الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا
فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا
عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) فَذَكر
الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون
بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث
الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم: العالم
والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب
أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت؛ إنما أردت أن يقال:
جواد فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.
وفي الحديث: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: "إن أباك رامَ أمرًا فبلغه".
وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن
جُدعان: هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: "لا إنه لم يقل يوما من الدهر:
رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ولهذا قال: ( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] )
أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها
الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح ( وَمَنْ
يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) ولهذا قال الشاعر
ثم قال تعالى: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ
وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [وَكَانَ اللَّهُ
بِهِمْ عَلِيمًا] )
أي: وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى
الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا
وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.
وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ) أي: وهو عليم بنياتهم
الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه
لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم
الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة،
عياذا بالله من ذلك [بلطفه الجزيل] .
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا
مثقال ذرة، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] [الأنبياء: 47] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 16] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
وفي الصحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سَعِيدٍ
الخُدْري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ، وفيه:
فيقول الله عز وجل: "ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة
خردل من إيمان، فأخرجوه من النار". وفي لفظ: "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من
إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا" ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا
إن شئتم: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] ).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عيسى بن يُونُس، عن هارونَ بن عنترة
عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ قال: قال عبدُ الله بن مَسْعُود:
يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين
والآخِرين: هذا فلانُ بنُ فلانٍ، من كان له حق فليأت إلى حقه. فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها. ثم قرأ: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ
[المؤمنون:101] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا،
فينصَب للناس فينادَي: هذا فلانُ بن فلانٍ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه.
فيقول: رَبّ، فَنِيَت الدنيا، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم؟ قال: خذوا من
أعماله الصالحة، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله
ففَضَلَ له مثقالُ ذرة، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة، ثم قرأ
علينا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) قال: ادخل الجنة؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك:
ربِّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير؟ فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى
سيئاته، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار.
ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر، عن زاذان -به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثتا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا فُضَيلٌ -يعني
ابن مرزوق-عن عطيَّة العَوْفي، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال: نزلت هذه
الآية في الأعراب: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
[الأنعام: 160] قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ما هو
أفضلُ من ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
وحدثنا أبو زُرْعَةَ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، حدثني عبد
الله بن لَهِيعَةَ، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله (
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم
القيامة، ولا يخرج من النار أبدا. وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس
قال: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء؟ قال: "نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار" .
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه
حدثنا عِمْرَانُ، حدثنا قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى
بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة" .
وقال أبو هريرة، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ
والضحاكُ، في قوله: ( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:
الجنة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سُلَيْمانُ -يعني ابن
الْمُغَيْرَةِ-عن علي بن زَيْدٍ، عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه
قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة.
قال: فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا، فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث
أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعطى عبده
المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة" ثم تلا (
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) فمن يقدره قدره .
رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: بلغنى
أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله
لقد سمعت -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم-كذا قال أبي -يقول: "إن الله
ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة" .
علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم.
وقوله: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) يقول تعالى -مخبرًا عن هول يوم
القيامة وشدة أمره وشأنه: فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد -يعني الأنبياء عليهم السلام؟ كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [الزمر: 69] وقال تعالى: وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
[وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]
[النحل: 89].
قال البخاري: حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن
إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه
وسلم "اقرأ علي" قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: "نعم،
إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: (
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) قال: "حسبك الآن" فإذا عيناه تَذْرِفَان.
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو
بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا
فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن
أبيه قال -وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر
اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فبكى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه، فقال: "يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره؟" .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن
المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله -هو ابن مسعود-(
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت
الرقيب عليهم".
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في "التذكرة" حيث قال: باب
ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: قال: أخبرنا ابن
المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع
سعيد بن المُسَيَّبِ يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه
وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم
وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )
فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن
المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: [قد تقدم]
أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء
والأمهات يوم الجُمُعة. قال: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض
عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام.
وقوله ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) أي: لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال
الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا] وقوله ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن
مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال: أتى رجل ابن
عباس فقال: سمعتُ الله، عز وجل، يقول -يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة
أنهم قالوا-: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقال في الآية الأخرى: ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) فقال ابنُ العباس: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا: تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن
جُبَيْر قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن. قال:
ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس هو بالشك. ولكن اختلاف. قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقال ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما
كانوا يعملون، فعند ذلك: ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ
حَدِيثًا )
وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك: إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس
فقال: يا ابن عباس، قول الله: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ
اللَّهَ حَدِيثًا ) وقوله وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن
عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم
القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا
ممن وحده، فيقولون: تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قال: فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق
جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو
أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) رواه
ابن جرير.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا
يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها -وهي المساجد-للجُنُب، إلا أن
يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر،
كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله [تعالى] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ]
الآية [البقرة: 219] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر،
فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية، تلاها
عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر
في أوقات الصلوات فلما نزل قوله[تعالى] يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90، 91] فقال عمر: انتهينا، انتهينا.
وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو -وهو ابن شُرَحبيل-عن عُمَرَ
بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في
[سورة
النساء]: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) فكان منادي رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي: ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم .
حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن
حَرْبٍ قال: سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال: نزلت في أربعُ
آيات: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من
الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير
فَفَزَر بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية.
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به .
سبب آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد
الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف
طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا
فلانا -قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما
تعبدون. [قال]
فأنزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )
هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال: حسن صحيح .
وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن
سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو
وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: ( قُلْ [يَا]
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فخلط فيها، فنزلت: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به.
ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي
عبد الله السَّلَمِيّ قال: كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك
قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
ثم قال: حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد،
عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب -وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛
أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما
تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين.
فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ ) .
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ]
) وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر،
فقال الله: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية. رواه
ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن
قتادة: كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.
وقال الضَّحَّاكُ في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) لم يعن بها سُكْرَ الخمر،
وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال: ولم يتوجه النهي
إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب
بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف .
وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب
يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم
شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر
بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا
يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم. وعلى هذا
فيكون كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.
وقوله: ( حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران: إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم
حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من
حديث أيوب، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.
وقوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال
ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا
أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: (
وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال: لا تدخلوا
المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر
به مرًّا ولا تجلس. ثم قال: ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي
عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد،
ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار،
والحكم بن عُتَيْبَة وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل (
وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم
في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون
ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ )
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح
البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سُدُّوا كل خَوخة في
المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر" .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي
الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور
المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه،
رضي الله عنه. ومن روى: "إلا باب علي" كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ،
والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه
يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء
أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من
قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا
فلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخُمْرة من المسجد" فقلت: إني حائض. فقال: "إن حيضتك ليست في يدك". وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ" قال أبو مسلم الخَطَّابي: ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا: أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج
الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. قال أبو
زرعة الرازي: يقولون: جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن
أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، لا يحل
لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن
سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم.
قول آخر في معنى الآية: قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا
عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش،
عن علي: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) قال: لا يقرب الصلاة، إلا
أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.
ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب،
فذكره. قال: ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك،
نحو ذلك.
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن
عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش -عن علي فذكره. ورواه من طريق
الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ،
وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ،
وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن
كَثِير قال: كنَّا نسمع أنه في السفر.
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من
حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير"
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا
فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا
عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) فَذَكر
الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون
بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث
الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم: العالم
والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب
أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت؛ إنما أردت أن يقال:
جواد فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.
وفي الحديث: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: "إن أباك رامَ أمرًا فبلغه".
وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن
جُدعان: هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: "لا إنه لم يقل يوما من الدهر:
رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ولهذا قال: ( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] )
أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها
الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح ( وَمَنْ
يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) ولهذا قال الشاعر
عَـن المَـرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه | فكـلُّ قــرين بـالمقـارن يَقْتَــدي |
وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [وَكَانَ اللَّهُ
بِهِمْ عَلِيمًا] )
أي: وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى
الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا
وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.
وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ) أي: وهو عليم بنياتهم
الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه
لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم
الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة،
عياذا بالله من ذلك [بلطفه الجزيل] .
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا
مثقال ذرة، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] [الأنبياء: 47] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 16] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
وفي الصحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سَعِيدٍ
الخُدْري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ، وفيه:
فيقول الله عز وجل: "ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة
خردل من إيمان، فأخرجوه من النار". وفي لفظ: "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من
إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا" ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا
إن شئتم: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] ).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عيسى بن يُونُس، عن هارونَ بن عنترة
عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ قال: قال عبدُ الله بن مَسْعُود:
يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين
والآخِرين: هذا فلانُ بنُ فلانٍ، من كان له حق فليأت إلى حقه. فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها. ثم قرأ: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ
[المؤمنون:101] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا،
فينصَب للناس فينادَي: هذا فلانُ بن فلانٍ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه.
فيقول: رَبّ، فَنِيَت الدنيا، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم؟ قال: خذوا من
أعماله الصالحة، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله
ففَضَلَ له مثقالُ ذرة، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة، ثم قرأ
علينا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) قال: ادخل الجنة؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك:
ربِّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير؟ فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى
سيئاته، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار.
ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر، عن زاذان -به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثتا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا فُضَيلٌ -يعني
ابن مرزوق-عن عطيَّة العَوْفي، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال: نزلت هذه
الآية في الأعراب: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
[الأنعام: 160] قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ما هو
أفضلُ من ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
وحدثنا أبو زُرْعَةَ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، حدثني عبد
الله بن لَهِيعَةَ، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله (
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم
القيامة، ولا يخرج من النار أبدا. وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس
قال: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء؟ قال: "نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار" .
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه
حدثنا عِمْرَانُ، حدثنا قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى
بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة" .
وقال أبو هريرة، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ
والضحاكُ، في قوله: ( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:
الجنة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سُلَيْمانُ -يعني ابن
الْمُغَيْرَةِ-عن علي بن زَيْدٍ، عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه
قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة.
قال: فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا، فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث
أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعطى عبده
المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة" ثم تلا (
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) فمن يقدره قدره .
رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: بلغنى
أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله
لقد سمعت -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم-كذا قال أبي -يقول: "إن الله
ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة" .
علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم.
وقوله: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) يقول تعالى -مخبرًا عن هول يوم
القيامة وشدة أمره وشأنه: فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد -يعني الأنبياء عليهم السلام؟ كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [الزمر: 69] وقال تعالى: وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
[وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]
[النحل: 89].
قال البخاري: حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن
إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه
وسلم "اقرأ علي" قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: "نعم،
إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: (
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) قال: "حسبك الآن" فإذا عيناه تَذْرِفَان.
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو
بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا
فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن
أبيه قال -وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر
اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فبكى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه، فقال: "يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره؟" .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن
المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله -هو ابن مسعود-(
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت
الرقيب عليهم".
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في "التذكرة" حيث قال: باب
ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: قال: أخبرنا ابن
المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع
سعيد بن المُسَيَّبِ يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه
وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم
وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )
فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن
المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: [قد تقدم]
أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء
والأمهات يوم الجُمُعة. قال: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض
عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام.
وقوله ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) أي: لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال
الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا] وقوله ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن
مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال: أتى رجل ابن
عباس فقال: سمعتُ الله، عز وجل، يقول -يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة
أنهم قالوا-: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقال في الآية الأخرى: ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) فقال ابنُ العباس: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا: تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن
جُبَيْر قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن. قال:
ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس هو بالشك. ولكن اختلاف. قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقال ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما
كانوا يعملون، فعند ذلك: ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ
حَدِيثًا )
وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك: إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس
فقال: يا ابن عباس، قول الله: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ
اللَّهَ حَدِيثًا ) وقوله وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن
عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم
القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا
ممن وحده، فيقولون: تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قال: فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق
جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو
أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) رواه
ابن جرير.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا
يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها -وهي المساجد-للجُنُب، إلا أن
يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر،
كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله [تعالى] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ]
الآية [البقرة: 219] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر،
فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية، تلاها
عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر
في أوقات الصلوات فلما نزل قوله[تعالى] يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90، 91] فقال عمر: انتهينا، انتهينا.
وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو -وهو ابن شُرَحبيل-عن عُمَرَ
بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في
[سورة
النساء]: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) فكان منادي رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي: ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم .
حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن
حَرْبٍ قال: سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال: نزلت في أربعُ
آيات: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من
الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير
فَفَزَر بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية.
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به .
سبب آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد
الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف
طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا
فلانا -قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما
تعبدون. [قال]
فأنزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )
هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال: حسن صحيح .
وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن
سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو
وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: ( قُلْ [يَا]
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فخلط فيها، فنزلت: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به.
ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي
عبد الله السَّلَمِيّ قال: كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك
قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
ثم قال: حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد،
عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب -وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛
أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما
تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين.
فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ ) .
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ]
) وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر،
فقال الله: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية. رواه
ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن
قتادة: كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.
وقال الضَّحَّاكُ في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) لم يعن بها سُكْرَ الخمر،
وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال: ولم يتوجه النهي
إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب
بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف .
وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب
يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم
شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر
بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا
يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم. وعلى هذا
فيكون كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.
وقوله: ( حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران: إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم
حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من
حديث أيوب، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.
وقوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال
ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا
أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: (
وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال: لا تدخلوا
المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر
به مرًّا ولا تجلس. ثم قال: ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي
عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد،
ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار،
والحكم بن عُتَيْبَة وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل (
وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم
في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون
ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ )
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح
البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سُدُّوا كل خَوخة في
المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر" .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي
الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور
المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه،
رضي الله عنه. ومن روى: "إلا باب علي" كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ،
والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه
يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء
أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من
قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا
فلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخُمْرة من المسجد" فقلت: إني حائض. فقال: "إن حيضتك ليست في يدك". وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ" قال أبو مسلم الخَطَّابي: ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا: أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج
الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. قال أبو
زرعة الرازي: يقولون: جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن
أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، لا يحل
لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن
سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم.
قول آخر في معنى الآية: قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا
عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش،
عن علي: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) قال: لا يقرب الصلاة، إلا
أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.
ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب،
فذكره. قال: ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك،
نحو ذلك.
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن
عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش -عن علي فذكره. ورواه من طريق
الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ،
وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ،
وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن
كَثِير قال: كنَّا نسمع أنه في السفر.
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من
حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير"
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الأول من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثامن عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الأول من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثامن عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى