الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة
وهي: ما مات من الحيوان حَتْف أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا
لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن
فلهذا حرمها الله، عز وجل، ويستثني من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات
بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما،
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحيهما، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء
البحر، فقال: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته ".
وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: ( وَالدَّمُ ) يعني [به] المسفوح؛ لقوله: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو-يعني
ابن قيس-عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: أنه سئل عن الطحال فقال:
كلوه فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حُرم عليكم الدم المسفوح.
وكذا رواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".
وكذا رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا.
قلت: وثلاثتهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال
أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ
أبو زرعة الرازي: وهو أصح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي
الشوارب، حدثنا بَشير بن سُرَيج، عن أبي غالب، عن أبي أمامة -وهو صُدَيّ
بن عجلان-قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى
الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا
بقَصْعَة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صُديّ، فكل. قال: قلت: ويحكم! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم
هذا عليكم، وأنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية:
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنزيرِ] ) الآية.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد
مثله، وزاد بعد هذا السياق: قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون علي،
فقلت لهم: ويحكم، اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش -قال: وعليّ
عباءتي-فقالوا: لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت
برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال: فأتاني آت في منامي
بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس [شرابا] ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن حُمْشاذ
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري،
حدثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه
وزاد بعد قوله: "بعد تيك الشربة": فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة
قومكم، فلم تَمْجعَوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:
أي: لا تفعل كما يفعل
الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه،
فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم
فيشربه؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى:
وقوله: ( وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ) يعني: إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع
أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم
في الاحتجاج بقوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا يعنون قوله تعالى: إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ
[ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع
أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون
المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة
العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي،
رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنردَشير
فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع
الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة،
فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويَسْتَصبِحُ بها الناس؟ فقال:
"لا هو حرام".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان: أنه قال لهرقل ملك الروم: "نهانا عن الميتة والدم".
وقوله: ( وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله أوجب أن تذبح
مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من
صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع.
وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه، إما عمدًا أو نسيانا، كما
سيأتي تقريره في سورة الأنعام.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني، حدثنا نعيم بن
حماد، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْل قال: نزل
آدم بتحريم أربع: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وإن
هذه الأربعة الأشياء
لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو
إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن
مريم، عليه السلام، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [عليه السلام] وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه. وهذا أثر غريب.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي بن
عبد الله قال: سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة -قال: هو جدي-قال: كان رجل من
بني رَيَاح
يقال له: ابن وَثَيِل، وكان شاعرا، نافر-غالبا-أبا الفرزدق بماء بظهر
الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، وهذا مائة من إبله، إذا وردت الماء،
فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها. قال:
فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم -قال: وعَليٌّ بالكوفة-قال:
فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا
أيها الناس، لا تأكلوا من لحومها فإنما أهل بها لغير الله.
هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن أبي رَيْحانة، عن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب.
ثم قال أبو داود: محمد بن جعفر -هو غُنْدَر-أوقفه على ابن عباس. تفرد به أبو داود
وقال أبو داود أيضا: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي،
حدثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت قال: سمعت عِكْرِمة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
ثم قال أبو داود: أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. تفرد به أيضا.
وقوله: ( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا، بأن تَتَخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام.
وأما ( الْمَوْقُوذَةُ ) فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت،
كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها فتموت.
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصحيح: أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض
الصيد فأصيب. قال: "إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه، وإن أصابه بعَرْضِه
فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله".
ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصابه
بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا،
واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين،
هما قولان للشافعي، رحمه الله:
أحدهما: [ أنه] لا يحل، كما في السهم، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.
والثاني: أنه يحل؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على
إباحة ما ذكرناه؛ لأنه قد دخل في العموم. وقد قررت لهذه المسألة فصلا
فليكتب هاهنا. .
فصل :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحل أم لا ؟ على قولين:
أحدهما: أن ذلك حلال؛ لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي بن حاتم. وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي، رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين [منهم] كالنووي والرافعي.
قلت: وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا
الموضعين: "يحتمل معنيين". ثم وجه كلا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه
فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل
رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحل، نقله
ابن الصباغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زياد، عنه، ولم يذكر غير ذلك
وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي، وأبي هريرة، وسعد
بن أبي وقاص، وابن عمر. وهذا غريب جدًا، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم، إلا
أنه من تصرفه، رحمه الله ورضي عنه.
والقول الثاني: أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي، رحمه الله،
واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا، والله أعلم. ورواه
أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجرى عن القواعد الأصولية، وأمس بالأصول
الشرعية. واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج، قلت: يا رسول الله،
إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصحيحين.
وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام عن البتع -وهو نبيذ العسل-فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"
أفيقول فقيه: إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء
من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنه عليه
السلام قد أوتي جوامع الكلم.
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله، ليس مما أنهر دمه، فلا
يحل لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء؛ لأنهم
إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذَكَّى؛
ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر، حيث قال: "ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن
ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدى الحبشة". والمستثنى يدل على جنس
المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة، فلا
يبقى فيه دلالة لما ذكرتم.
فالجواب عن هذا: بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا، حيث يقول: "ما أنهر
الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". ولم يقل: "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه
الحكمان معا، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى، وأنه لا بد من
إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا. هذا مسلك.
والمسلك الثاني: طريقة المُزَني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن
قتل بعَرْضِه فلا تأكل، وإن خَزَق فَكُل. والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما
قيد هناك من الخَزْق؛ لأنهما اشتركا في الموجب، وهو الصيد، فيجب الحمل هنا
وإن اختلف السبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان
في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من
حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا. وله
أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه
والجامع أن كلا منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك
بعموم الآية؛ لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة
والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضا.
مسلك آخر، وهو : أن قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو: إما أن يكون نطيحا أو في حكمه، أو منخنقا أو في حكمه، وأيا ما كان فيجب تقديم [حكم] هذه الآية على تلك لوجوه:
أحدها: أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد، حيث يقول لعديّ بن حاتم: "وإن أصابه بعرضه
فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم
من هذه الآية، فقال: إن الوقيذ معتبر حالة الصيد، والنطيح ليس معتبرا،
فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به، وهو محظور عند كثير
من العلماء.
الثاني: أن تلك الآية: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
[ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان
المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق، والعموم
المحفوظ مقدم على غير المحفوظ. .
المسلك الآخر: أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء؛ لأنه قد
احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياسا على الميتة.
المسلك الآخر: أن آية التحريم، أعني قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ ) إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص، وكذا ينبغي أن
تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] [ المائدة : 4 ]
فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك
قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خَزَفه
المِعْرَاض فيكون حلالا؛ لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية
التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل؛ لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية
التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل
في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في
حكمه فلا يكون حلالا.
فإن قيل: فلم لا فَصَّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام؟
فالجواب: أن ذلك نادر؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما
معا، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى
الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي
راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلا من
حكميه مفصلا والله أعلم؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من
الصيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن
يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم
آية التحليل عند كثيرين فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخَعي. وإليه ذهب أبو
حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في
تفسيره عن علي، وسعد، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس: أن الصيد
يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعد، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر،
وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله
القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ
وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله
فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك".
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه.
وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ، حدثنا
عبد العزيز بن موسى-هو اللاحوني-حدثنا محمد بن دينار -هو الطاحي-عن أبي
إياس -وهو معاوية بن قرة-عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد
أكل منه، فليأكل ما بقي ".
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفا
وأما الجمهور فقدموا حديث "عَديّ" على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة
وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه
الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه -والحالة
هذه؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر
منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.
فأما الجوارح من الطير
فنص الشافعي على أنها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم
عند الآخرين. واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور
والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما
يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى
عن ذلك، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في
"الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير
وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب، لنص الشافعي، رحمه
الله على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك، فلا تحل.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.
وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما ( النَّطِيحَةُ ) فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة
في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: كَفٌّ خضيب، وعينٌ كحيل، ولا
يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة: وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل
فيها تاء التأنيث؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقة طويلة.
وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة،
بخلاف: عين كحيل، وكف خضيب؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.
وقوله: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) أي: ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو
نمر، أو ذئب، أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها
الدماء ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما
أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على
المؤمنين.
وقوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) عائد على ما يمكن عوده عليه، مما انعقد
سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله:
( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ )
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ )
يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه، فهو ذكي. وكذا رُوي عن سعيد
بن جبير، والحسن البصري، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا حَفْص بن غياث
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا
مَا ذَكَّيْتُمْ ) قال: إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها، أو
طَرَفَتْ بعينها فكُلْ.
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة
وهي: ما مات من الحيوان حَتْف أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا
لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن
فلهذا حرمها الله، عز وجل، ويستثني من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات
بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما،
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحيهما، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء
البحر، فقال: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته ".
وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: ( وَالدَّمُ ) يعني [به] المسفوح؛ لقوله: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو-يعني
ابن قيس-عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: أنه سئل عن الطحال فقال:
كلوه فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حُرم عليكم الدم المسفوح.
وكذا رواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".
وكذا رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا.
قلت: وثلاثتهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال
أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ
أبو زرعة الرازي: وهو أصح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي
الشوارب، حدثنا بَشير بن سُرَيج، عن أبي غالب، عن أبي أمامة -وهو صُدَيّ
بن عجلان-قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى
الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا
بقَصْعَة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صُديّ، فكل. قال: قلت: ويحكم! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم
هذا عليكم، وأنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية:
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنزيرِ] ) الآية.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد
مثله، وزاد بعد هذا السياق: قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون علي،
فقلت لهم: ويحكم، اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش -قال: وعليّ
عباءتي-فقالوا: لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت
برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال: فأتاني آت في منامي
بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس [شرابا] ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن حُمْشاذ
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري،
حدثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه
وزاد بعد قوله: "بعد تيك الشربة": فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة
قومكم، فلم تَمْجعَوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:
وإيـــاكَ والميتــات لا تقربنَّهــا | ولا تـأخذن عظمًـا حـديدًا فتفصـدا |
الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه،
فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم
فيشربه؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى:
وذا النّصُــب المنصـوبَ لا تَأتينّـه | ولا تعبــد الأصنـام واللـه فـاعبدا |
أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم
في الاحتجاج بقوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا يعنون قوله تعالى: إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ
[ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع
أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون
المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة
العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي،
رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنردَشير
فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع
الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة،
فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويَسْتَصبِحُ بها الناس؟ فقال:
"لا هو حرام".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان: أنه قال لهرقل ملك الروم: "نهانا عن الميتة والدم".
وقوله: ( وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله أوجب أن تذبح
مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من
صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع.
وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه، إما عمدًا أو نسيانا، كما
سيأتي تقريره في سورة الأنعام.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني، حدثنا نعيم بن
حماد، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْل قال: نزل
آدم بتحريم أربع: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وإن
هذه الأربعة الأشياء
لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو
إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن
مريم، عليه السلام، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [عليه السلام] وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه. وهذا أثر غريب.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي بن
عبد الله قال: سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة -قال: هو جدي-قال: كان رجل من
بني رَيَاح
يقال له: ابن وَثَيِل، وكان شاعرا، نافر-غالبا-أبا الفرزدق بماء بظهر
الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، وهذا مائة من إبله، إذا وردت الماء،
فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها. قال:
فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم -قال: وعَليٌّ بالكوفة-قال:
فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا
أيها الناس، لا تأكلوا من لحومها فإنما أهل بها لغير الله.
هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن أبي رَيْحانة، عن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب.
ثم قال أبو داود: محمد بن جعفر -هو غُنْدَر-أوقفه على ابن عباس. تفرد به أبو داود
وقال أبو داود أيضا: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي،
حدثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت قال: سمعت عِكْرِمة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
ثم قال أبو داود: أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. تفرد به أيضا.
وقوله: ( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا، بأن تَتَخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام.
وأما ( الْمَوْقُوذَةُ ) فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت،
كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها فتموت.
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصحيح: أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض
الصيد فأصيب. قال: "إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه، وإن أصابه بعَرْضِه
فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله".
ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصابه
بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا،
واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين،
هما قولان للشافعي، رحمه الله:
أحدهما: [ أنه] لا يحل، كما في السهم، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.
والثاني: أنه يحل؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على
إباحة ما ذكرناه؛ لأنه قد دخل في العموم. وقد قررت لهذه المسألة فصلا
فليكتب هاهنا. .
فصل :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحل أم لا ؟ على قولين:
أحدهما: أن ذلك حلال؛ لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي بن حاتم. وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي، رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين [منهم] كالنووي والرافعي.
قلت: وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا
الموضعين: "يحتمل معنيين". ثم وجه كلا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه
فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل
رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحل، نقله
ابن الصباغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زياد، عنه، ولم يذكر غير ذلك
وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي، وأبي هريرة، وسعد
بن أبي وقاص، وابن عمر. وهذا غريب جدًا، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم، إلا
أنه من تصرفه، رحمه الله ورضي عنه.
والقول الثاني: أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي، رحمه الله،
واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا، والله أعلم. ورواه
أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجرى عن القواعد الأصولية، وأمس بالأصول
الشرعية. واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج، قلت: يا رسول الله،
إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصحيحين.
وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام عن البتع -وهو نبيذ العسل-فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"
أفيقول فقيه: إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء
من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنه عليه
السلام قد أوتي جوامع الكلم.
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله، ليس مما أنهر دمه، فلا
يحل لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء؛ لأنهم
إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذَكَّى؛
ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر، حيث قال: "ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن
ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدى الحبشة". والمستثنى يدل على جنس
المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة، فلا
يبقى فيه دلالة لما ذكرتم.
فالجواب عن هذا: بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا، حيث يقول: "ما أنهر
الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". ولم يقل: "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه
الحكمان معا، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى، وأنه لا بد من
إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا. هذا مسلك.
والمسلك الثاني: طريقة المُزَني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن
قتل بعَرْضِه فلا تأكل، وإن خَزَق فَكُل. والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما
قيد هناك من الخَزْق؛ لأنهما اشتركا في الموجب، وهو الصيد، فيجب الحمل هنا
وإن اختلف السبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان
في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من
حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا. وله
أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه
والجامع أن كلا منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك
بعموم الآية؛ لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة
والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضا.
مسلك آخر، وهو : أن قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو: إما أن يكون نطيحا أو في حكمه، أو منخنقا أو في حكمه، وأيا ما كان فيجب تقديم [حكم] هذه الآية على تلك لوجوه:
أحدها: أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد، حيث يقول لعديّ بن حاتم: "وإن أصابه بعرضه
فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم
من هذه الآية، فقال: إن الوقيذ معتبر حالة الصيد، والنطيح ليس معتبرا،
فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به، وهو محظور عند كثير
من العلماء.
الثاني: أن تلك الآية: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
[ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان
المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق، والعموم
المحفوظ مقدم على غير المحفوظ. .
المسلك الآخر: أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء؛ لأنه قد
احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياسا على الميتة.
المسلك الآخر: أن آية التحريم، أعني قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ ) إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص، وكذا ينبغي أن
تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] [ المائدة : 4 ]
فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك
قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خَزَفه
المِعْرَاض فيكون حلالا؛ لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية
التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل؛ لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية
التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل
في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في
حكمه فلا يكون حلالا.
فإن قيل: فلم لا فَصَّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام؟
فالجواب: أن ذلك نادر؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما
معا، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى
الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي
راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلا من
حكميه مفصلا والله أعلم؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من
الصيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن
يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم
آية التحليل عند كثيرين فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخَعي. وإليه ذهب أبو
حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في
تفسيره عن علي، وسعد، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس: أن الصيد
يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعد، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر،
وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله
القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ
وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله
فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك".
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه.
وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ، حدثنا
عبد العزيز بن موسى-هو اللاحوني-حدثنا محمد بن دينار -هو الطاحي-عن أبي
إياس -وهو معاوية بن قرة-عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد
أكل منه، فليأكل ما بقي ".
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفا
وأما الجمهور فقدموا حديث "عَديّ" على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة
وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه
الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه -والحالة
هذه؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر
منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.
فأما الجوارح من الطير
فنص الشافعي على أنها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم
عند الآخرين. واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور
والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما
يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى
عن ذلك، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في
"الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير
وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب، لنص الشافعي، رحمه
الله على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك، فلا تحل.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.
وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما ( النَّطِيحَةُ ) فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة
في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: كَفٌّ خضيب، وعينٌ كحيل، ولا
يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة: وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل
فيها تاء التأنيث؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقة طويلة.
وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة،
بخلاف: عين كحيل، وكف خضيب؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.
وقوله: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) أي: ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو
نمر، أو ذئب، أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها
الدماء ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما
أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على
المؤمنين.
وقوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) عائد على ما يمكن عوده عليه، مما انعقد
سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله:
( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ )
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ )
يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه، فهو ذكي. وكذا رُوي عن سعيد
بن جبير، والحسن البصري، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا حَفْص بن غياث
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا
مَا ذَكَّيْتُمْ ) قال: إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها، أو
طَرَفَتْ بعينها فكُلْ.
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى