الجزء الخامس من تفسير سورة فاطر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة فاطر
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة فاطر
وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) .
يقول تعالى: ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد من الكتاب، وهو
القرآن ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي: من الكتب
المتقدمة يصدقها، كما شهدت له بالتنويه ، وأنه منـزل من رب العالمين.
( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) أي: هو خبير بهم، بصير
بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع
البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منـزلة محمد
صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) .
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من
الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع
، فقال: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وهو: المفرط في فعل بعض
الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. ( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) وهو: المؤدي
للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) وهو: الفاعل
للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ [ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] ) ، قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب أنـزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، وعبد الرحمن بن
معاوية العُتْبِيّ قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح، حدثنا موسى بن عبد
الرحمن الصنعاني، حدثني ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة
برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى
الله عليه وسلم .
وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هم أصحاب المشأمة.
وقال مالك عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة: هو المنافق.
ثم قد قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة "الواقعة" وآخرها.
والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو
ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من
طرق يشد بعضها بعضا، ونحن نورد منها ما تيسر:
الحديث الأول: قال
الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنه
سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله
عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، قال: "هؤلاء كلهم بمنـزلة واحدة وكلهم
في الجنة" . هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث شعبة، به نحوه .
ومعنى قوله: "بمنـزلة واحدة" أي: في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [علي] بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء،
رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: (
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون
الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم برحمته، فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ .
طريق أخرى:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: "فأما
الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن، ثم يدخل الجنة".
ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه
دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال: اللهم، آنس وحشتي، وارحم
غربتي، ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك
منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ
سمعته منه، ذكر هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ، فأما السابق بالخيرات
فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه
فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .
الحديث الثالث: قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس، حدثنا ابن مسعود، أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
، عن أسامة بن زيد: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) الآية، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة" .
الحديث الرابع: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَزيز، حدثنا سلامة، عن عَقِيل، عن ابن شهاب، عن عَوْف
بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي ثلاثة أثلات:
فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون
الجنة، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم
يقولون: "لا إله إلا الله وحده". يقول الله عز وجل: صدقوا، لا إله إلا أنا،
أدخلوهم الجنة بقولهم: "لا إله إلا الله وحده" واحملوا خطاياهم على أهل النار، وهي التي قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ
[العنكبوت: 13] ،وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة، قال الله تعالى: (
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )
فجعلهم ثلاثة أنواع ، وهم أصناف كلهم، فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص". غريب جدا .
أثر عن ابن مسعود: قال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا الحكيم بن بشير،
عن عمرو بن قيس، عن عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شَقِيق أبي
وائل، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة:
ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب
عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى-فتقول الملائكة: هؤلاء
جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء
في سعة رحمتي: وتلا عبد الله هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ] )
الآية.
أثر آخر: قال أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب
، عن عقبة بن صُهْبَان الهُنَائي قال: سألت عائشة، رضي الله عنها، عن قول
الله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) الآية، فقالت لي: يا بني،
هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما
المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي
ومثلكم. قال: فجعلت نفسها معنا .
وهذا منها، رضي الله عنها، من باب الهَضْم والتواضع، وإلا فهي من أكبر
السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقال عبد الله بن المبارك، رحمه الله: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان،
رضي الله عنه: في قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هي
لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عَوْف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب
الأحبار قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات
كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) إلى
قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ قال: فهؤلاء أهل النار.
[و] رواه ابن جرير من طرق، عن عوف، به. ثم قال:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا
عن قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ) إلى قوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال: تماسَّت مناكبهم ورَب
كعب ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن
قيس، عن أبي إسحاق السَّبِيعي في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية، قال أبو
إسحاق: أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
ثم قال: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو، عن محمد بن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
ورواه الثوري، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن رجل، عن محمد بن الحنفية، بنحوه.
وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي -يعني: الباقر-عن قوله: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) فقال: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا
تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء
أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام
أحمد، رحمه الله:
حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة
، عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء -وهو
بدمشق-فقال: ما أقدمك أيْ أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟
قال: لا؟ قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم،
وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل
العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة
الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم،
فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس -ومنهم من يقول: قيس بن كثير-عن أبي الدرداء . وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح "كتاب العلم" من "صحيح البخاري"، ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في أول "سورة طه" حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي
وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [أن] أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي" .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35) .
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب
المنـزل من رب العالمين يوم القيامة ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أي: جنات الإقامة
يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم، عز وجل، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ) ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي
الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" .
( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا،
فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وقال: "[لا
تشربوا في آنية الذهب والفضة] هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن
لَهِيعَة، عن عقيل بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أبا
أمامة حدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكر حلي أهل الجنة
فقال: "مسورون بالذهب والفضة، مُكَلَّلة بالدّر، وعليهم أكاليل من دُرّ
وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون" .
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهو
الخوف من المحذور، أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه، ونحذره من هموم
الدنيا والآخرة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم
ولا في منشرهم، وكأني بأهل "لا إله إلا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم،
ويقولون: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) رواه
ابن أبي حاتم من حديثه .
وقال الطبراني: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا يحيى بن موسى
المروزي، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي، عن عبد العزيز بن حكيم،
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل "لا إله
إلا الله" وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور .
وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب، يقولون: (
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ )
قال ابن عباس، وغيره: غَفَر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) : يقولون: الذي أعطانا هذه المنـزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه
ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا
رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل" .
( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) أي: لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
والنصَب واللغوب: كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم
، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا،
فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تعالى:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] .
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37) .
لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا ) ، كما قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه: 74] . وثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون" . قال [الله] تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
[الزخرف: 77] . فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى
ذلك، قال الله تعالى: ( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) ، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 74 ، 75] ، وقال كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [النبأ: 30] .
ثم قال: ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وقوله: ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) أي: ينادون فيها، يجأرون إلى
الله، عز وجل بأصواتهم: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير
عملهم الأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم
إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم
إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
[غافر: 11، 12] ، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم
لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو
كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر
بطول العمر، قد نـزلت هذه الآية: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا
قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في
قوله: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ )
قال: عشرين سنة.
وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال: أربعين سنة.
وقال هُشَيْم [أيضا] ، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا
بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت
ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان
بن خثيم ، عن مجاهد
، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت
في ذلك من الحديث -كما سنورده-لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛
لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى
أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: العمر الذي عَيَّرهم الله
به في قوله تعالى: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) ستون سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك،
حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن
عَطاء -هو ابن أبي رباح-عن ابن عباس رضي الله عنهما
، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء
الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير ) .
وكذا رواه ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، به. وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به . وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل، والله أعلم.
حديث آخر: قال
الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن
سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله
إليه، لقد أعذر الله إليه" .
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه: حدثنا عبد السلام
بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري، عن سعيد
المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة".
ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُرِيّ .
فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن
سَوَّار، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا
أبو حازم، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "[من عَمَّرَه] الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر".
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به .
ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم،
عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". يعني: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) .
وأما متابعة "ابن عجلان" فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن
محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا
سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن عجلان، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر".
وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ ، به . ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق أخرى عن أبي هريرة: قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة
الحِمْصِي، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني،
حدثني مَعْمَر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول: سمعت
أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعذر الله عز وجل،
إلى صاحب الستين سنة والسبعين" .
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن
إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول
ابن جرير:"إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره"، لا يلتفت إليه مع
تصحيح البخاري، والله أعلم.
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا
يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال
الشاعر:
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم
العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن
بن عرفة، رحمه الله:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين
الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة،
به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن أبي هريرة حيث قال:
حدثنا سليمان
بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى
السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
وقد رواه الترمذي في "كتاب الزهد" أيضا، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به . ثم قال: هذا حديث حسن غريب، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين، والله أعلم.
وقال
الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني
إبراهيم بن الفضل -مولى بني مخزوم-عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى
السبعين".
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقل أمتي أبناء سبعين". إسناده ضعيف .
حديث آخر في معنى ذلك: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن
أبي مالك، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال: يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك.
قال: "ما بين الخمسين إلى الستين" قالوا: يا رسول الله، فأبناء السبعين؟
قال: "قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء
الثمانين".
ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين
سنة. وقيل: ستين. وقيل: خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.
وقوله: ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) : روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي
جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.
وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [النجم: 56] . وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77 ، 78] ، أي: لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: 15] ، وقال تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا
بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8، 9] .
وقوله: ( فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) أي: فذوقوا
عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم
ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) .
يقول تعالى: ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد من الكتاب، وهو
القرآن ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي: من الكتب
المتقدمة يصدقها، كما شهدت له بالتنويه ، وأنه منـزل من رب العالمين.
( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) أي: هو خبير بهم، بصير
بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع
البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منـزلة محمد
صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) .
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من
الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع
، فقال: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وهو: المفرط في فعل بعض
الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. ( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) وهو: المؤدي
للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) وهو: الفاعل
للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ [ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] ) ، قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب أنـزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، وعبد الرحمن بن
معاوية العُتْبِيّ قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح، حدثنا موسى بن عبد
الرحمن الصنعاني، حدثني ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة
برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى
الله عليه وسلم .
وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هم أصحاب المشأمة.
وقال مالك عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة: هو المنافق.
ثم قد قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة "الواقعة" وآخرها.
والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو
ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من
طرق يشد بعضها بعضا، ونحن نورد منها ما تيسر:
الحديث الأول: قال
الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنه
سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله
عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، قال: "هؤلاء كلهم بمنـزلة واحدة وكلهم
في الجنة" . هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث شعبة، به نحوه .
ومعنى قوله: "بمنـزلة واحدة" أي: في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [علي] بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء،
رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: (
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون
الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم برحمته، فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ .
طريق أخرى:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: "فأما
الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن، ثم يدخل الجنة".
ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه
دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال: اللهم، آنس وحشتي، وارحم
غربتي، ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك
منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ
سمعته منه، ذكر هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ، فأما السابق بالخيرات
فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه
فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .
الحديث الثالث: قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس، حدثنا ابن مسعود، أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
، عن أسامة بن زيد: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) الآية، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة" .
الحديث الرابع: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَزيز، حدثنا سلامة، عن عَقِيل، عن ابن شهاب، عن عَوْف
بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي ثلاثة أثلات:
فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون
الجنة، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم
يقولون: "لا إله إلا الله وحده". يقول الله عز وجل: صدقوا، لا إله إلا أنا،
أدخلوهم الجنة بقولهم: "لا إله إلا الله وحده" واحملوا خطاياهم على أهل النار، وهي التي قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ
[العنكبوت: 13] ،وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة، قال الله تعالى: (
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )
فجعلهم ثلاثة أنواع ، وهم أصناف كلهم، فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص". غريب جدا .
أثر عن ابن مسعود: قال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا الحكيم بن بشير،
عن عمرو بن قيس، عن عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شَقِيق أبي
وائل، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة:
ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب
عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى-فتقول الملائكة: هؤلاء
جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء
في سعة رحمتي: وتلا عبد الله هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ] )
الآية.
أثر آخر: قال أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب
، عن عقبة بن صُهْبَان الهُنَائي قال: سألت عائشة، رضي الله عنها، عن قول
الله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) الآية، فقالت لي: يا بني،
هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما
المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي
ومثلكم. قال: فجعلت نفسها معنا .
وهذا منها، رضي الله عنها، من باب الهَضْم والتواضع، وإلا فهي من أكبر
السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقال عبد الله بن المبارك، رحمه الله: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان،
رضي الله عنه: في قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هي
لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عَوْف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب
الأحبار قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات
كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) إلى
قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ قال: فهؤلاء أهل النار.
[و] رواه ابن جرير من طرق، عن عوف، به. ثم قال:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا
عن قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ) إلى قوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال: تماسَّت مناكبهم ورَب
كعب ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن
قيس، عن أبي إسحاق السَّبِيعي في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية، قال أبو
إسحاق: أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
ثم قال: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو، عن محمد بن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
ورواه الثوري، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن رجل، عن محمد بن الحنفية، بنحوه.
وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي -يعني: الباقر-عن قوله: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) فقال: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا
تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء
أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام
أحمد، رحمه الله:
حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة
، عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء -وهو
بدمشق-فقال: ما أقدمك أيْ أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟
قال: لا؟ قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم،
وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل
العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة
الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم،
فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس -ومنهم من يقول: قيس بن كثير-عن أبي الدرداء . وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح "كتاب العلم" من "صحيح البخاري"، ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في أول "سورة طه" حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي
وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [أن] أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي" .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35) .
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب
المنـزل من رب العالمين يوم القيامة ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أي: جنات الإقامة
يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم، عز وجل، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ) ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي
الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" .
( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا،
فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وقال: "[لا
تشربوا في آنية الذهب والفضة] هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن
لَهِيعَة، عن عقيل بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أبا
أمامة حدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكر حلي أهل الجنة
فقال: "مسورون بالذهب والفضة، مُكَلَّلة بالدّر، وعليهم أكاليل من دُرّ
وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون" .
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهو
الخوف من المحذور، أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه، ونحذره من هموم
الدنيا والآخرة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم
ولا في منشرهم، وكأني بأهل "لا إله إلا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم،
ويقولون: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) رواه
ابن أبي حاتم من حديثه .
وقال الطبراني: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا يحيى بن موسى
المروزي، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي، عن عبد العزيز بن حكيم،
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل "لا إله
إلا الله" وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور .
وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب، يقولون: (
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ )
قال ابن عباس، وغيره: غَفَر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) : يقولون: الذي أعطانا هذه المنـزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه
ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا
رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل" .
( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) أي: لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
والنصَب واللغوب: كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم
، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا،
فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تعالى:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] .
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37) .
لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا ) ، كما قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه: 74] . وثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون" . قال [الله] تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
[الزخرف: 77] . فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى
ذلك، قال الله تعالى: ( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) ، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 74 ، 75] ، وقال كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [النبأ: 30] .
ثم قال: ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وقوله: ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) أي: ينادون فيها، يجأرون إلى
الله، عز وجل بأصواتهم: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير
عملهم الأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم
إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم
إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
[غافر: 11، 12] ، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم
لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو
كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر
بطول العمر، قد نـزلت هذه الآية: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا
قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في
قوله: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ )
قال: عشرين سنة.
وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال: أربعين سنة.
وقال هُشَيْم [أيضا] ، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا
بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت
ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان
بن خثيم ، عن مجاهد
، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت
في ذلك من الحديث -كما سنورده-لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛
لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى
أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: العمر الذي عَيَّرهم الله
به في قوله تعالى: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) ستون سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك،
حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن
عَطاء -هو ابن أبي رباح-عن ابن عباس رضي الله عنهما
، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء
الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير ) .
وكذا رواه ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، به. وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به . وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل، والله أعلم.
حديث آخر: قال
الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن
سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله
إليه، لقد أعذر الله إليه" .
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه: حدثنا عبد السلام
بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري، عن سعيد
المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة".
ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُرِيّ .
فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن
سَوَّار، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا
أبو حازم، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "[من عَمَّرَه] الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر".
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به .
ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم،
عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". يعني: ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) .
وأما متابعة "ابن عجلان" فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن
محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا
سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن عجلان، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر".
وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ ، به . ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق أخرى عن أبي هريرة: قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة
الحِمْصِي، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني،
حدثني مَعْمَر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول: سمعت
أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعذر الله عز وجل،
إلى صاحب الستين سنة والسبعين" .
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن
إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول
ابن جرير:"إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره"، لا يلتفت إليه مع
تصحيح البخاري، والله أعلم.
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا
يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال
الشاعر:
إذَا بَلَــغَ الفتَــى ســتينَ عَامــا | فقــد ذَهَــبَ المَسَــرَّةُ والفَتَــاءُ |
العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن
بن عرفة، رحمه الله:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين
الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة،
به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن أبي هريرة حيث قال:
حدثنا سليمان
بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى
السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
وقد رواه الترمذي في "كتاب الزهد" أيضا، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به . ثم قال: هذا حديث حسن غريب، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين، والله أعلم.
وقال
الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني
إبراهيم بن الفضل -مولى بني مخزوم-عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى
السبعين".
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقل أمتي أبناء سبعين". إسناده ضعيف .
حديث آخر في معنى ذلك: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن
أبي مالك، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال: يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك.
قال: "ما بين الخمسين إلى الستين" قالوا: يا رسول الله، فأبناء السبعين؟
قال: "قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء
الثمانين".
ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين
سنة. وقيل: ستين. وقيل: خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.
وقوله: ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) : روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي
جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.
وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [النجم: 56] . وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77 ، 78] ، أي: لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: 15] ، وقال تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا
بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8، 9] .
وقوله: ( فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) أي: فذوقوا
عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم
ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة فاطر
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة فاطر
جزاك الله خيرا على الموضوع
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
yarb.rdak- عضو قيد النشاط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 40
تاريخ الميلاد : 15/12/1975
العمر : 48
مواضيع مماثلة
» الجزء الاول من تفسير سورة فاطر
» الجزء الثاني من تفسير سورة فاطر
» الجزء الثالث من تفسير سورة فاطر
» الجزء الرابع من تفسير سورة فاطر
» الجزء السادس من تفسير سورة فاطر
» الجزء الثاني من تفسير سورة فاطر
» الجزء الثالث من تفسير سورة فاطر
» الجزء الرابع من تفسير سورة فاطر
» الجزء السادس من تفسير سورة فاطر
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة فاطر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى