الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
وَقَفَّيْنَا
عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ
أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
يقول تعالى: "وَقَفَّيْنَا" أي: أتبعنا ( عَلَى آثَارِهِمْ ) يعني: أنبياء بني إسرائيل [عليه السلام]
( بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ ) أي: مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها ( وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ
فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات
وحل المشكلات. ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ )
أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل
بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني
إسرائيل: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة.
وقوله: ( وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) أي: وجعلنا الإنجيل ( هُدًى ) يهتدى به، ( وَمَوْعِظَةً ) أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله: ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فِيهِ )
قُرئ ( وَلْيَحْكُمْ ) بالنصب على أن اللام لام كي، أي: وآتيناه الإنجيل [فيه هدى ونور] ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ: ( وَلْيَحْكُمْ ) بالجزم اللام لام الأمر، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [المائدة: 68] وقال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ] الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]؛ ولهذا
قال هاهنا: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل،
التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نـزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق.
وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
لما ذكر تعالى التوراة التي أنـزلها الله على موسى كليمه [عليه السلام] ومدحها وأثنى عليها، وأمر
باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته
واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي
أنـزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ ) أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ( مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة
ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينـزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم، فكان نـزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي
البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله،
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [الإسراء:107، 108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، لَمَفْعُولا أي: لكائنًا لا محالة ولا بد.
وقوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي
إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي: مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة،
عن ابن عباس: المهيمن: الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله.
وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية،
والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك.
وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي، عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي: شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله،
فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي
أنـزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها
حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله
شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة،
فقال [تعالى] إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني،
وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )
يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى،
ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنـزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر.
وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد:
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في
كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن "المهيمن" عطف على "المصدق"، فلا يكون إلا
من صفة ما كان "المصدق" صفة له. قال: ولو كان كما قال مجاهد لقال:
"وأنـزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه". يعني
من غير عطف.
وقوله: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) أي: فاحكم يا
محمد بين الناس: عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم ( بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ )
إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا
عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض
عنهم. فردهم إلى أحكامهم، فنـزلت: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) فأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) أي: آراءهم التي اصطلحوا
عليها، وتركوا بسببها ما أنـزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: ( وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي: لا تنصرف عن
الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.
وقوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي
إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً ) قال: سبيلا.
وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن
ابن عباس: ( وَمِنْهَاجًا ) قال: وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس:
( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سبيلا وسنة.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك،
والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله: ( شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا وسنة.
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه: ( شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا ) أي: سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا،
هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: "شرع في كذا" أي: ابتدأ فيه. وكذا
الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما "المنهاج": فهو الطريق الواضح
السهل، والسنن: الطرائق، فتفسير قوله: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) بالسبيل
والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله
الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في
صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر
الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنـزله، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
الآية [النحل: 36]، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون
الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا
فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة
البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة: هي في
التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما
يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله
غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.
وقيل: المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا ) القرآن (
مِنْكُمْ ) أيتها الأمة ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: هو لكم كلكم، تقتدون
به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ) أي:
جعلناه، يعني القرآن، ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا إلى المقاصد
الصحيحة، وسنة أي: طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.
هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله، والصحيح القول الأول،
ويدل على ذلك قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً ) فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول: ( وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب
لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع
الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع
لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده
حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي
ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى: (
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة،
ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما
فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.
وقال عبد الله بن كثير: ( فِي مَا آتَاكُمْ ) يعني: من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: (
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا
لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنـزله.
ثم قال تعالى: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: معادكم أيها
الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ ) أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين
بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره
بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة،
والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.
وقوله: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه.
ثم قال [تعالى]
( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ
إِلَيْكَ ) أي: احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه
إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. ( فَإِنْ
تَوَلَّوْا ) أي: عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله ( فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) أي:
فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم
من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق
ناؤون عنه، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]. وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية] [الأنعام: 116].
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني
سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد
الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا
إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا
أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا،
وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك،
ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله، عز وجل،
فيهم: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله: ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) رواه ابن جرير، وابن
أبي حاتم.
وقوله: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله
المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء
والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما
كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق
وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية
والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره
وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع
إلى حكم الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] فلا يحكم سواه
في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه
لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم
بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية [هو]
وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي
نَجِيح قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضِّل بين ولدي في النحْل؟ قرأ: (
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] )
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة
الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد
الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله، عز وجل ومبتغ في
الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه". وروى البخاري،
عن أبي اليمان بإسناده نحوه.
عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ
أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
يقول تعالى: "وَقَفَّيْنَا" أي: أتبعنا ( عَلَى آثَارِهِمْ ) يعني: أنبياء بني إسرائيل [عليه السلام]
( بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ ) أي: مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها ( وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ
فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات
وحل المشكلات. ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ )
أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل
بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني
إسرائيل: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة.
وقوله: ( وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) أي: وجعلنا الإنجيل ( هُدًى ) يهتدى به، ( وَمَوْعِظَةً ) أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله: ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فِيهِ )
قُرئ ( وَلْيَحْكُمْ ) بالنصب على أن اللام لام كي، أي: وآتيناه الإنجيل [فيه هدى ونور] ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ: ( وَلْيَحْكُمْ ) بالجزم اللام لام الأمر، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [المائدة: 68] وقال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ] الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]؛ ولهذا
قال هاهنا: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل،
التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نـزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق.
وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
لما ذكر تعالى التوراة التي أنـزلها الله على موسى كليمه [عليه السلام] ومدحها وأثنى عليها، وأمر
باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته
واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي
أنـزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ ) أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ( مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة
ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينـزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم، فكان نـزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي
البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله،
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [الإسراء:107، 108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، لَمَفْعُولا أي: لكائنًا لا محالة ولا بد.
وقوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي
إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي: مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة،
عن ابن عباس: المهيمن: الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله.
وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية،
والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك.
وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي، عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي: شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله،
فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي
أنـزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها
حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله
شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة،
فقال [تعالى] إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني،
وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )
يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى،
ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنـزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر.
وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد:
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في
كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن "المهيمن" عطف على "المصدق"، فلا يكون إلا
من صفة ما كان "المصدق" صفة له. قال: ولو كان كما قال مجاهد لقال:
"وأنـزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه". يعني
من غير عطف.
وقوله: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) أي: فاحكم يا
محمد بين الناس: عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم ( بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ )
إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا
عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض
عنهم. فردهم إلى أحكامهم، فنـزلت: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) فأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) أي: آراءهم التي اصطلحوا
عليها، وتركوا بسببها ما أنـزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: ( وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي: لا تنصرف عن
الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.
وقوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي
إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً ) قال: سبيلا.
وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن
ابن عباس: ( وَمِنْهَاجًا ) قال: وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس:
( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سبيلا وسنة.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك،
والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله: ( شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا وسنة.
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه: ( شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا ) أي: سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا،
هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: "شرع في كذا" أي: ابتدأ فيه. وكذا
الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما "المنهاج": فهو الطريق الواضح
السهل، والسنن: الطرائق، فتفسير قوله: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) بالسبيل
والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله
الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في
صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر
الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنـزله، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
الآية [النحل: 36]، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون
الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا
فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة
البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة: هي في
التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما
يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله
غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.
وقيل: المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا ) القرآن (
مِنْكُمْ ) أيتها الأمة ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: هو لكم كلكم، تقتدون
به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ) أي:
جعلناه، يعني القرآن، ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا إلى المقاصد
الصحيحة، وسنة أي: طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.
هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله، والصحيح القول الأول،
ويدل على ذلك قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً ) فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول: ( وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب
لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع
الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع
لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده
حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي
ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى: (
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة،
ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما
فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.
وقال عبد الله بن كثير: ( فِي مَا آتَاكُمْ ) يعني: من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: (
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا
لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنـزله.
ثم قال تعالى: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: معادكم أيها
الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ ) أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين
بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره
بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة،
والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.
وقوله: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه.
ثم قال [تعالى]
( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ
إِلَيْكَ ) أي: احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه
إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. ( فَإِنْ
تَوَلَّوْا ) أي: عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله ( فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) أي:
فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم
من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق
ناؤون عنه، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]. وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية] [الأنعام: 116].
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني
سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد
الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا
إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا
أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا،
وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك،
ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله، عز وجل،
فيهم: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله: ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) رواه ابن جرير، وابن
أبي حاتم.
وقوله: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله
المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء
والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما
كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق
وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية
والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره
وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع
إلى حكم الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] فلا يحكم سواه
في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه
لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم
بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية [هو]
وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي
نَجِيح قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضِّل بين ولدي في النحْل؟ قرأ: (
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] )
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة
الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد
الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله، عز وجل ومبتغ في
الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه". وروى البخاري،
عن أبي اليمان بإسناده نحوه.
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى