الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنـْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ (66)
ثم قال جل وعلا ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا )
أي: لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم
والمآثم ( لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أي: لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم المقصود .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنـزلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) قال ابن عباس، وغيره: يعني القرآن. ( لأكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) أي: لو أنهم عملوا بما في
الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير
ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة.
وقوله: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ) يعني: لأرسل [السماء] عليهم مدرارًا، ( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني: يخرج من الأرض بركاتها.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسُّدِّي، كما قال [تعالى] وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96]، وقال: ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
[لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الروم:41].
وقال بعضهم: معناه ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني: من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه: لكانوا في الخير، كما يقول القائل: "هو في الخير من قرَنه إلى قدمه". ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم، عند قوله: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) حديث
علقمة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يرفع العلم". فقال زياد بن لبيد:
يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست
التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر
الله" ثم قرأ ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ )
هكذا أورده ابن أبي حاتم حديثًا معلقًا من أول إسناده، مرسلا في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال:
حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن زياد بن لَبِيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: "وذاك عند
ذهاب العلم". قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن
ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك
أمك يا ابن أم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه
اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء"
وكذا رواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه وهذا إسناد صحيح.
وقوله: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159]، وكقوله عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] [الحديد:27]. فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى: ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الآية [فاطر:32 ، 33]. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة.
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن
يونس الضَّبِّي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو مَعْشَر، عن يعقوب بن يزيد
بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى
وسبعين ملة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على
ثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو
أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار".
قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الجماعات الجماعات".
قال يعقوب بن يزيد
كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، تلا فيه قرآنا: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) إلى قوله تعالى: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) وتلا أيضًا: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق. وحديثُ افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مَرْوي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر. ولله الحمد والمنة.
يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم
الرسالة، وآمرًا له بالإبلاغ بجميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله
وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن
إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حَدّثَك أن محمدًا صلى
الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنـزل عليه فقد كذب، الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية.
هكذا رواه ههنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه
مسلم في "كتاب الإيمان"، والترمذي والنسائي في "كتاب التفسير" من سننهما من
طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها.
وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فجاء
رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: ( يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) والله ما
ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.
وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن
عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: هل عندكم شيء
من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في
هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفَكَاك الأسير، وألا
يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابه نحو من أربعين ألفًا
كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في خطبته يومئذ: "أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم
قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى
السماء ويَقلبها إليهم ويقول: "اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت".
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمير، حدثنا فضيل -يعني ابن غَزْوان-عن
عِكْرمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع: "يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. قال: "أيّ بلد هذا؟"
قالوا: بلد حرام. قال: "فأيّ شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. قال: "فإن
أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في
شهركم هذا". ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه
إلى السماء فقال: "اللهم هل بلغت!" مرارًا -قال: يقول ابن عباس: والله
لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل-ثم قال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا
ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان، به نحوه.
وقوله: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني: وإن
لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به ( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أي: وقد
عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني: إن كتمت آية مما أنـزل إليك من ربك لم تبلغ
رسالته.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ
حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال: "يا رب، كيف أصنع وأنا
وحدي؟ يجتمعون عليَّ". فنـزلت ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ )
ورواه ابن جرير، من طريق سفيان -وهو الثوري-به.
وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نـزول هذه الآية يُحْرَس كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث: أن
عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى
جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "ليت رجلا صالحاً من
أصحابي يحرسني الليلة؟" قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال:
"من هذا؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك؟" قال: جئت لأحرسك يا
رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه
في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به.
وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته [إليها] بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نـزيل مصر، حدثنا
مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد -يعني أبا قدامة-عن الجُرَيري، عن
عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة [رضي الله عنها]
قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نـزلت هذه الآية: (
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه
وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: "يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز
وجل".
وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال: وهذا حديث غريب.
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، من طريق مسلم بن إبراهيم، به.
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور، عن
الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [الأيادي] عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة، به.
ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري، عن ابن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.
قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب كلاهما عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي، رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه، ثم قال:
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي، حدثنا الفضل بن المختار، عن عبد الله بن مَوْهَب، عن عصمة بن مالك الْخَظْمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فترك الحرس.
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي، حدثنا معلي بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نـزلت هذه الآية: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.
حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد
بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن معاوية بن
عمار، حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث، عن جابر بن عبد الله
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه،
حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فذهب ليبعث معه، فقال:
"يا عم، إن الله قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث".
وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.
ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو
كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، فكان يرسل معه أبو طالب كل
يوم رجالا
من بني هاشم يحرسونه، حتى نـزلت عليه هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: "إن الله قد عصمني من الجن
والإنس".
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني، عن أبي كريب به.
وهذا أيضا غريب. والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نـزل بها، والله أعلم.
ومن عصمة الله [عز وجل]
لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع
شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله
تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته
العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا
كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان
بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه
المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله [عز وجل]
له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم -وهي المدينة،
فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل
الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله
منهم، وأنـزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود ذراع
تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه [الله] منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو
مَعْشَرٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا نـزل منـزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه
أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: "الله عز وجل"، فَرُعِدَت
يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه،
فأنـزل الله عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد
القَطَّان، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن
أسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بني أنمار، نـزل ذات الرِّقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غَوْرَث بن الحارث
من بني النجار: لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له:
أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك
أشيمُه. فأعطاه إياه، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" فأنـزل الله، عز وجل: (
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ )
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة "غَوْرَث بن الحارث" مشهورة في الصحيح.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم،
حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن
عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينـزل
تحتها، فنـزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يا
محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله يمنعني منك،
ضع السيف". فوضعه، فأنـزل الله، عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ )
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه، عن عبد الله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا إسرائيل
-يعني الجُشَمي-سمعت جَعْدَة -هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي-رضي الله
عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: "لو كان هذا في غير هذا لكان
خيرًا لك". قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال: هذا أراد أن
يقتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم تُرَع، لم تُرَع، ولو أردتَ ذلك
لم يسلطك الله عليَّ".
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) أي: بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] وقال فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40].
قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا
كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
يقول تعالى: قل يا محمد: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
) أي: من الدين، ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) أي: حتى
تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنـزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا
بما فيها ومما فيها الأمر
باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته؛
ولهذا قال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني: القرآن العظيم.
وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) تقدم تفسيره ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ ) أي: فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.
ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) وهم: المسلمون ( وَالَّذِينَ
هَادُوا ) وهم: حملة التوراة ( وَالصَّابِئُونَ ) -لما طال الفصل حسن العطف
بالرفع. والصابئون: طائفة بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله مجاهد، وعنه: بين اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير: بين اليهود والنصارى، وعن الحسن [والحكم]
إنهم كالمجوس. وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير
القبلة، ويقرؤون الزبور. وقال وَهْب بن مُنَبّه: هم قوم يعرفون الله وحده،
وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرًا.
وقال ابن وَهْب: أخبرني ابن أبي الزَّنَاد، عن أبيه قال: الصابئون: قوم
مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة
ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وقيل غير ذلك.
وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل.
والمقصود: أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم
الآخر، وهو المعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملا صالحًا، ولا يكون ذلك
كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع
الثقلين فمن اتصف بذلك ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته.
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل، على السمع
والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم
وأهواءهم وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه؛
ولهذا قال: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنـْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ (66)
ثم قال جل وعلا ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا )
أي: لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم
والمآثم ( لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أي: لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم المقصود .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنـزلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) قال ابن عباس، وغيره: يعني القرآن. ( لأكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) أي: لو أنهم عملوا بما في
الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير
ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة.
وقوله: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ) يعني: لأرسل [السماء] عليهم مدرارًا، ( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني: يخرج من الأرض بركاتها.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسُّدِّي، كما قال [تعالى] وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96]، وقال: ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
[لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الروم:41].
وقال بعضهم: معناه ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني: من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه: لكانوا في الخير، كما يقول القائل: "هو في الخير من قرَنه إلى قدمه". ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم، عند قوله: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) حديث
علقمة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يرفع العلم". فقال زياد بن لبيد:
يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست
التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر
الله" ثم قرأ ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ )
هكذا أورده ابن أبي حاتم حديثًا معلقًا من أول إسناده، مرسلا في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال:
حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن زياد بن لَبِيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: "وذاك عند
ذهاب العلم". قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن
ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك
أمك يا ابن أم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه
اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء"
وكذا رواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه وهذا إسناد صحيح.
وقوله: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159]، وكقوله عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] [الحديد:27]. فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى: ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الآية [فاطر:32 ، 33]. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة.
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن
يونس الضَّبِّي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو مَعْشَر، عن يعقوب بن يزيد
بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى
وسبعين ملة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على
ثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو
أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار".
قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الجماعات الجماعات".
قال يعقوب بن يزيد
كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، تلا فيه قرآنا: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) إلى قوله تعالى: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) وتلا أيضًا: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق. وحديثُ افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مَرْوي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر. ولله الحمد والمنة.
يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم
الرسالة، وآمرًا له بالإبلاغ بجميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله
وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن
إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حَدّثَك أن محمدًا صلى
الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنـزل عليه فقد كذب، الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية.
هكذا رواه ههنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه
مسلم في "كتاب الإيمان"، والترمذي والنسائي في "كتاب التفسير" من سننهما من
طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها.
وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فجاء
رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: ( يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) والله ما
ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.
وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن
عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: هل عندكم شيء
من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في
هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفَكَاك الأسير، وألا
يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابه نحو من أربعين ألفًا
كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في خطبته يومئذ: "أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم
قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى
السماء ويَقلبها إليهم ويقول: "اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت".
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمير، حدثنا فضيل -يعني ابن غَزْوان-عن
عِكْرمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع: "يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. قال: "أيّ بلد هذا؟"
قالوا: بلد حرام. قال: "فأيّ شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. قال: "فإن
أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في
شهركم هذا". ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه
إلى السماء فقال: "اللهم هل بلغت!" مرارًا -قال: يقول ابن عباس: والله
لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل-ثم قال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا
ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان، به نحوه.
وقوله: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني: وإن
لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به ( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أي: وقد
عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني: إن كتمت آية مما أنـزل إليك من ربك لم تبلغ
رسالته.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ
حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال: "يا رب، كيف أصنع وأنا
وحدي؟ يجتمعون عليَّ". فنـزلت ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ )
ورواه ابن جرير، من طريق سفيان -وهو الثوري-به.
وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نـزول هذه الآية يُحْرَس كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث: أن
عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى
جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "ليت رجلا صالحاً من
أصحابي يحرسني الليلة؟" قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال:
"من هذا؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك؟" قال: جئت لأحرسك يا
رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه
في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به.
وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته [إليها] بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نـزيل مصر، حدثنا
مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد -يعني أبا قدامة-عن الجُرَيري، عن
عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة [رضي الله عنها]
قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نـزلت هذه الآية: (
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه
وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: "يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز
وجل".
وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال: وهذا حديث غريب.
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، من طريق مسلم بن إبراهيم، به.
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور، عن
الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [الأيادي] عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة، به.
ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري، عن ابن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.
قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب كلاهما عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي، رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه، ثم قال:
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي، حدثنا الفضل بن المختار، عن عبد الله بن مَوْهَب، عن عصمة بن مالك الْخَظْمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فترك الحرس.
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي، حدثنا معلي بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نـزلت هذه الآية: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.
حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد
بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن معاوية بن
عمار، حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث، عن جابر بن عبد الله
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه،
حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فذهب ليبعث معه، فقال:
"يا عم، إن الله قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث".
وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.
ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو
كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، فكان يرسل معه أبو طالب كل
يوم رجالا
من بني هاشم يحرسونه، حتى نـزلت عليه هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: "إن الله قد عصمني من الجن
والإنس".
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني، عن أبي كريب به.
وهذا أيضا غريب. والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نـزل بها، والله أعلم.
ومن عصمة الله [عز وجل]
لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع
شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله
تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته
العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا
كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان
بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه
المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله [عز وجل]
له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم -وهي المدينة،
فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل
الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله
منهم، وأنـزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود ذراع
تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه [الله] منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو
مَعْشَرٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا نـزل منـزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه
أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: "الله عز وجل"، فَرُعِدَت
يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه،
فأنـزل الله عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد
القَطَّان، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن
أسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بني أنمار، نـزل ذات الرِّقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غَوْرَث بن الحارث
من بني النجار: لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له:
أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك
أشيمُه. فأعطاه إياه، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" فأنـزل الله، عز وجل: (
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ )
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة "غَوْرَث بن الحارث" مشهورة في الصحيح.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم،
حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن
عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينـزل
تحتها، فنـزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يا
محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله يمنعني منك،
ضع السيف". فوضعه، فأنـزل الله، عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ )
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه، عن عبد الله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا إسرائيل
-يعني الجُشَمي-سمعت جَعْدَة -هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي-رضي الله
عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: "لو كان هذا في غير هذا لكان
خيرًا لك". قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال: هذا أراد أن
يقتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم تُرَع، لم تُرَع، ولو أردتَ ذلك
لم يسلطك الله عليَّ".
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) أي: بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] وقال فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40].
قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا
كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
يقول تعالى: قل يا محمد: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
) أي: من الدين، ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) أي: حتى
تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنـزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا
بما فيها ومما فيها الأمر
باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته؛
ولهذا قال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني: القرآن العظيم.
وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) تقدم تفسيره ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ ) أي: فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.
ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) وهم: المسلمون ( وَالَّذِينَ
هَادُوا ) وهم: حملة التوراة ( وَالصَّابِئُونَ ) -لما طال الفصل حسن العطف
بالرفع. والصابئون: طائفة بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله مجاهد، وعنه: بين اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير: بين اليهود والنصارى، وعن الحسن [والحكم]
إنهم كالمجوس. وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير
القبلة، ويقرؤون الزبور. وقال وَهْب بن مُنَبّه: هم قوم يعرفون الله وحده،
وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرًا.
وقال ابن وَهْب: أخبرني ابن أبي الزَّنَاد، عن أبيه قال: الصابئون: قوم
مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة
ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وقيل غير ذلك.
وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل.
والمقصود: أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم
الآخر، وهو المعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملا صالحًا، ولا يكون ذلك
كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع
الثقلين فمن اتصف بذلك ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته.
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل، على السمع
والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم
وأهواءهم وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه؛
ولهذا قال: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )
رد: الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن من تفسير سورة المائدة
» الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن من تفسير سورة المائدة
» الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى