الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(122)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(123)
وقوله: ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]
) قال البخاري: حدثنا عليّ بنُ عبد الله، حدثنا سفيان قال: قال عَمْرو:
سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نـزلت: ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ
مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ] ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثَة وبنو سَلَمة، وما نحِب -وقال سفيان مرة: وما يسرنِي-أنَّها لم تَنـزلْ، لقول الله تعالى: ( وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ) .
< 2-111 >
وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غيرُ واحد من السَّلَف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمةَ.
وقوله: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: يوم بدر، وكان في جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، [هذا]
مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم
فرسان وسبعُون بعِيرا، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما
يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ
الحديد والبَيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنـزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان
وجيله ولهذا قال تعالى -مُمْتَنا على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين: (
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) أي: قليل
عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ [شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
*
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
*
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[التوبة: 25 -27].
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جَعْفَر، حدثنا شُعْبَة، عن سِمَاك
قال: سمعت عِياضا الأشعري قال: شهدتُ الْيَرْمُوك وعلينا خمسة أمراء: أبو
عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وابن حَسَنَة، وخالد بن الوليد، وعياض -وليس
عياض هذا الذي حدث سماكا-قال: وقال عمر، رضي الله عنه: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة. قال: فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تَسْتَمِدُّونَنِي
وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا، وأحصن جندًا: الله عز وجل، فاستنصروه،
فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نُصر يومَ بدر في أقل من عدتكم، فإذا
جاءكم كتابي فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال فقاتلناهم فهزمناهم أربعة
فراسخ، قال: وأصبنا أموالا فتشاورنا، فأشار علينا عياض أنْ نُعْطِيَ عن كل
ذي رأس عشرة. قال: وقال أبو عبيدة : من يراهنني؟ فقال شاب: أنا، إن لم
تَغْضَبْ. قال: فسبقه، فرأيت عَقِيصَتَيْ أبي عُبَيدة تَنْقزان وهو خَلْفه
على فرس عُرْي .
وهذا إسناد صحيح وقد أخرجه ابن حِبّان في صحيحه من حديث بُنْدَار، عن غُنْدَر، < 2-112 >
بنحوه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه.
وبَدْر مَحَلَّة بين مكة والمدينة، تُعرف ببئرها، منسوبة إلى رجل حفرها
يقال له: "بدر بن النارين". قال الشعبي: بدر بئر لرجل يسمى بدرًا.
وقوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: تقومون بطاعته.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
(125)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
(126)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ
(127)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
(128)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(129)
اختلف المفسرون في هذا الوعد: هل كان يوم بَدْر أو يوم أُحُد؟ على قولين:
أحدهما: أن قوله: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
ورُوي هذا عن الحسن البصري، وعامر الشعبي، والرَّبِيع بن أنس، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
قال عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ ) قال: هذا يوم بَدْر. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:
حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْب عن داود، عن عامر
-يعني الشعبي-أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كُرْز بن جابر يُمدّ المشركين،
فشق ذلك عليهم، فأنـزل الله: ( أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنـزلِينَ ) إلى قوله: (
مُسَوِّمِين ) قال: فبلغت كُرْزًا الهزيمة، فلم يمد المشركين ولم يمد الله
المسلمين بالخمسة.
وقال الرَّبِيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف.
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية -على هذا القول-وبين قوله تعالى في قصة بدر:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[الأنفال:9 ، 10] فالجواب: أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله: مُرْدِفِينَ
بمعنى يَرْدَفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه
بهذا السياق في سورة آل عمران. فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف
من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم، قال سعيد بن أبي
عَرُوبَة، عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف. < 2-113 > القول الثاني: إن هذا الوعد متَعَلق بقوله:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وذلك يوم أحُد. وهو قول مجاهد، وعِكْرِمة، والضَّحَّاك، والزهري، وموسى
بن عُقبة وغيرهم. لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف؛ لأن المسلمين
فرّوا يومئذ -زاد عكرمة: ولا بالثلاثة الآلاف؛ لقوله: ( بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ) فلم يصبروا، بل فروا، فلم يمدوا بملك واحد.
وقوله: ( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ) يعني: تصبروا على مُصَابرة عَدُوّكم وتتقوني وتطيعوا أمري.
وقوله: ( وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا ) قال الحسن، وقتادة،
والربيع، والسُّدِّي: أي من وجههم هذا. وقال مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح: أي
من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العَوْفيّ عن ابن عباس:
من سفرهم هذا. ويقال: من غضبهم هذا.
وقوله: ( يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) أي: معلمين بالسِّيما.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن علي بن أبي طالب،
رضي الله عنه، قال: كان سِيَما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان
سيماهم أيضا في نواصي خَيْلِهم .
رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا هَدْبة بن خالد،
حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة
في هذه الآية: ( مُسَوِّمِينَ ) قال: بِالْعِهْن الأحمر.
وقال مجاهد: ( مُسَوِّمِينَ ) أي: مُحَذَّقة أعرافها، مُعَلَّمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس، قال: أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه
وسلم مُسَوِّمين بالصوف، فسَوَم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم
بالصوف.
وقال عكرمة وقتادة ( مُسَوِّمِينَ ) أي: بسيما القتال، وقال مكحول: ( مُسَوِّمِينَ ) بالعمائم.
وروى ابن مَرْدُويَه، من حديث عبد القدوس بن حَبيب، عن عطاء بن أبي
رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (
مُسَوِّمِينَ ) قال: "مُعَلَّمينَ. وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حُمْر".
ورَوَى من حديث حُصَين بن مُخارق، عن سعيد، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وقال ابن إسحاق: حَدّثني مَنْ لا أتهم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: كان
سيما الملائكة يوم بدر عَمَائِمَ بيض قد أرْسَلُوها في ظهورهم، ويوم
حُنَيْنٍ عمائمَ حُمْرا. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا
يكونون فيما سواه من الأيام عَدَدًا ومَدَدًا لا يَضْربون.
ثم رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقْسَم عن ابن عباس، فذكر نحوه.
< 2-114 >
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأحْمَسِي حدثنا وَكِيع، حدثنا هشام بن عُرْوة، عن يحيى بن عباد: أن الزبير [بن العوام] رضي الله عنه، كان عليه يوم بدر عمامة صفراء مُعْتَجرًا بها، فنـزلت الملائكة عليهم عمائم صُفْر.
رواه ابن مَرْدُويَه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، فذكره.
وقوله: ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ ) أي: وما أنـزل الله الملائكة وأعلمكم بإنـزالها إلا
بشارةً لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا، وإلا فإنما النصر من عند الله، الذي
لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال
تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال:
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
*
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
*
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
[محمد:4-6] . ولهذا قال هاهنا: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي: هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمة في
قَدره والإحكام.
ثم قال
تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: أمركم بالجهاد
والجلاد، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام
الممكنة في الكفار المجاهدين. فقال: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا ) أي: ليهلك أمة (
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ ) أي: يخزيهم ويردهم بغيظهم
لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا؛ ولهذا قال: ( أَوْ يَكْبِتَهُمْ
فَيَنْقَلِبُوا ) أي: يرجعوا ( خَائِبِينَ ) أي: لم يحصلوا على ما
أمَّلُوا.
ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا
شريك له، فقال: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) أي: بل الأمر كلّه
إلي، كما قال:
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
[الرعد:40] وقال
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
[البقرة:272]. وقال
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
[القصص:56]. قال محمد بن إسحاق في قوله: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال: ( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) أي: مما
هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة ( أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) أي: في الدنيا
والآخرة على كفرهم وذنوبهم؛ ولهذا قال: ( فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) أي:
يستحقون ذلك. وقال البخاري: حدثنا حِبّان بن مُوسى، أخبرنا عبد
الله، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه: أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من
الفجر < 2-115 >
اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا" بعد ما يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ربنا ولك الحمد" فأنـزل الله تعالى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ) . وهكذا رواه النسائي، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق، كلاهما، عن مَعْمَر , به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو عقيل -قال أحمد: وهو
عبد الله بن عقيل، صالح الحديث ثقة-قال: حدثنا عُمَر بن حمزة، عن سالم، عن
أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم العن فلانا،
اللهم العن الحارث بن هِشامِ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو، اللهم العن
صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ". فنـزلت هذه الآية: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
) فَتِيبَ عليهم كلّهم .
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية الغَلابي، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا
محمد بن عجْلان، عن نافع، عن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يدعو على أربعة قال: فأنـزل الله: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ
شَيْءٌ[أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ] ) قال: وهداهم الله للإسلام .
وقال محمد بن عَجْلان، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم، حتى أنـزل
الله: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) الآية. وقال البخاري أيضًا: حَدّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سَعْد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، وأبي سلمة بن
عبد الرحمن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد -أو يدعو لأحد-قَنَتَ بعد الركوع، وربما
قال -إذا قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد-: "اللَّهُمَّ انْجِ
الْوَلِيد بن الوليدِ، وسَلَمَة بْنَ هشَامٍ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي
رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ
يُوسُفَ". يجهر بذلك، وكان يقول -في بعض صلاته في صلاة الفجر-: "اللهم العن
فلانا وفلانا" لأحياء من أحياء العرب، حتى أنـزل الله ( لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأمْرِ شَيْءٌ ) الآية . وقال
البخاري: قال حُمَيْد وثابت، عن أنس بن مالك: شُجّ النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحُد، فقال: "كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟".
فنـزلت: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) وقد أسند هذا الحديث الذي
عَلَّقه البخاري رحمه الله . وقال البخاري: في غزوة أُحُد: حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي، حدثنا عبد الله -أخبرنا مَعْمَر، < 2-116 >
عن الزهري، حَدّثَني سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول -إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الأخيرة من
الفجر-: "اللهم العن فلانا وفلانا وَفُلانًا" بعد ما يقول: "سَمِعَ اللهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، ربنا ولك الحمد". فأنـزل الله: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأمْرِ شَيْءٌ ) [إلى قوله: ( فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) ] . وعن
حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة، وسُهَيل بن عمرو، والحارث بن
هشام، فنـزلت: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ[أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) .
هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ، وشُجَّ في
جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا
هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى ربهم، عز وجل". فأنـزل الله تعالى: (
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) انفرد به مسلم، فرواه [عن] القعنبي، عن حَمّاد، عن ثابت، عن أنس، فذكره .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن
واقد، عن مطر، عن قتادة قال: أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت
رَبَاعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى
أبي حذيفة، فأجلسه ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول: "كَيْفَ بِقَوْمٍ
فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى اللهِ؟" فأنـزل الله: (
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ) . وكذا رواه عبدُ الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، بنحوه، ولم يقل: فأفاق .
ثم قال تعالى: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ )
أي: الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه ( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) أي: هو المتصرف فلا مُعَقّب لحكمه، ولا يسأل
عما يفعل وهم يسألون، والله غفور رحيم .
< 2-117 >
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(130)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
(131)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(132)
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة،
كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حَلّ أجل الدين: إما أن يَقْضِي وإمّا
أن يُرْبِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر، وهكذا
كلّ عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا.
وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى
ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال: ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ )
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
شــــــــــــــــكرآآآآآآآآآآآآ لــــــــــــــــــــــــــــك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة آل عمران
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء السابع والعشرون والأخير من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة آل عمران
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة آل عمران
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة آل عمران
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى