الجزء السادس من تفسير سورة النحل
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النحل
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السادس من تفسير سورة النحل
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قال الضحاك، عن ابن عباس: لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولا
أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله
بشرا. فأنـزل الله: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
[يونس : 2] ، وقال ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )
يعني: أهل الكتب الماضية: أبشر كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا؟ [و] قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وهكذا روي عن مجاهد، عن ابن عباس، أن المراد بأهل الذكر: أهل الكتاب. وقاله مجاهد، والأعمش.
وقول عبد الرحمن بن زيد -الذكر: القرآن واستشهد بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر : 9] -صحيح، [و] لكن ليس هو المراد هاهنا؛ لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه.
وكذا قول أبي جعفر الباقر: "نحن أهل الذكر" -ومراده أن هذه الأمة أهل
الذكر-صحيح، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة، وعلماء أهل بيت
الرسول، عليهم السلام والرحمة، من خير
العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة، كعلي، وابن عباس، وبني علي: الحسن
والحسين، ومحمد ابن الحنفية، وعلي بن الحسين زين العابدين، وعلي بن عبد
الله بن عباس، وأبي جعفر الباقر -وهو محمد بن علي بن الحسين-وجعفر ابنه،
وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم، ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه
المستقيم، وعرف لكل ذي حق حقه، ونـزل كل المنـزل الذي أعطاه الله ورسوله
واجتمع إليه قلوب عباده المؤمنين.
والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت أن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشرًا كما هو بشر، كما قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا [الإسراء : 93 ، 94] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان : 20] ، وقال : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء : 8 ، 9] ، وقال: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف : 9] ، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف : 110].
ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرًا، إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا: هل كان أنبياؤهم بشرًا أو ملائكة؟
ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم ( بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالدلالات والحجج، (
وَالزُّبُرِ ) وهي الكتب. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
والزبر: جمع زبور، تقول العرب: زبرت الكتاب إذا كتبته، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر : 52] وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] .
ثم قال تعالى: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يعني: القرآن، (
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ ) من ربهم، أي: لعلمك بمعنى ما أنـزل عليك، وحرصك عليه، واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم، فتفصل لهم ما أجمل، وتبين لهم ما أشكل: ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون، فيفوزون بالنجاة في الدارين .
أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
يخبر تعالى عن حلمه [وإمهاله]
وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في
دعائهم إياهم وحملهم عليها، مع قدرته على ( أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ
الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) أي: من
حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16 ، 17]، وقوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي: في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها، من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية.
قال قتادة والسدي: ( تَقَلُّبِهِمْ ) أي: أسفارهم.
وقال مجاهد، والضحاك: ( فِي تَقَلُّبِهِمْ ) في الليل والنهار، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 97 ، 98]. وقوله ( فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: لا يُعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
وقوله: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) أي: أو يأخذهم الله في
حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ؛ فإن حصول ما يتوقع
مع الخوف شديد؛ ولهذا قال العوفي، عن ابن عباس: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
تَخَوُّفٍ ) يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك. وكذا روي
عن مجاهد، والضحاك، وقتادة وغيرهم.
ثم قال تعالى: ( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي: حيث لم
يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين "[لا أحد أصبر على أذى سمعه من
الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم " ، وفي الصحيحين] "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج: 48] .
أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ
الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له
الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن
والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد بظله لله تعالى.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل. وكذا قال قتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقوله: ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) أي: صاغرون.
وقال مجاهد أيضًا: سجود كل شيء فيه. وذكر الجبال قال: سجودها فيها.
وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته.
ونـزلهم منـزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم.
ثم قال: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ) كما قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
[الرعد : 15] ، وقوله: ( وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي:
تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ، ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ) أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، ( وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ ) أي: مثابرين على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره .
وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
يُقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه.
( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال ابن عباس، ومجاهد وعِكْرِمة وميمون بن مِهْران، والسدي، وقتادة، وغير واحد: أي دائما.
وعن ابن عباس أيضًا: واجبًا. وقال مجاهد: خالصا. أي: له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
[آل عمران : 83] . هذا على قول ابن عباس وعكرمة، فيكون من باب الخبر، وأما
على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب، أي: ارهبوا أن تشركوا به شيئا، وأخلصوا له الطلب ، كما في قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر : 3] .
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليه وإحسانه إليه.
( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) أي: لعلمكم
أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه، وتسألونه
وتلحون في الرغبة مستغيثين به كما قال تعالى: وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ
كَفُورًا [الإسراء : 67] ، وقال هاهنا : ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ .
وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قال الضحاك، عن ابن عباس: لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولا
أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله
بشرا. فأنـزل الله: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
[يونس : 2] ، وقال ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )
يعني: أهل الكتب الماضية: أبشر كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا؟ [و] قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وهكذا روي عن مجاهد، عن ابن عباس، أن المراد بأهل الذكر: أهل الكتاب. وقاله مجاهد، والأعمش.
وقول عبد الرحمن بن زيد -الذكر: القرآن واستشهد بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر : 9] -صحيح، [و] لكن ليس هو المراد هاهنا؛ لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه.
وكذا قول أبي جعفر الباقر: "نحن أهل الذكر" -ومراده أن هذه الأمة أهل
الذكر-صحيح، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة، وعلماء أهل بيت
الرسول، عليهم السلام والرحمة، من خير
العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة، كعلي، وابن عباس، وبني علي: الحسن
والحسين، ومحمد ابن الحنفية، وعلي بن الحسين زين العابدين، وعلي بن عبد
الله بن عباس، وأبي جعفر الباقر -وهو محمد بن علي بن الحسين-وجعفر ابنه،
وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم، ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه
المستقيم، وعرف لكل ذي حق حقه، ونـزل كل المنـزل الذي أعطاه الله ورسوله
واجتمع إليه قلوب عباده المؤمنين.
والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت أن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشرًا كما هو بشر، كما قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا [الإسراء : 93 ، 94] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان : 20] ، وقال : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء : 8 ، 9] ، وقال: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف : 9] ، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف : 110].
ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرًا، إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا: هل كان أنبياؤهم بشرًا أو ملائكة؟
ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم ( بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالدلالات والحجج، (
وَالزُّبُرِ ) وهي الكتب. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
والزبر: جمع زبور، تقول العرب: زبرت الكتاب إذا كتبته، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر : 52] وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] .
ثم قال تعالى: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يعني: القرآن، (
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ ) من ربهم، أي: لعلمك بمعنى ما أنـزل عليك، وحرصك عليه، واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم، فتفصل لهم ما أجمل، وتبين لهم ما أشكل: ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون، فيفوزون بالنجاة في الدارين .
أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
يخبر تعالى عن حلمه [وإمهاله]
وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في
دعائهم إياهم وحملهم عليها، مع قدرته على ( أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ
الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) أي: من
حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16 ، 17]، وقوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي: في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها، من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية.
قال قتادة والسدي: ( تَقَلُّبِهِمْ ) أي: أسفارهم.
وقال مجاهد، والضحاك: ( فِي تَقَلُّبِهِمْ ) في الليل والنهار، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 97 ، 98]. وقوله ( فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: لا يُعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
وقوله: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) أي: أو يأخذهم الله في
حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ؛ فإن حصول ما يتوقع
مع الخوف شديد؛ ولهذا قال العوفي، عن ابن عباس: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
تَخَوُّفٍ ) يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك. وكذا روي
عن مجاهد، والضحاك، وقتادة وغيرهم.
ثم قال تعالى: ( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي: حيث لم
يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين "[لا أحد أصبر على أذى سمعه من
الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم " ، وفي الصحيحين] "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج: 48] .
أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ
الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له
الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن
والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد بظله لله تعالى.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل. وكذا قال قتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقوله: ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) أي: صاغرون.
وقال مجاهد أيضًا: سجود كل شيء فيه. وذكر الجبال قال: سجودها فيها.
وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته.
ونـزلهم منـزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم.
ثم قال: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ) كما قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
[الرعد : 15] ، وقوله: ( وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي:
تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ، ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ) أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، ( وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ ) أي: مثابرين على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره .
وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
يُقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه.
( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال ابن عباس، ومجاهد وعِكْرِمة وميمون بن مِهْران، والسدي، وقتادة، وغير واحد: أي دائما.
وعن ابن عباس أيضًا: واجبًا. وقال مجاهد: خالصا. أي: له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
[آل عمران : 83] . هذا على قول ابن عباس وعكرمة، فيكون من باب الخبر، وأما
على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب، أي: ارهبوا أن تشركوا به شيئا، وأخلصوا له الطلب ، كما في قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر : 3] .
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليه وإحسانه إليه.
( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) أي: لعلمكم
أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه، وتسألونه
وتلحون في الرغبة مستغيثين به كما قال تعالى: وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ
كَفُورًا [الإسراء : 67] ، وقال هاهنا : ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ .
رد: الجزء السادس من تفسير سورة النحل
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء السادس من تفسير سورة النحل
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة النحل
» الجزء الثامن من تفسير سورة النحل
» الجزء التاسع من تفسير سورة النحل
» الجزء العاشر من تفسير سورة النحل
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النحل
» الجزء الثامن من تفسير سورة النحل
» الجزء التاسع من تفسير سورة النحل
» الجزء العاشر من تفسير سورة النحل
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة النحل
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النحل
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى