الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
وقال تعالى: ( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] ) أي: كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري.
قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: ( فَاسْتَقِيمَا ) فامضيا لأمري، وهي
الاستقامة. قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.
وقال محمد بن علي بن الحسين: أربعين يوما.
وَجَاوَزْنَا
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من
مصر صحبة موسى، عليه السلام، وهم -فيما قيل -ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية،
وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حَنَق
فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب
وراءهم في أبهة عظيمة، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف
عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر، وأدركهم فرعون، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى، عليه السلام، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا، كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] أي: كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
[طه: 77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين لئلا
يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى
فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية
الألوان، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص،
نفذ القدر، واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل، عليه السلام، على فرس -وديق حائل
-فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله،
فاقْتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا، فتجلد لأمرائه،
وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم
وميكائيل في ساقتهم، لا يترك أحدا منهم، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه
وتكاملوا، وهم أولهم بالخروج منه، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم،
فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت
الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: ( آمَنْتُ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84 ، 85] .
وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أي: في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص : 41]
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن
مهْران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قال
فرعون: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ ) قال: قال لي جبريل: [يا محمد] لو رأيتني وقد أخذت [حالا] من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة"
ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، من حديث حماد بن سلمة، به وقال الترمذي: حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال
لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون مخافة أن
تدركه الرحمة". وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا، وابن جرير أيضا، من غير
وجه، عن شعبة، به وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
ووقع في رواية عند ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن عطاء وعَدِيّ، عن سعيد، عن ابن عباس، رفعه أحدهما -وكأن الآخر لم يرفعه، فالله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:
لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه ورفع صوته: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.
وكذا رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبي خالد، به موقوفا
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا، فقال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن عَنْبَسة -هو ابن
سعيد -عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا
أغطّه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له" يعني: فرعون
كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين: لا أعرفه، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم: مجهول، وباقي رجاله ثقات.
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف: قتادة، وإبراهيم التيمي، وميمون بن
مِهْران. ونقل عن الضحاك بن قيس: أنه خطب بهذا للناس، فالله أعلم.
وقوله: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً ) قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت
فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة [به] على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) أي: نرفعك على نَشز
من الأرض، ( بِبَدَنِك ) قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه.
وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا، أي: لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال
أبو صخر: بدرعك
وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله: ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) أي: لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله
هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء؛ ولهذا قرأ
بعض السلف: " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" أي: لا يتعظون بها، ولا يعتبرون. وقد كان [إهلاك فرعون وملئه] يوم عاشوراء، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود
تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه"
وَلَقَدْ
بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (93)
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ )
قيل: هو بلاد مصر والشام، مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما
أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما
قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا
كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57-59] ولكن استمروا مع موسى، عليه السلام، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس] وكان فيه قوم من العمالقة، [فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة] فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه
هارون، ثم، موسى، عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون، ففتح الله
عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من
الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، في تلك المدة، فاستعانت اليهود -قبحهم
الله -على معاداة عيسى، عليه السلام، بملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم،
ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه، واعتقدوا أنه هو، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 157 ، 158] ثم بعد المسيح، عليه السلام بنحو [من]
ثلاثمائة سنة، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان -في دين النصرانية، وكان
فيلسوفا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل: تقية، وقيل: حيلة ليفسده، فوضعت
له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيَع
الكبار والصغار، والصوامع والهياكل، والمعابد، والقلايات. وانتشر دين
النصرانية
في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف، ووضع وكذب،
ومخالفة لدين المسيح. ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل
من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار، واستحوذت
يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم، وبنى هذا الملك المذكور
مدينة قسطنطينية، والقُمَامة، وبيت لحم، وكنائس [بلاد]
بيت المقدس، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بنايات هائلة محكمة،
وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم
الخنـزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين،
وبسط هذا يطول.
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة، رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة.
وقوله: ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي: الحلال، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا.
وقوله: ( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي: ما
اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: ولم يكن لهم أن
يختلفوا، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في الحديث:
أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين
وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في
الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد
ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) أي: يفصل
بينهم ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )
فَإِنْ
كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97)
قال قتادة بن دِعَامة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أشك ولا أسأل"
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
الآية [الأعراف: 157]. ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون
أبناءهم، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة
عليهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) أي: لا يؤمنون إيمانا ينفعهم، بل حين لا ينفع نفسًا
إيمانها؛ ولهذا لما دعا موسى، عليه السلام، على فرعون وملئه قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 88]، كما قال تعالى: وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111] ثم قال تعالى:
وقال تعالى: ( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] ) أي: كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري.
قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: ( فَاسْتَقِيمَا ) فامضيا لأمري، وهي
الاستقامة. قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.
وقال محمد بن علي بن الحسين: أربعين يوما.
وَجَاوَزْنَا
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من
مصر صحبة موسى، عليه السلام، وهم -فيما قيل -ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية،
وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حَنَق
فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب
وراءهم في أبهة عظيمة، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف
عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر، وأدركهم فرعون، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى، عليه السلام، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا، كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] أي: كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
[طه: 77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين لئلا
يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى
فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية
الألوان، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص،
نفذ القدر، واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل، عليه السلام، على فرس -وديق حائل
-فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله،
فاقْتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا، فتجلد لأمرائه،
وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم
وميكائيل في ساقتهم، لا يترك أحدا منهم، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه
وتكاملوا، وهم أولهم بالخروج منه، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم،
فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت
الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: ( آمَنْتُ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84 ، 85] .
وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أي: في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص : 41]
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن
مهْران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قال
فرعون: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ ) قال: قال لي جبريل: [يا محمد] لو رأيتني وقد أخذت [حالا] من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة"
ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، من حديث حماد بن سلمة، به وقال الترمذي: حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال
لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون مخافة أن
تدركه الرحمة". وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا، وابن جرير أيضا، من غير
وجه، عن شعبة، به وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
ووقع في رواية عند ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن عطاء وعَدِيّ، عن سعيد، عن ابن عباس، رفعه أحدهما -وكأن الآخر لم يرفعه، فالله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:
لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه ورفع صوته: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.
وكذا رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبي خالد، به موقوفا
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا، فقال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن عَنْبَسة -هو ابن
سعيد -عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا
أغطّه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له" يعني: فرعون
كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين: لا أعرفه، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم: مجهول، وباقي رجاله ثقات.
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف: قتادة، وإبراهيم التيمي، وميمون بن
مِهْران. ونقل عن الضحاك بن قيس: أنه خطب بهذا للناس، فالله أعلم.
وقوله: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً ) قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت
فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة [به] على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) أي: نرفعك على نَشز
من الأرض، ( بِبَدَنِك ) قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه.
وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا، أي: لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال
أبو صخر: بدرعك
وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله: ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) أي: لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله
هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء؛ ولهذا قرأ
بعض السلف: " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" أي: لا يتعظون بها، ولا يعتبرون. وقد كان [إهلاك فرعون وملئه] يوم عاشوراء، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود
تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه"
وَلَقَدْ
بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (93)
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ )
قيل: هو بلاد مصر والشام، مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما
أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما
قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا
كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57-59] ولكن استمروا مع موسى، عليه السلام، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس] وكان فيه قوم من العمالقة، [فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة] فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه
هارون، ثم، موسى، عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون، ففتح الله
عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من
الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، في تلك المدة، فاستعانت اليهود -قبحهم
الله -على معاداة عيسى، عليه السلام، بملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم،
ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه، واعتقدوا أنه هو، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 157 ، 158] ثم بعد المسيح، عليه السلام بنحو [من]
ثلاثمائة سنة، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان -في دين النصرانية، وكان
فيلسوفا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل: تقية، وقيل: حيلة ليفسده، فوضعت
له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيَع
الكبار والصغار، والصوامع والهياكل، والمعابد، والقلايات. وانتشر دين
النصرانية
في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف، ووضع وكذب،
ومخالفة لدين المسيح. ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل
من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار، واستحوذت
يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم، وبنى هذا الملك المذكور
مدينة قسطنطينية، والقُمَامة، وبيت لحم، وكنائس [بلاد]
بيت المقدس، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بنايات هائلة محكمة،
وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم
الخنـزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين،
وبسط هذا يطول.
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة، رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة.
وقوله: ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي: الحلال، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا.
وقوله: ( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي: ما
اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: ولم يكن لهم أن
يختلفوا، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في الحديث:
أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين
وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في
الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد
ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) أي: يفصل
بينهم ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )
فَإِنْ
كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97)
قال قتادة بن دِعَامة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أشك ولا أسأل"
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
الآية [الأعراف: 157]. ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون
أبناءهم، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة
عليهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) أي: لا يؤمنون إيمانا ينفعهم، بل حين لا ينفع نفسًا
إيمانها؛ ولهذا لما دعا موسى، عليه السلام، على فرعون وملئه قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 88]، كما قال تعالى: وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111] ثم قال تعالى:
|
رد: الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني من تفسير سورة يونس
» الجزء السادس من تفسير سورة يونس
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء السادس من تفسير سورة يونس
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى