الجزء الخامس من تفسير سورة يس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة يس
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
يخبر تعالى عن أهل الجنة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات
فنـزلوا في روضات الجنات: أنهم ( فِي شُغُلٍ [ فَاكِهُونَ ) أي: في شغل] عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: ( فِي شُغُلٍ ) عما فيه أهل النار من العذاب.
وقال مجاهد: ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي: في نعيم معجبون، أي: به. وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس: ( فَاكِهُونَ ) أي فرحون.
وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة،
والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: ( إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قالوا: شغلهم
افتضاض الأبكار.
وقال ابن عباس -في رواية عنه -: ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي بسماع الأوتار.
وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله: ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) قال مجاهد: وحلائلهم ( فِي ظِلالٍ ) أي: في ظلال الأشجار ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) .
قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف : ( الأرَائِكِ ) هي السرر تحت الحجال.
قلت: نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين، والله أعلم.
وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) أي: من جميع أنواعها، ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن
كثير بن دينار، حدثنا محمد بن مهاجر، عن الضحاك المَعَافري، عن سليمان بن موسى، حدثني كُرَيْب؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة
لا خَطر لها هي -ورب الكعبة-نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مَشيد،
ونهر مُطَّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد،
في دار سلامة، وفاكهة خضرة وحَبْرَة ونعمة، ومحلة عالية بَهيَّة". قالوا:
نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: "قولوا: إن شاء الله". قال
القوم: إن شاء الله.
وكذا رواه ابن ماجه في "كتاب الزهد" من سننه، من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن مُهَاجر، به .
وقوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال ابن جريج: قال ابن
عباس في قوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) فإن الله نفسه سلام
على أهل الجنة.
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب : 44]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر، فإنه قال: حدثنا
موسى بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم
العَبَّاداني، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن
عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا
أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد
أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: (
سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ )" . قال: "فينظر إليهم وينظرون إليه،
فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم،
ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم".
ورواه ابن ماجه في "كتاب السنة" من سننه ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، به.
وقال
ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا حَرْمَلة، عن
سليمان بن حُمَيد قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد
العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظُلَل من الغمام
والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام -قال القرظي:
وهذا في كتاب الله ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) -فيقول: سلوني.
فيقولون: ماذا نسألك أيْ ربّ؟ قال: بلى سلوني. قالوا: نسألك -أيْ رب-رضاك.
قال: رضائي أحلكم دار كرامتي. قالوا: يا رب، فما الذي نسألك، فوعزتك وجلالك
وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم
ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا ينقصنا ذلك شيئًا. قال: إن لديَّ مزيدًا. قال
فيفعل ذلك بهم في درجهم، حتى يستوي في مجلسه. قال: ثم تأتيهم التحف من
الله، عز وجل، تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه.
وهذا أثر غريب، أورده ابن جرير من طرق.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) .
يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس:28] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] ، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أي: يصيرون صدْعَين فرقتين، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22 ، 23] .
وقوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا
تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) : هذا تقريع من
الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا
الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان،
وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان
فيما أمركم به؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا )
، يقال: "جِبِلا" بكسر الجيم، وتشديد اللام. ويقال: "جُبُلا" بضم الجيم
والباء، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن الباء. والمراد بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.
وقوله: ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ؟ أي: أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعُدُولُكم إلى اتباع الشيطان؟!
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، يقول:
( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )
امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله
تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] .
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة، وقد برزَت الجحيم لهم تقريعًا
وتوبيخًا: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي: هذه التي
حذرتكم الرسل فكذبتموهم، ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ ) ، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور: 13-15] .
وقوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) : هذا
حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا،
ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة،
حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن
عبيد المُكتب، عن الفُضَيْل بن عمرو، عن الشعبي،
عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت
نواجذه، ثم قال: " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من
مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي. فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين
شهودا. فيختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي. فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه
وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر،
عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان -هو الثوري-به. ثم قال النسائي: [لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله تعالى أعلم.
كذا قال، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي -وهو العَقَدِيّ-عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة أفواهكم بالفِدَام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه". رواه النسائي] عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به .
وقال سفيان بن عيينة، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل، قال فيه: "ثم
يلقى
الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك، آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت
وصليت وتصدقت -ويثني بخير ما استطاع-قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ قال: فيفكر في نفسه، من الذي يشهد عليه، فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه. وذلك الذي سخط الله عليه".
ورواه مسلم وأبو داود، من حديث سفيان بن عيينة، به بطوله .
ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا
إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد،
عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم
من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذُه من الرِّجل اليسرى". .
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، به مثله .
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد، رحمه الله، فقال: حدثنا الحكم بن نافع،
حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عُبَيد
الحضرمي، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذه من الرجل الشمال".
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا يونس
بن عُبَيد، عن حُمَيد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري، رضي الله عنه-: يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت. قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها. قال: فما على الأرض خَليقة ترى
من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى
الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد فيقول: أي رب،
وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل. فيقول له الملك: أما عملت كذا، في
يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه. فإذا فعل ذلك
خُتِم على فيه. قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ
اليمنى، ثم تلا ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا
الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في
تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مرة : أعميناهم.
وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عُميًا يترددون.
وقال السدي: لو شِئْنا أعمينا أبصارهم.
وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) يعني: الطريق.
وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمسنا على أعينهم؟
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) ]يقول] : لا يبصرون الحق.
وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم ) قال العوفي عن ابن عباس: أهلكناهم.
وقال السدي: يعني: لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم.
وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة.
وقال الحسن البصري، وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم.
ولهذا قال تعالى: ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا ) أي: إلى أمام، ( وَلا
يَرْجِعُونَ ) أي: إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدًا، لا يتقدمون ولا
يتأخرون.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى: اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] . وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] .
والمراد من هذا -والله أعلم-الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال
وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أي:
يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [نفس] الشَّبيبَة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.
وقوله: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) : يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
: أنه ما علمه الشعر، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي: وما هو في طبعه، فلا
يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه، عليه الصلاة
والسلام، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم
يتمه.
وقال أبو زُرْعة الرازي: حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن
الشعبي أنه قال: ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر، إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب"
الذي أكله السَّبُع بالزرقاء .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن -هو البصري-قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
فقال أبو بكر: يا رسول الله:
قال أبو بكر، أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) .
وهكذا روى البيهقي في الدلائل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للعباس بن مرداس السلمي: "أنت القائل:
فقال: إنما هو: "بين عيينة والأقرع" فقال: "الكل سواء".
يعني: في المعنى، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في
كلامه، عليه السلام، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها، حاصلها شَرَفُ الأقرع
بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري؛ لأنه ارتد أيام الصديق، بخلاف ذاك،
والله أعلم.
وهكذا روى الأموي في مغازيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي
بين القتلى يوم بدر، وهو يقول: "نُفلق
هَامًا.................................." .
فيقول الصديق، رضي الله عنه، متمما للبيت:
وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له، وهي في الحماسة .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا مغيرة، عن الشعبي، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طَرَفَة:
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن هانئ، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، كذلك. ثم قال الترمذي. هذا حديث حسن صحيح .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أسامة، عن
زائدة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
ثم قال: رواه غير زائدة، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن عائشة.
وهذا في شعر طرفة بن العبد، في معلقته المشهورة، وهذا المذكور [هو عجز بيت] منها، أوله:
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الحافظ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم -وكيل المتقي ببغداد-حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط، إلا بيتا واحدًا.
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي عن هذا الحديث، فقال: هو منكر. ولم يعرف شيخ الحاكم، ولا الضرير.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغضَ الحديث إليه، غير أنه
كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، وآخره أوله. فقال أبو بكر
ليس هكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما أنا بشاعر ولا
ينبغي لي". رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذا لفظه.
وقال معمر عن قتادة: بلغنى أن عائشة سُئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا إلا بيت طَرَفَة:
فجعل يقول: "مَن لم تُزَوّد بالأخبار". فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا. فقال: "إني لست بشاعر، ولا ينبغي لي"
وثبت في الصحيحين أنه، عليه الصلاة والسلام، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات
عبد الله بن رواحة، ولكن تبعًا لقول أصحابه، فإنهم كانوا يرتجزون وهم
يحفرون، فيقولون:
ويرفع صوته بقوله: "أبينا" ويمدها . وقد روي هذا بزحاف في الصحيح أيضًا. وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة، يُقدم بها في نحور العدو:
لكن قالوا: هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فَنَكِبت أصبعه، فقال:
وسيأتي عند قوله تعالى: إِلا اللَّمَمَ [النجم: 32] إنشاد
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما عُلِّم شعرًا ولا ينبغي له؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم،الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] . وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يُؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال وآراء الجُهَّال. وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا، كما رواه أبو داود قال:
حدثنا عبيد الله بن عُمَر، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول : [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول] : "ما أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي". تفرد به أبو داود .
وقال
الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن الأسود بن شيبان،
عن أبي نوفل قال: سألتُ عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع
عنده الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك .
وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن
يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا". تفرد به من هذا الوجه،
وإسناده على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
وقال الإمام أحمد: حدثنا بريد، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي، عن
عاصم بن مَخْلَد، عن أبي الأشعث، الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب فقال: عن ابن
عاصم، عن [أبي] الأشعث عن شَدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة، لم تقبل له صلاة تلك الليلة" .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
والمراد بذلك نظمه لا إنشاده، والله أعلم. على أن الشعر فيه ما هو مشروع،
وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت، وكعب بن
مالك، وعبد الله بن رَوَاحة، وأمثالهم وأضرابهم، رضي الله عنهم أجمعين.
ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم
أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم: "آمن شعره
وكفر قلبه" . وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت، يقول عقب كل بيت: "هيه". يعني يستطعمه، فيزيده من ذلك .
وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب، وبُريدة بن الحُصَيْب ، وعبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكما" .
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) يعني: محمدًا صلى
الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي: وما يصلح
له، ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: ما هذا الذي علمناه،
( إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره.
ولهذا قال: ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) أي: لينذر هذا القرآن البيّن
كلّ حي على وجه الأرض، كقوله: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
[هود: 17] . وإنما ينتفع بنذارته من هو حَيّ القلب، مستنير البصيرة، كما
قال قتادة: حي القلب، حي البصر. وقال الضحاك: يعني: عاقلا ( وَيَحِقَّ
الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) أي: هو رحمة للمؤمن، وحجة على الكافر.
يخبر تعالى عن أهل الجنة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات
فنـزلوا في روضات الجنات: أنهم ( فِي شُغُلٍ [ فَاكِهُونَ ) أي: في شغل] عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: ( فِي شُغُلٍ ) عما فيه أهل النار من العذاب.
وقال مجاهد: ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي: في نعيم معجبون، أي: به. وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس: ( فَاكِهُونَ ) أي فرحون.
وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة،
والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: ( إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قالوا: شغلهم
افتضاض الأبكار.
وقال ابن عباس -في رواية عنه -: ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي بسماع الأوتار.
وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله: ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) قال مجاهد: وحلائلهم ( فِي ظِلالٍ ) أي: في ظلال الأشجار ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) .
قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف : ( الأرَائِكِ ) هي السرر تحت الحجال.
قلت: نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين، والله أعلم.
وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) أي: من جميع أنواعها، ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن
كثير بن دينار، حدثنا محمد بن مهاجر، عن الضحاك المَعَافري، عن سليمان بن موسى، حدثني كُرَيْب؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة
لا خَطر لها هي -ورب الكعبة-نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مَشيد،
ونهر مُطَّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد،
في دار سلامة، وفاكهة خضرة وحَبْرَة ونعمة، ومحلة عالية بَهيَّة". قالوا:
نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: "قولوا: إن شاء الله". قال
القوم: إن شاء الله.
وكذا رواه ابن ماجه في "كتاب الزهد" من سننه، من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن مُهَاجر، به .
وقوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال ابن جريج: قال ابن
عباس في قوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) فإن الله نفسه سلام
على أهل الجنة.
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب : 44]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر، فإنه قال: حدثنا
موسى بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم
العَبَّاداني، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن
عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا
أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد
أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: (
سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ )" . قال: "فينظر إليهم وينظرون إليه،
فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم،
ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم".
ورواه ابن ماجه في "كتاب السنة" من سننه ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، به.
وقال
ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا حَرْمَلة، عن
سليمان بن حُمَيد قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد
العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظُلَل من الغمام
والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام -قال القرظي:
وهذا في كتاب الله ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) -فيقول: سلوني.
فيقولون: ماذا نسألك أيْ ربّ؟ قال: بلى سلوني. قالوا: نسألك -أيْ رب-رضاك.
قال: رضائي أحلكم دار كرامتي. قالوا: يا رب، فما الذي نسألك، فوعزتك وجلالك
وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم
ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا ينقصنا ذلك شيئًا. قال: إن لديَّ مزيدًا. قال
فيفعل ذلك بهم في درجهم، حتى يستوي في مجلسه. قال: ثم تأتيهم التحف من
الله، عز وجل، تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه.
وهذا أثر غريب، أورده ابن جرير من طرق.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) .
يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس:28] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] ، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أي: يصيرون صدْعَين فرقتين، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22 ، 23] .
وقوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا
تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) : هذا تقريع من
الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا
الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان،
وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان
فيما أمركم به؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا )
، يقال: "جِبِلا" بكسر الجيم، وتشديد اللام. ويقال: "جُبُلا" بضم الجيم
والباء، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن الباء. والمراد بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.
وقوله: ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ؟ أي: أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعُدُولُكم إلى اتباع الشيطان؟!
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، يقول:
( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )
امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله
تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] .
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة، وقد برزَت الجحيم لهم تقريعًا
وتوبيخًا: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي: هذه التي
حذرتكم الرسل فكذبتموهم، ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ ) ، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور: 13-15] .
وقوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) : هذا
حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا،
ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة،
حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن
عبيد المُكتب، عن الفُضَيْل بن عمرو، عن الشعبي،
عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت
نواجذه، ثم قال: " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من
مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي. فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين
شهودا. فيختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي. فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه
وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر،
عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان -هو الثوري-به. ثم قال النسائي: [لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله تعالى أعلم.
كذا قال، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي -وهو العَقَدِيّ-عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة أفواهكم بالفِدَام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه". رواه النسائي] عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به .
وقال سفيان بن عيينة، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل، قال فيه: "ثم
يلقى
الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك، آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت
وصليت وتصدقت -ويثني بخير ما استطاع-قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ قال: فيفكر في نفسه، من الذي يشهد عليه، فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه. وذلك الذي سخط الله عليه".
ورواه مسلم وأبو داود، من حديث سفيان بن عيينة، به بطوله .
ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا
إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد،
عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم
من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذُه من الرِّجل اليسرى". .
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، به مثله .
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد، رحمه الله، فقال: حدثنا الحكم بن نافع،
حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عُبَيد
الحضرمي، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذه من الرجل الشمال".
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا يونس
بن عُبَيد، عن حُمَيد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري، رضي الله عنه-: يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت. قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها. قال: فما على الأرض خَليقة ترى
من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى
الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد فيقول: أي رب،
وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل. فيقول له الملك: أما عملت كذا، في
يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه. فإذا فعل ذلك
خُتِم على فيه. قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ
اليمنى، ثم تلا ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا
الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في
تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مرة : أعميناهم.
وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عُميًا يترددون.
وقال السدي: لو شِئْنا أعمينا أبصارهم.
وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) يعني: الطريق.
وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمسنا على أعينهم؟
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) ]يقول] : لا يبصرون الحق.
وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم ) قال العوفي عن ابن عباس: أهلكناهم.
وقال السدي: يعني: لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم.
وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة.
وقال الحسن البصري، وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم.
ولهذا قال تعالى: ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا ) أي: إلى أمام، ( وَلا
يَرْجِعُونَ ) أي: إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدًا، لا يتقدمون ولا
يتأخرون.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى: اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] . وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] .
والمراد من هذا -والله أعلم-الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال
وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أي:
يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [نفس] الشَّبيبَة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.
وقوله: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) : يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
: أنه ما علمه الشعر، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي: وما هو في طبعه، فلا
يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه، عليه الصلاة
والسلام، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم
يتمه.
وقال أبو زُرْعة الرازي: حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن
الشعبي أنه قال: ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر، إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب"
الذي أكله السَّبُع بالزرقاء .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن -هو البصري-قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا |
كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا |
وهكذا روى البيهقي في الدلائل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للعباس بن مرداس السلمي: "أنت القائل:
أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة". |
يعني: في المعنى، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في
كلامه، عليه السلام، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها، حاصلها شَرَفُ الأقرع
بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري؛ لأنه ارتد أيام الصديق، بخلاف ذاك،
والله أعلم.
وهكذا روى الأموي في مغازيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي
بين القتلى يوم بدر، وهو يقول: "نُفلق
هَامًا.................................." .
فيقول الصديق، رضي الله عنه، متمما للبيت:
..... مِـــنْ رجَـــال أعـــزَّةٍ | عَلَيْنَــا وَهُـم كَـانُوا أعَـقَّ وَأظلمـا |
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا مغيرة، عن الشعبي، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طَرَفَة:
ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ |
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أسامة، عن
زائدة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ |
وهذا في شعر طرفة بن العبد، في معلقته المشهورة، وهذا المذكور [هو عجز بيت] منها، أوله:
سَـتُبْدي لـكَ الأيـامُ مَـا كُنْتَ جَاهلا | وَيَـأتيك بالأخْبَــارِ مَـنْ لَـمْ تُـزَوِّدِ | |
وَيَـأتيكَ بالأخْبَـار مَـنْ لَـمْ تَبِـع لهُ | بَتَاتـا ولـم تَضـرب لـه وَقْتَ مَوْعِدِ |
تَفَــاءلْ بمـا تَهْـوَى يَكُـنْ فَلَقَلَّمَـا | يُقَــالُ لِشَــيْءٍ كَــانَ إلا تَحَقَّقَـا |
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغضَ الحديث إليه، غير أنه
كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، وآخره أوله. فقال أبو بكر
ليس هكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما أنا بشاعر ولا
ينبغي لي". رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذا لفظه.
وقال معمر عن قتادة: بلغنى أن عائشة سُئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا إلا بيت طَرَفَة:
سَـتُبْدي لـكَ الأيـامُ مَـا كُنْتَ جَاهلا | وَيَــأْتيك بالأخبـارِ مَـنْ لَـمْ تُـزَوِّدِ |
وثبت في الصحيحين أنه، عليه الصلاة والسلام، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات
عبد الله بن رواحة، ولكن تبعًا لقول أصحابه، فإنهم كانوا يرتجزون وهم
يحفرون، فيقولون:
لاهُـمَّ لوْلا أنت مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا | وَلا تَصَدَّقْــنَــــا وَلا صَلَّيْنَـــا | |
فَــأَنـزلَـنْ سَــكِينَــةً عَـلَيْنَـا | وَثَبِّـــت الأقْــــدَامَ إنْ لاقَيْنَــا | |
إنّ الألــى قَــدْ بَغَــوا عَلــيْنَـا | إذَا أرَادُوا فِتْـــنَــــةً أَبَيْنَـــا |
أنــــا النَّبِــــيّ لا كَــــذِبْ | أنَـــا ابْـــنُ عُبْــد المُطَّلِــبْ |
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فَنَكِبت أصبعه، فقال:
هَــلْ أنْــت إلا إصْبَــعٌ دَمِيــت | وفــي سَــبيل اللــه مَـا لَقِيـت |
إنْ تَغْفــر اللَّهُــمَّ تَغْفِــرْ جَمَّــا | وَأيُّ عَبْـــدٍ لـــكَ مَــا ألَمَّــا |
حدثنا عبيد الله بن عُمَر، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول : [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول] : "ما أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي". تفرد به أبو داود .
وقال
الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن الأسود بن شيبان،
عن أبي نوفل قال: سألتُ عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع
عنده الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك .
وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن
يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا". تفرد به من هذا الوجه،
وإسناده على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
وقال الإمام أحمد: حدثنا بريد، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي، عن
عاصم بن مَخْلَد، عن أبي الأشعث، الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب فقال: عن ابن
عاصم، عن [أبي] الأشعث عن شَدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة، لم تقبل له صلاة تلك الليلة" .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
والمراد بذلك نظمه لا إنشاده، والله أعلم. على أن الشعر فيه ما هو مشروع،
وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت، وكعب بن
مالك، وعبد الله بن رَوَاحة، وأمثالهم وأضرابهم، رضي الله عنهم أجمعين.
ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم
أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم: "آمن شعره
وكفر قلبه" . وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت، يقول عقب كل بيت: "هيه". يعني يستطعمه، فيزيده من ذلك .
وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب، وبُريدة بن الحُصَيْب ، وعبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكما" .
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) يعني: محمدًا صلى
الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي: وما يصلح
له، ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: ما هذا الذي علمناه،
( إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي: بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره.
ولهذا قال: ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) أي: لينذر هذا القرآن البيّن
كلّ حي على وجه الأرض، كقوله: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
[هود: 17] . وإنما ينتفع بنذارته من هو حَيّ القلب، مستنير البصيرة، كما
قال قتادة: حي القلب، حي البصر. وقال الضحاك: يعني: عاقلا ( وَيَحِقَّ
الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) أي: هو رحمة للمؤمن، وحجة على الكافر.
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة يس
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة يس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس من تفسير سورة هود
» الجزء الخامس من تفسير سورة طه
» الجزء الخامس من تفسير سورة ص
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة هود
» الجزء الخامس من تفسير سورة الصافات
» الجزء الخامس من تفسير سورة طه
» الجزء الخامس من تفسير سورة ص
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة هود
» الجزء الخامس من تفسير سورة الصافات
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى