الجزء الثالث عشر من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثالث عشر من تفسير سورة يونس
فَلَوْلا
كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
يقول تعالى: فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا
إليهم الرسل، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه، أو
أكثرهم كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ يس: 30]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]، وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]
وفي الحديث الصحيح: "عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من
الناس، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد" ثم ذكر كثرة أتباع موسى، عليه السلام، ثم ذكر كثرة أمته، صلوات الله وسلامه عليه، كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي.
والغرض أنه لم توجد
قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس، وهم أهل
نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم،
بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله
واستغاثوا به، وتضرعوا
لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن
يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم
العذاب وأخروا، كما قال تعالى: ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) .
واختلف المفسرون: هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف
عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا،
كما هو مقيد في هذه الآية. والقول الثاني فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات: 147 ، 148] فأطلق عليهم الإيمان، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.
قال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها
العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا
منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة
وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من
قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن
تدلى عليهم -قال قتادة: وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.
وكذا روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها: "فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ".
وقال أبو عمران، عن أبي الجَلْد قال: لما نـزل بهم العذاب، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا: علمنا دعاء ندعوا به، لعل الله يكشف عنا العذاب، فقال: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، يا محيي الموتى لا إله إلا أنت. قال: فكشف عنهم العذاب.
وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ ) -يا محمد -لأذن لأهل الأرض كلهم
في الإيمان بما جئتهم به، فآمنوا كلّهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما
قال : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 ، 119]، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا
[الرعد: 31] ؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ) أي:
تلزمهم وتلجئهم ( حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي: ليس ذلك عليك ولا
إليك، بل [إلى] الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272]، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40]، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
[الغاشية: 21 ، 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو
الفعال لما يريد، الهادي من يشاء، المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله؛
ولهذا قال: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) وهو الخبال والضلال، ( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) أي: حججَ الله وأدلته، وهو العادل في كل ذلك، في هداية من هدى، وإضلال من ضل.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ
يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السموات
من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار،
واختلافهما، وإيلاج أحدهما في الآخر، حتى يطول هذا ويقصر هذا، ثم يقصر هذا
ويطول هذا، وارتفاع السماء واتساعها، وحسنها وزينتها، وما أنـزل الله منها
من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع
والأزاهير، وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان
والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب. وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا [مسخر] مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير القدير له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ ) أي: وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها
وحججها وبراهينها الدالة على صدقها، عن قوم لا يؤمنون، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس : 96 ، 97].
وقوله: ( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة
والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة
لرسلهم، ( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ *
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي: ونهلك المكذبين بالرسل، ( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) [أي] حقا: أوجبه تعالى على نفسه الكريمة: كقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام : 12] كما جاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي"
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: قل: يا أيها الناس، إن كنتم في شك من صحة
ما جئتكم من الدين الحنيف، الذي أوحاه الله إلي، فها أنا لا أعبد الذين
تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما
أحياكم، ثم إليه مرجعكم؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا، فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين.
وقوله: ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي: منحرفا عن
الشرك؛ ولهذا قال: ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وهو معطوف على
قوله: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
يقول تعالى: فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا
إليهم الرسل، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه، أو
أكثرهم كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ يس: 30]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]، وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]
وفي الحديث الصحيح: "عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من
الناس، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد" ثم ذكر كثرة أتباع موسى، عليه السلام، ثم ذكر كثرة أمته، صلوات الله وسلامه عليه، كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي.
والغرض أنه لم توجد
قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس، وهم أهل
نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم،
بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله
واستغاثوا به، وتضرعوا
لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن
يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم
العذاب وأخروا، كما قال تعالى: ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) .
واختلف المفسرون: هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف
عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا،
كما هو مقيد في هذه الآية. والقول الثاني فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات: 147 ، 148] فأطلق عليهم الإيمان، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.
قال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها
العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا
منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة
وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من
قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن
تدلى عليهم -قال قتادة: وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.
وكذا روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها: "فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ".
وقال أبو عمران، عن أبي الجَلْد قال: لما نـزل بهم العذاب، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا: علمنا دعاء ندعوا به، لعل الله يكشف عنا العذاب، فقال: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، يا محيي الموتى لا إله إلا أنت. قال: فكشف عنهم العذاب.
وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ ) -يا محمد -لأذن لأهل الأرض كلهم
في الإيمان بما جئتهم به، فآمنوا كلّهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما
قال : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 ، 119]، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا
[الرعد: 31] ؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ) أي:
تلزمهم وتلجئهم ( حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي: ليس ذلك عليك ولا
إليك، بل [إلى] الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272]، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40]، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
[الغاشية: 21 ، 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو
الفعال لما يريد، الهادي من يشاء، المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله؛
ولهذا قال: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) وهو الخبال والضلال، ( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) أي: حججَ الله وأدلته، وهو العادل في كل ذلك، في هداية من هدى، وإضلال من ضل.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ
يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السموات
من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار،
واختلافهما، وإيلاج أحدهما في الآخر، حتى يطول هذا ويقصر هذا، ثم يقصر هذا
ويطول هذا، وارتفاع السماء واتساعها، وحسنها وزينتها، وما أنـزل الله منها
من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع
والأزاهير، وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان
والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب. وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا [مسخر] مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير القدير له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ ) أي: وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها
وحججها وبراهينها الدالة على صدقها، عن قوم لا يؤمنون، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس : 96 ، 97].
وقوله: ( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة
والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة
لرسلهم، ( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ *
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي: ونهلك المكذبين بالرسل، ( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) [أي] حقا: أوجبه تعالى على نفسه الكريمة: كقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام : 12] كما جاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي"
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: قل: يا أيها الناس، إن كنتم في شك من صحة
ما جئتكم من الدين الحنيف، الذي أوحاه الله إلي، فها أنا لا أعبد الذين
تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما
أحياكم، ثم إليه مرجعكم؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا، فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين.
وقوله: ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي: منحرفا عن
الشرك؛ ولهذا قال: ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وهو معطوف على
قوله: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الثالث عشر من تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني من تفسير سورة يونس
» الجزء الرابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
» الجزء السادس من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني من تفسير سورة يونس
» الجزء الرابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الخامس من تفسير سورة يونس
» الجزء السادس من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى