبره عن عكرمة -وأبي بكر، عن
عكرمة-قال: ثم خَرَجَتْ بها -يعني أم مريم بمريم-تحملها في خرقها إلى بني
الكاهن بن هارون أخي موسى، عليهما السلام -قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحَجَبَة من الكعبة-فقالت لهم: دُونكم هذه النَّذِيرة فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي؟ فقالوا
هذه ابنة إمامنا -وكان عمران يؤمهم في الصلاة-وصاحب قرباننا فقال زكريا:
ادفعوها إليَّ: فإن خالتها تحتي. فقالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فَقَرَعَهُم زكريا، فكفلها
وقد ذكر عكرمة أيضًا، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، وغير واحد -دخل حديث بعضهم في بعض-أنهم دخلوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم [فيه] فأيهم ثبت في جَرْية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها
الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت. ويقال: إنه ذهب صُعُدًا يشق جرية الماء،
وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم، وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه سائر النبيين [والمرسلين]
إِذْ
قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
هذه بشارة من الملائكة لمريم، عليها السلام، بأن سيوجد منها ولد عظيم،
له شأن كبير. قال الله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ) أي: بولد يكون وجوده بكلمة
من الله، أي: بقوله له: "كن" فيكون، وهذا تفسير قوله: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
[ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه ( اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا، يعرفه
المؤمنون بذلك.
وسمي المسيح، قال بعض السلف: لكثرة سياحته. وقيل: لأنه كان مسيح القدمين: [أي] لا أخْمَص لهما. وقيل: لأنه [كان] إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى.
وقوله: ( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) نسبة له إلى أمه، حيث لا أب له (
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي: له
وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينـزل عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منحه به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه، أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله عليهم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السادس من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء السادس من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السادس من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث من تفسير سورة آل عمران
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الرابع من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث من تفسير سورة آل عمران
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الرابع من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى