الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا
ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن : 60 ].
وقوله: ( وَزِيَادَة ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [أيضا] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله وبرحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت]
وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد،
وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن
إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.
وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) وقال: "إذا دخل أهل الجنة
الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا
يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون: وما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض
وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟". قال: "فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم".
وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة، به.
وقال ابن جرير: أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب: أخبرنا شبيب، عن أبان
عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي: يا أهل الجنة
-بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم -: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى:
الجنة. وزيادة: النظر إلى وجه الرحمن عز وجل".
ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم، من حديث أبي بكر الهُذلي عن أبي تميمة الهجيمي، به.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار
عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: النظر إلى
وجه الرحمن عز وجل.
وقال أيضا: حدثنا ابن عبد الرحيم
حدثنا عمرو بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية، حدثنا أبيّ بن
كعب: أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: "الحسنى: الجنة،
والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل".
ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير، به.
وقوله تعالى: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ) أي: قتام وسواد في
عَرَصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة، (
وَلا ذِلَّةٌ ) أي: هوان وصغار، أي: لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في
الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان : 11] أي: نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته، آمين.
وَالَّذِينَ
كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر عدله تعالى فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها، لا يزيدهم على ذلك، ( وَتَرْهَقُهُم ) أي: تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [ الشورى : 45 ]، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [ إبراهيم : 42 -44 ]، وقوله ( مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي: من مانع ولا واق يقيهم العذاب، كما قال تعالى: يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ القيامة : 10 -12 ].
وقوله: ( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ
مُظْلِمًا ) إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ آل عمران : 106 ، 107 ]، وكما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الآية. [ عبس : 38 -42 ].
وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ) أي: أهل الأرض كلهم، من إنس وجن وبر وفاجر، كما قال: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف : 47 ].
( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي: الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا، امتازوا فيه عن مقام
المؤمنين، كما قال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس : 59 ]، وقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم : 14 ]، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم : 43 ] أي: يصيرون صِدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل: ذلك
يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا
هذا، وفي الحديث الآخر: "نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس .
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين
وأوثانهم يوم القيامة: ( مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا
تَعْبُدُونَ ) أنكروا عبادتهم، وتبرءوا منهم، كما قال تعالى: [كَلا] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا الآية. [ مريم : 82 ]. وقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ البقرة : 166 ]، وقال وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف : 5 ، 6 ].
وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند
ادعائهم عبادتهم: ( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) أي: ما كنا نشعر بها ولا
نعلم، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا
وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك.
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا
يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل
تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا
عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء وقد
أرسل رسله وأنـزل كتبه، آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيًا عن عبادة ما
سواه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [ النحل : 36 ]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [ الأنبياء : 25 ]، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف : 45 ].
والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد.
وقوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي: في موقف
الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [عملها من] خير وشر، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق : 9 ]، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [ القيامة : 13 ]، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الإسراء : 13 ، 14 ].
وقد قرأ بعضهم: ( هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ )
وفسَّرها بعضهم بالقراءة، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر،
وفسّرها بعضهم بحديث: "تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت" الحديث.
وقوله: ( وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) أي: ورجعت
الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل
النار النار.
( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) أي: ذهب عن المشركين ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي: ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.
قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ
اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله فقال: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي: من ذا الذي ينـزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقًا بقدرته ومشيئته، فيخرج منها حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عبس : 27 -31 ]، أإله مع الله؟ فسيقولون: الله، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [ الملك : 21 ] ؟، وكذلك قوله: ( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) [ يونس : 31 ] ؟ ؟ أي: الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ [ الملك : 23 ]، وقال قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [ الأنعام : 46 ].
وقوله: ( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) أي: بقدرته العظيمة، ومنته العميمة، وقد تقدم
ذكر الخلاف في ذلك، وأن الآية عامة في ذلك كله.
وقوله: ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي: من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير
ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما
يفعل وهم يُسْألُون، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
[ الرحمن : 29 ]، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس
وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) أي:
هم يعلمون ذلك ويعترفون به، ( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟.
وقوله: ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي: فهذا الذي اعترفتم
بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، (
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ) أي: فكل معبود سواه باطل، لا
إله إلا هو، واحد لا شريك له.
( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي: فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟
وقوله: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا
أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي: كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم
وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في
الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء
من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الزمر : 71 ]
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا
ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن : 60 ].
وقوله: ( وَزِيَادَة ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [أيضا] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله وبرحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت]
وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد،
وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن
إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.
وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) وقال: "إذا دخل أهل الجنة
الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا
يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون: وما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض
وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟". قال: "فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم".
وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة، به.
وقال ابن جرير: أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب: أخبرنا شبيب، عن أبان
عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي: يا أهل الجنة
-بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم -: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى:
الجنة. وزيادة: النظر إلى وجه الرحمن عز وجل".
ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم، من حديث أبي بكر الهُذلي عن أبي تميمة الهجيمي، به.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار
عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: النظر إلى
وجه الرحمن عز وجل.
وقال أيضا: حدثنا ابن عبد الرحيم
حدثنا عمرو بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية، حدثنا أبيّ بن
كعب: أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: "الحسنى: الجنة،
والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل".
ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير، به.
وقوله تعالى: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ) أي: قتام وسواد في
عَرَصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة، (
وَلا ذِلَّةٌ ) أي: هوان وصغار، أي: لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في
الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان : 11] أي: نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته، آمين.
وَالَّذِينَ
كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر عدله تعالى فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها، لا يزيدهم على ذلك، ( وَتَرْهَقُهُم ) أي: تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [ الشورى : 45 ]، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [ إبراهيم : 42 -44 ]، وقوله ( مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي: من مانع ولا واق يقيهم العذاب، كما قال تعالى: يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ القيامة : 10 -12 ].
وقوله: ( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ
مُظْلِمًا ) إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ آل عمران : 106 ، 107 ]، وكما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الآية. [ عبس : 38 -42 ].
وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ) أي: أهل الأرض كلهم، من إنس وجن وبر وفاجر، كما قال: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف : 47 ].
( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي: الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا، امتازوا فيه عن مقام
المؤمنين، كما قال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس : 59 ]، وقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم : 14 ]، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم : 43 ] أي: يصيرون صِدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل: ذلك
يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا
هذا، وفي الحديث الآخر: "نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس .
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين
وأوثانهم يوم القيامة: ( مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا
تَعْبُدُونَ ) أنكروا عبادتهم، وتبرءوا منهم، كما قال تعالى: [كَلا] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا الآية. [ مريم : 82 ]. وقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ البقرة : 166 ]، وقال وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف : 5 ، 6 ].
وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند
ادعائهم عبادتهم: ( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) أي: ما كنا نشعر بها ولا
نعلم، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا
وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك.
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا
يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل
تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا
عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء وقد
أرسل رسله وأنـزل كتبه، آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيًا عن عبادة ما
سواه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [ النحل : 36 ]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [ الأنبياء : 25 ]، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف : 45 ].
والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد.
وقوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي: في موقف
الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [عملها من] خير وشر، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق : 9 ]، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [ القيامة : 13 ]، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الإسراء : 13 ، 14 ].
وقد قرأ بعضهم: ( هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ )
وفسَّرها بعضهم بالقراءة، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر،
وفسّرها بعضهم بحديث: "تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت" الحديث.
وقوله: ( وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) أي: ورجعت
الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل
النار النار.
( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) أي: ذهب عن المشركين ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي: ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.
قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ
اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله فقال: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي: من ذا الذي ينـزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقًا بقدرته ومشيئته، فيخرج منها حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عبس : 27 -31 ]، أإله مع الله؟ فسيقولون: الله، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [ الملك : 21 ] ؟، وكذلك قوله: ( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) [ يونس : 31 ] ؟ ؟ أي: الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ [ الملك : 23 ]، وقال قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [ الأنعام : 46 ].
وقوله: ( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) أي: بقدرته العظيمة، ومنته العميمة، وقد تقدم
ذكر الخلاف في ذلك، وأن الآية عامة في ذلك كله.
وقوله: ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي: من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير
ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما
يفعل وهم يُسْألُون، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
[ الرحمن : 29 ]، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس
وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) أي:
هم يعلمون ذلك ويعترفون به، ( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟.
وقوله: ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي: فهذا الذي اعترفتم
بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، (
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ) أي: فكل معبود سواه باطل، لا
إله إلا هو، واحد لا شريك له.
( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي: فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟
وقوله: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا
أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي: كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم
وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في
الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء
من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الزمر : 71 ]
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس من تفسير سورة يونس
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى