الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم،
حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن
الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك
يدًا أو رجلا فكلها.
وهكذا رُوي عن طاوس، والحسن، وقتادة وعُبَيد بن عُمير، والضحاك وغير
واحد: أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي
حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب: سُئل مالك عن الشاة
التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك: لا أرى أن تذكى
أيّ شيء يُذَكَّى منها.
وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ قال إن كان قد بلغ السُّحْرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدق ظهره؟ فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.
هذا مذهب مالك، رحمه الله، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك، رحمه
الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى
دليل مخصص للآية، والله أعلم.
وفي الصحيحين: عن رافع بن خَدِيج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو
العدو غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب؟ فقال: "ما أنهر الدم وذكر
اسم الله عليه فكلوه، ليس السنُّ والظَّفُر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن
فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [عن أبي هريرة] مرفوعا، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفا، وهو أصح "ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق".
وفي
الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية حماد بن سلمة، عن أبي
العشراء الدارمي، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من
اللبة والحلق؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما [لم] يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) قال مجاهد وابن جُرَيْج كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال
ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصبا، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها،
وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه
على النصب.
وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ )
أي: حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام: واحدها: زُلَم، وقد تفتح
الزاي، فيقال: زَلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة
عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: "افعل" وعلى الآخر: "لا تفعل" والثالث
"غُفْل ليس عليه شيء. ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: "أمرني ربي"
وعلى الآخر: "نهاني ربي". والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله، أو الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.]
والاستقسام: مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن
محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال: والأزلام: قداح كانوا يستقسمون بها في
الأمور.
وكذا روي عن مجاهد، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن البصري، ومُقَاتِل بن حَيَّان.
وقال ابن عباس: هي القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور. وذكر محمد بن
إسحاق وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له: هُبَل، وكان داخل
الكعبة، منصوب على بئر فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده
سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها
رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد
إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله،
لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا."
وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت
بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم قال: فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رَقَبةَ، عن عبد الملك
بن عُمَيْر، عن رَجاء بن حَيْوَة، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر
طائرًا".
وقال مجاهد في قوله: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم
إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة، وفي القمار أخرى،
والله أعلم. فإن الله سبحانه [وتعالى] قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السورة: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ[فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ] منتهون
[ الآيتان :90، 91 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) أي: تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك، وقد
أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثم يسألوه
الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل
السنن، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن
جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة
كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: "إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع
ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ،
وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم؛ فإنك تَقْدِر ولا
أقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم، وأنت عَلام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم هذا الأمر -ويسميه باسمه-خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي وبارك لي فيه، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري، فاصْرِفْنِي عنه، واصرفه عنِّي، واقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به". لفظ أحمد.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
قوله: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم..
وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان. وعلى هذا المعنى يرد
الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحْرِيش بينهم".
ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميز به
المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده
المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، ولا يخافوا أحدا إلا الله،
فقال: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم
إياهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم،
وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) هذه أكبر نعم
الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى
دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله
خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام
إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه
ولا خُلْف، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام : 115 ] أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ؛ ولهذا قال [تعالى](
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين
الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه
قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا
ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا.
وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة، فلم ينزل بعدها حلال
ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عُمَيس:
حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ
تَجلَّى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق
الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا
كان علي.
قال ابن جُرَيْج وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
رواهما
ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن فُضَيْل، عن هارون بن
عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )
وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما
يبكيك؟" قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذْ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: "صدقت".
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعود غريبا، فَطُوبَى للغُرَبَاء".
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عَوْن، حدثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن
مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [رضي
الله عنه]
فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود
نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال قوله: ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) فقال عمر: والله إني لأعلم
اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت
فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة.
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون، به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي، من طرق عن قيس بن مسلم، به
ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق
قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت
وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة
-قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) الآية.
وشك سفيان، رحمه الله، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ، حيث شك هل
أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم
جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري، رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع
به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في
ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من
غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا
رَجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق -قال أبو
جعفر بن جرير: هو إسحاق بن خَرَشة-عن قَبِيصة -يعني ابن ذُؤيب-قال: قال
كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت
فيه عليهم، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: (
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال عمر: قد علمت اليوم الذي
أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا قَبيصة، حدثنا حماد بن سلمة،
عن عمار-هو مولى بني هاشم-أن ابن عباس قرأ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِينًا ) فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال
ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة.
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا
يحيى بن الحُمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سَلْمان، عن أبي
عمر البَزّار، عن ابن الحنفية ، عن علي [رضي الله عنه] قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني، حدثنا هشام
بن عمار، حدثنا ابن عياش، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن
أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة.
وروى ابن مَرْدُويه، من طريق محمد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن
قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة قال: نزلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِينًا ) يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على
الموقف.
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة، عن
خالد بن أبي عمران، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد
نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، [ونبئ يوم الاثنين]
وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة
يوم الاثنين: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ورفع الذكر يوم
الاثنين، فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف.
وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهيعة، عن خالد
بن أبي عمران، عن حَنَش الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى
المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين.
هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم، فاشتبه على الراوي، والله أعلم.
[و]
قال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق
العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
) يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس.
قلت: وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي، عن أبي سعيد
الخدري؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم حين قال لعلي: "من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.
ولا يصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا
مرية: أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان،
وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسَمُرَة بن جندب، رضي الله عنهم، وأرسله
[عامر] الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري، رحمه الله.
وقوله: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه
المحرمات التي ذكرها تعالى
لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى
يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي
المسند وصحيح ابن حبَّان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته" لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة".
ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، و [قد]
يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به
الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب
الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا
وهو محرم: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام
ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله. وليس من شرط جواز
تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من
العوام
وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد
بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم
قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تَصْطَبِحوا، ولم تَغْتَبِقُوا، ولم تَجتفئوا بقْلا فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه
ابن جرير، عن عبد الأعلى بن واصل، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي
به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد -أو أبي مرثد-عن أبي واقد، به
ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسي بن يونس، عن حسان، عن رجل قد
سمي له، فذكره. ورواه أيضا عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان،
مرسلا
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عَوْن
قال: وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة، فقرأته عليه، فكان فيه: "ويُجزي من
الأضرار غَبُوق أو صبوح ".
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا هُشَيْم، عن الخَصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [إلى] متى يحل [لي] الحرام؟ قال: فقال: "إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم ".
حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته
؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم
الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحِلُّ لك
الطيبات، وتَحْرُم عليك الخبائث
إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه".
فقال الرجل: وما فَقْرِي الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت ترجو نِتَاجًا، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك
إلى نتاجك، أو كنت ترجو غِنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئا، فأطعم أهلك ما
بدا لك حتى تستغني عنه". فقال الأعرابي: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال
[النبي]
صلى الله عليه وسلم: "إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل، فاجتنب ما حرم
الله عليك من طعام، وأما مالك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام".
ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها" [أي] فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا [بقلا] على أربعة أوجه: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التفسير.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ما يحل لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟" قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فَسَّرَه لي عقبة: قدح غُدوة، وقدح عَشيَّة قال: "ذَاكَ وأبي الجُوعُ". وأحل لهم الميتة على هذه الحال.
تفرد به أبو داود
وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام
كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد
ذلك بسد الرَّمَق، والله أعلم.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا
سماك، عن جابر بن سَمُرَة، أن رجلا نزل الحَرَّةَ، ومعه أهله وولده، فقال
له رجل: إن ناقة لي ضَلَّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها،
فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فَنَفَقَتْ، فقالت له امرأته: اسلخها
حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنًى يُغْنِيك؟" قال: لا. قال: "
فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.
تفرد به وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.
وقوله: ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ ) أي: [غير] مُتَعَاطٍ لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.
يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (4)
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها،
إما في بَدَنِه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [ الأنعام : 119 ] قال بعدها: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) كما [قال] في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [ الآية : 157 ] .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن
بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن
جُبَيْر، عن عَدِيّ بن حاتم، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين
سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، قد حرم الله
الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) قال سعيد [بن جبير] يعني: الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: [بن حيان] [ في قوله: ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات.
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وَهْبٍ: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال: ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) أي:
أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما
اصطدتموه
بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور
من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك: علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس في قوله: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) وهن الكلاب المعلمة والبازي، وكل طير يعلم للصيد والجوارح: يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
رواه ابن أبى حاتم، ثم قال: وروي عن خَيْثَمَة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول،
ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من
الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير
كله، وقرأ قول الله [عز وجل] ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي، ثم قال: حدثنا هَنَّاد، حدثنا ابن
أبي زائدة، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال: أما ما صاد من
الطير البُزاة وغيرها من الطير، فما أدركتَ فهو لك، وإلا فلا تطعمه.
قلت: والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا
مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن
هناد، حدثنا عيسي بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فَكُلْ".
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل
اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فقلت: ما بال
الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بَهِيم".
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن: جوارح، من الجرح، وهو: الكسب. كما تقول العرب: فلان جَرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. ويقولون: فلان لا جارح له، أي: لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [ الأنعام : 60 ] أي: ما كسبتم من خير وشر.
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني
أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل
الكلاب، فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة
التي أمرت
بقتلها؟ قال: فسكت، فأنزل الله: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ ) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسل الرجل
كلبه وسَمَّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل ".
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن
عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله. قال: أجل، ولكنا لا ندخل
بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت، حتى
انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا
فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال:
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: (
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق، عن أبَان بن صالح، به. وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرَمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، حتى بلغ العَوالي فدخل
عاصم بن عَدِيٍّ، وسعد بن خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل
لنا يا رسول الله؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ ) [الآية]
ورواه الحاكم من طريق سِمَاك، عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية: إنه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في (
عَلَّمْتُمْ ) فيكون حالا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (
الْجَوَارِحِ ) أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد،
وذلك أن تقتنصه [الجوارح] بمخالبها أو أظفارها
فيستدل بذلك -والحالة هذه-على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه
وظفره أنه لا يحل، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء؛ ولهذا قال:
( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) وهو أنه إذا أرسله
استرسل، وإذا أشلاه استشلى
وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال
تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في
الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب
المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله،
فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم يشركها كلب
ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". قلت له: فإني أرمي
بالمِعْرَاض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فَخَزق
فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكله". وفي لفظ لهما: "إذا
أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته
قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاته". وفي رواية لهما: "فإن
أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه." فهذا دليل للجمهور
وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا،
ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا
يحرم مطلقا.
ذكر الآثار بذلك:
قال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا وَكِيع، عن شُعْبَة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه -يعني الصيد-إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة، وعمر بن عامر، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان.
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ والقاسم؛ أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم الدؤلي؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة -يعني: [إلا] بضعة.
ورواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشَجِّ، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المُثَنَّى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن
عامر، عن أبي هريرة قال: لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه
فكل.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المُعْتَمِر قال: سمعت عُبَيد الله وحدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر-عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، عن نافع.
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر.
وهو محكي عن علي، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء، والحسن البصري. وهو قول
الزهري، وربيعة، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم، وأومأ إليه في
الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا، فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن
بَكَّار الكُلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن
دينار -هو الطاحي-عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة، عن سعيد بن المسيَّب، عن
سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه
على الصيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي ".
ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع.
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه
أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيْع،
حدثنا حبيب المعلم، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا -يقال
له: أبو ثعلبة-قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبة، فأفتني في
صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما
أمسكن عليك". فقال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "نعم". قال: وإن أكل منه؟ قال:
"نعم، وإن أكل منه". قال: يا رسول الله، أفتني في قوسي. فقال: "كُلْ ما ردت
عليك قوسك" قال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه
أثر غير سهمك". قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال:
"اغسلها وكل فيها". .
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود، من طريق بُسْر بن عبيد الله
عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك
يدك"
وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري، عن سِماك بن حَرْب، عن عَدِيٍّ
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من كلب ضار أمسك عليك،
فكل". قلت: وإن أكل؟ قال: "نعم".
وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عَدي مثله.
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتج بها من لم
يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدم عمن حكيناه عنهم، وقد توسط
آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة
التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف
أن يكون أمسك على نفسه" وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع
فأكل من الصيد لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي
ثعلبة الخُشَنِيّ، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى
الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا
التفصيل، وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب
منهم، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم
لحديث عَدِيّ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا
بالأكل.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن
إبراهيم، عن ابن عباس؛ أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب
إذا ضربته لم يَعُدْ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا
أكل من الصيد ونتف الريش فكل.
وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان.
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا
المحاربي، حدثنا مُجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول
الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحل لنا منها؟ قال: "يحل لكم ما
علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم،
واذكروا اسم الله عليه" ثم قال: "ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه، فكل
مما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل، ما لم يأكل". قلت: يا رسول
الله، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال: فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو
الذي أمسك". قال: قلت: إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: "ما ذكرت اسم الله
عليه وخزَقَتْ فكل ".
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدل على التفرقة بينهما في الحكم، والله أعلم.
وقوله: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْس
حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن
الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك
يدًا أو رجلا فكلها.
وهكذا رُوي عن طاوس، والحسن، وقتادة وعُبَيد بن عُمير، والضحاك وغير
واحد: أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي
حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب: سُئل مالك عن الشاة
التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك: لا أرى أن تذكى
أيّ شيء يُذَكَّى منها.
وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ قال إن كان قد بلغ السُّحْرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدق ظهره؟ فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.
هذا مذهب مالك، رحمه الله، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك، رحمه
الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى
دليل مخصص للآية، والله أعلم.
وفي الصحيحين: عن رافع بن خَدِيج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو
العدو غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب؟ فقال: "ما أنهر الدم وذكر
اسم الله عليه فكلوه، ليس السنُّ والظَّفُر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن
فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [عن أبي هريرة] مرفوعا، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفا، وهو أصح "ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق".
وفي
الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية حماد بن سلمة، عن أبي
العشراء الدارمي، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من
اللبة والحلق؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما [لم] يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) قال مجاهد وابن جُرَيْج كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال
ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصبا، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها،
وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه
على النصب.
وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ )
أي: حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام: واحدها: زُلَم، وقد تفتح
الزاي، فيقال: زَلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة
عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: "افعل" وعلى الآخر: "لا تفعل" والثالث
"غُفْل ليس عليه شيء. ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: "أمرني ربي"
وعلى الآخر: "نهاني ربي". والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله، أو الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.]
والاستقسام: مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن
محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال: والأزلام: قداح كانوا يستقسمون بها في
الأمور.
وكذا روي عن مجاهد، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن البصري، ومُقَاتِل بن حَيَّان.
وقال ابن عباس: هي القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور. وذكر محمد بن
إسحاق وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له: هُبَل، وكان داخل
الكعبة، منصوب على بئر فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده
سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها
رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد
إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله،
لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا."
وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت
بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم قال: فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رَقَبةَ، عن عبد الملك
بن عُمَيْر، عن رَجاء بن حَيْوَة، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر
طائرًا".
وقال مجاهد في قوله: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم
إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة، وفي القمار أخرى،
والله أعلم. فإن الله سبحانه [وتعالى] قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السورة: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ[فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ] منتهون
[ الآيتان :90، 91 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) أي: تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك، وقد
أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثم يسألوه
الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل
السنن، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن
جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة
كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: "إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع
ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ،
وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم؛ فإنك تَقْدِر ولا
أقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم، وأنت عَلام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم هذا الأمر -ويسميه باسمه-خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي وبارك لي فيه، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري، فاصْرِفْنِي عنه، واصرفه عنِّي، واقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به". لفظ أحمد.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
قوله: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم..
وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان. وعلى هذا المعنى يرد
الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحْرِيش بينهم".
ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميز به
المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده
المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، ولا يخافوا أحدا إلا الله،
فقال: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم
إياهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم،
وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) هذه أكبر نعم
الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى
دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله
خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام
إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه
ولا خُلْف، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام : 115 ] أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ؛ ولهذا قال [تعالى](
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين
الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه
قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا
ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا.
وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة، فلم ينزل بعدها حلال
ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عُمَيس:
حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ
تَجلَّى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق
الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا
كان علي.
قال ابن جُرَيْج وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
رواهما
ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن فُضَيْل، عن هارون بن
عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )
وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما
يبكيك؟" قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذْ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: "صدقت".
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعود غريبا، فَطُوبَى للغُرَبَاء".
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عَوْن، حدثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن
مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [رضي
الله عنه]
فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود
نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال قوله: ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) فقال عمر: والله إني لأعلم
اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت
فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة.
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون، به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي، من طرق عن قيس بن مسلم، به
ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق
قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت
وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة
-قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) الآية.
وشك سفيان، رحمه الله، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ، حيث شك هل
أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم
جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري، رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع
به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في
ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من
غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا
رَجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق -قال أبو
جعفر بن جرير: هو إسحاق بن خَرَشة-عن قَبِيصة -يعني ابن ذُؤيب-قال: قال
كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت
فيه عليهم، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: (
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال عمر: قد علمت اليوم الذي
أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا قَبيصة، حدثنا حماد بن سلمة،
عن عمار-هو مولى بني هاشم-أن ابن عباس قرأ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِينًا ) فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال
ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة.
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا
يحيى بن الحُمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سَلْمان، عن أبي
عمر البَزّار، عن ابن الحنفية ، عن علي [رضي الله عنه] قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني، حدثنا هشام
بن عمار، حدثنا ابن عياش، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن
أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ) حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة.
وروى ابن مَرْدُويه، من طريق محمد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن
قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة قال: نزلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِينًا ) يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على
الموقف.
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة، عن
خالد بن أبي عمران، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد
نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، [ونبئ يوم الاثنين]
وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة
يوم الاثنين: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ورفع الذكر يوم
الاثنين، فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف.
وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهيعة، عن خالد
بن أبي عمران، عن حَنَش الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى
المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين.
هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم، فاشتبه على الراوي، والله أعلم.
[و]
قال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق
العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
) يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس.
قلت: وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي، عن أبي سعيد
الخدري؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم حين قال لعلي: "من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.
ولا يصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا
مرية: أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان،
وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسَمُرَة بن جندب، رضي الله عنهم، وأرسله
[عامر] الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري، رحمه الله.
وقوله: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه
المحرمات التي ذكرها تعالى
لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى
يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي
المسند وصحيح ابن حبَّان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته" لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة".
ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، و [قد]
يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به
الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب
الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا
وهو محرم: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام
ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله. وليس من شرط جواز
تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من
العوام
وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد
بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم
قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تَصْطَبِحوا، ولم تَغْتَبِقُوا، ولم تَجتفئوا بقْلا فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه
ابن جرير، عن عبد الأعلى بن واصل، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي
به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد -أو أبي مرثد-عن أبي واقد، به
ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسي بن يونس، عن حسان، عن رجل قد
سمي له، فذكره. ورواه أيضا عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان،
مرسلا
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عَوْن
قال: وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة، فقرأته عليه، فكان فيه: "ويُجزي من
الأضرار غَبُوق أو صبوح ".
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا هُشَيْم، عن الخَصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [إلى] متى يحل [لي] الحرام؟ قال: فقال: "إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم ".
حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته
؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم
الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحِلُّ لك
الطيبات، وتَحْرُم عليك الخبائث
إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه".
فقال الرجل: وما فَقْرِي الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت ترجو نِتَاجًا، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك
إلى نتاجك، أو كنت ترجو غِنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئا، فأطعم أهلك ما
بدا لك حتى تستغني عنه". فقال الأعرابي: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال
[النبي]
صلى الله عليه وسلم: "إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل، فاجتنب ما حرم
الله عليك من طعام، وأما مالك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام".
ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها" [أي] فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا [بقلا] على أربعة أوجه: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التفسير.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ما يحل لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟" قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فَسَّرَه لي عقبة: قدح غُدوة، وقدح عَشيَّة قال: "ذَاكَ وأبي الجُوعُ". وأحل لهم الميتة على هذه الحال.
تفرد به أبو داود
وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام
كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد
ذلك بسد الرَّمَق، والله أعلم.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا
سماك، عن جابر بن سَمُرَة، أن رجلا نزل الحَرَّةَ، ومعه أهله وولده، فقال
له رجل: إن ناقة لي ضَلَّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها،
فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فَنَفَقَتْ، فقالت له امرأته: اسلخها
حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنًى يُغْنِيك؟" قال: لا. قال: "
فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.
تفرد به وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.
وقوله: ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ ) أي: [غير] مُتَعَاطٍ لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.
يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (4)
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها،
إما في بَدَنِه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [ الأنعام : 119 ] قال بعدها: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) كما [قال] في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [ الآية : 157 ] .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن
بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن
جُبَيْر، عن عَدِيّ بن حاتم، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين
سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، قد حرم الله
الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) قال سعيد [بن جبير] يعني: الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: [بن حيان] [ في قوله: ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات.
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وَهْبٍ: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال: ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) أي:
أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما
اصطدتموه
بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور
من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك: علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس في قوله: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) وهن الكلاب المعلمة والبازي، وكل طير يعلم للصيد والجوارح: يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
رواه ابن أبى حاتم، ثم قال: وروي عن خَيْثَمَة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول،
ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من
الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير
كله، وقرأ قول الله [عز وجل] ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي، ثم قال: حدثنا هَنَّاد، حدثنا ابن
أبي زائدة، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال: أما ما صاد من
الطير البُزاة وغيرها من الطير، فما أدركتَ فهو لك، وإلا فلا تطعمه.
قلت: والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا
مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن
هناد، حدثنا عيسي بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فَكُلْ".
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل
اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فقلت: ما بال
الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بَهِيم".
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن: جوارح، من الجرح، وهو: الكسب. كما تقول العرب: فلان جَرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. ويقولون: فلان لا جارح له، أي: لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [ الأنعام : 60 ] أي: ما كسبتم من خير وشر.
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني
أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل
الكلاب، فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة
التي أمرت
بقتلها؟ قال: فسكت، فأنزل الله: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ ) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسل الرجل
كلبه وسَمَّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل ".
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن
عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله. قال: أجل، ولكنا لا ندخل
بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت، حتى
انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا
فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال:
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: (
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق، عن أبَان بن صالح، به. وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرَمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، حتى بلغ العَوالي فدخل
عاصم بن عَدِيٍّ، وسعد بن خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل
لنا يا رسول الله؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ ) [الآية]
ورواه الحاكم من طريق سِمَاك، عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية: إنه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في (
عَلَّمْتُمْ ) فيكون حالا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (
الْجَوَارِحِ ) أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد،
وذلك أن تقتنصه [الجوارح] بمخالبها أو أظفارها
فيستدل بذلك -والحالة هذه-على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه
وظفره أنه لا يحل، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء؛ ولهذا قال:
( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) وهو أنه إذا أرسله
استرسل، وإذا أشلاه استشلى
وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال
تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في
الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب
المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله،
فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم يشركها كلب
ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". قلت له: فإني أرمي
بالمِعْرَاض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فَخَزق
فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكله". وفي لفظ لهما: "إذا
أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته
قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاته". وفي رواية لهما: "فإن
أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه." فهذا دليل للجمهور
وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا،
ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا
يحرم مطلقا.
ذكر الآثار بذلك:
قال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا وَكِيع، عن شُعْبَة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه -يعني الصيد-إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة، وعمر بن عامر، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان.
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ والقاسم؛ أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم الدؤلي؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة -يعني: [إلا] بضعة.
ورواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشَجِّ، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المُثَنَّى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن
عامر، عن أبي هريرة قال: لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه
فكل.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المُعْتَمِر قال: سمعت عُبَيد الله وحدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر-عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، عن نافع.
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر.
وهو محكي عن علي، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء، والحسن البصري. وهو قول
الزهري، وربيعة، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم، وأومأ إليه في
الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا، فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن
بَكَّار الكُلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن
دينار -هو الطاحي-عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة، عن سعيد بن المسيَّب، عن
سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه
على الصيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي ".
ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع.
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه
أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيْع،
حدثنا حبيب المعلم، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا -يقال
له: أبو ثعلبة-قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبة، فأفتني في
صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما
أمسكن عليك". فقال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "نعم". قال: وإن أكل منه؟ قال:
"نعم، وإن أكل منه". قال: يا رسول الله، أفتني في قوسي. فقال: "كُلْ ما ردت
عليك قوسك" قال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه
أثر غير سهمك". قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال:
"اغسلها وكل فيها". .
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود، من طريق بُسْر بن عبيد الله
عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك
يدك"
وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري، عن سِماك بن حَرْب، عن عَدِيٍّ
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من كلب ضار أمسك عليك،
فكل". قلت: وإن أكل؟ قال: "نعم".
وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عَدي مثله.
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتج بها من لم
يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدم عمن حكيناه عنهم، وقد توسط
آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة
التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف
أن يكون أمسك على نفسه" وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع
فأكل من الصيد لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي
ثعلبة الخُشَنِيّ، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى
الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا
التفصيل، وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب
منهم، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم
لحديث عَدِيّ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا
بالأكل.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن
إبراهيم، عن ابن عباس؛ أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب
إذا ضربته لم يَعُدْ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا
أكل من الصيد ونتف الريش فكل.
وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان.
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا
المحاربي، حدثنا مُجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول
الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحل لنا منها؟ قال: "يحل لكم ما
علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم،
واذكروا اسم الله عليه" ثم قال: "ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه، فكل
مما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل، ما لم يأكل". قلت: يا رسول
الله، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال: فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو
الذي أمسك". قال: قلت: إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: "ما ذكرت اسم الله
عليه وخزَقَتْ فكل ".
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدل على التفرقة بينهما في الحكم، والله أعلم.
وقوله: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْس
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى