الجزء الرابع من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع من تفسير سورة المائدة
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (6)
قال كثيرون من السلف: قوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) معناه وأنتم مُحْدِثون.
وقال آخرون: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب.
وقال آخرون: بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى
الصلاة، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب، وفي حق المتطهر على سبيل
الندب والاستحباب. وقد قيل: إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء
الإسلام، ثم نسخ.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن عَلْقَمَة بن مرثد، عن سليمان بن بُرَيْدة
عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان
يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: يا
رسول الله، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ قال: "إني عمدًا فعلته يا عمر.
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجه، عن سفيان عن محارب بن دِثَار -بدل علقمة بن مرثد-كلاهما عن سليمان بن بُريدة به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى، أخبرنا زياد بن عبد الله بن
الطفيل البكائي، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال: رأيت جابر بن عبد الله
يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طَهُوره
الخفين. فقلت: أبا عبد الله، شيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه، كما رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصنع.
وكذا رواه ابن ماجه، عن إسماعيل بن تَوْبة، عن زياد البكائي، به وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن
إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الله
بن عمر قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو
غير طاهر، عَمَّن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؛ أن عبد الله بن
حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء، إلا من
حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك، كان يفعله حتى مات.
وكذا رواه أبو داود، عن محمد بن عَوْف الحِمْصِيّ، عن أحمد بن خالد الذهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر
ثم قال أبو داود: ورواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق فقال: عبيد الله
بن عبد الله بن عمر، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد.
وأيا ما كان فهو
إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن
حَبَّان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر: رواه سلمة بن
الفضل وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة،
عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، به، والله أعلم. وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور. .
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا أزْهَر، عن ابن عَوْن، عن ابن سِيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، سمعت مسعود بن علي الشيباني، سمعت
عِكْرِمة يقول: كان علي، رضي الله عنه، يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه
الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )
الآية.
وحدثنا ابن المثنى، حدثني وَهْب بن جرير، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن
ميسرة، عن النـزال بن سبرة قال: رأيت عليًا صلى الظهر، ثم قعد للناس في
الرّحْبة، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال هذا وضوء من لم يُحْدث.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم عن مغيرة، عن إبراهيم؛ أن عليًا اكماز من حُبٍّ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث ". وهذه طرق جيدة عن علي [رضي الله عنه] يقوي بعضها بعضا.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن
حُمَيْد، عن أنس قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز، خفيفا، فقال هذا وضوء من لم يحدث. وهذا إسناد صحيح.
وقال محمد بن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة..
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن
المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم
هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت
السنة على ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ، حدثنا سفيان، عن عمرو
بن عامر الأنصاري، سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر، به.
وقال ابن جرير: حدثني أبو سعيد البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، عن
هُرَيم، عن عبد الرحمن بن زياد -هو الإفريقي-عن أبي غُطَيف، عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ على طُهْر كتب له عشر حسنات ".
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس، عن الإفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، فذكره، وفيه قصة.
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث الإفريقي، به نحوه وقال الترمذي: وهو إسناد ضعيف.
قال ابن جرير: وقد قال قوم: إن هذه الآية نـزلت إعلاما من الله أن
الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة، دون غيرها من الأعمال؛ وذلك لأنه
عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ.
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان
عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عن عبد الله بن
عَلْقَمَة بن الفَغَواء، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نـزلت آية
الرخصة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
) الآية.
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم، عن أبي كُرَيْب، به نحوه. وهو حديث غريب جدًا، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، ضعفوه.
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب،عن عبد الله
بن أبي مُلَيكة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
من الخلاء، فَقُدِّم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوَضُوء فقال: "إنما
أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة.
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل -وهو ابن علية-به وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن
دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه
وسلم فأتى الخلاء، ثم إنه رجع فأتى بطعام، فقيل: يا رسول الله، ألا تتوضأ؟
فقال: "لِمَ؟ أأصلي فأتوضأ؟".
وقوله: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) قد استدل طائفة من العلماء بقوله: (
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) على وجوب النية
في الوضوء؛ لأن تقدير الكلام: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها"،
كما تقول العرب: "إذا رأيت الأمير فقم" أي: له. وقد ثبت في الصحيحين حديث:
"الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه؛ لما ورد في الحديث من طرق جيدة، عن جماعة من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء
ويتأكد ذلك عند القيام من النوم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه، فلا
يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت
يده".
وحَدُّ الوجه عند الفقهاء: ما بين منابت شعر الرأس -ولا اعتبار بالصَّلع
ولا بالغَمَم-إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا،
وفي النـزعتين والتحذيف خلاف، هل هما من
الرأس أو الوجه، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان، أحدهما: أنه
يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة. وروي في حديث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته، فقال: "اكشفها، فإن اللحية من الوجه"
وقال مجاهد: هي من الوجه، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته: طلع وجهه.
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة، قال الإمام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة، عن أبي وائل
قال: رأيت عثمان توضأ -فذكر الحديث-قال: وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت.
رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع، حدثنا أبو المَلِيح، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه، يخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني به ربي عز وجل.
تفرد به أبو داود وقد رُوي هذا
من غير وجه عن أنس. قال البيهقي: وروينا في تخليل اللحية عن عمار، وعائشة،
وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن علي وغيره، وروينا في الرخصة
في تركه عن ابن عمر، والحسن بن علي، ثم عن النخعي، وجماعة من التابعين.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها: أنه كان إذا توضأ تمضمض
واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك: هل هما واجبان في الوضوء والغسل، كما هو
مذهب أحمد بن حنبل، رحمه الله؟ أو مستحبان فيهما، كما هو مذهب الشافعي
ومالك؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة، عن رفاعة
بن رافع الزّرقي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: "توضأ
كما أمرك الله" أو يجبان في الغسل دون الوضوء، كما هو مذهب أبي حنيفة؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فليستنثر" وفي رواية: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر" والانتثار: هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، عن
زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس؛ أنه توضأ فغسل وجهه، ثم أخذ
غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها
إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه. ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى،
ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من
ماء، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله
اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يتوضأ.
ورواه البخاري، عن محمد بن عبد الرحيم، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي، به
وقوله: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) أي: مع المرافق، كما قال تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي، من طريق القاسم بن محمد، عن
عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. ولكن القاسم هذا
متروك الحديث، وجده ضعيف والله أعلم.
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه؛ لما روى البخاري
ومسلم، من حديث نُعَيم المُجْمِر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار
الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل".
وفي صحيح مسلم: عن قُتَيْبَة، عن خَلَف بن خليفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وقوله: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) اختلفوا في هذه "الباء" هل هي
للإلصاق، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من
قال: هذا مجمل فليرجع
في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى
المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم -وهو جد عمرو بن
يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-: هل تستطيع أن تريني كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا
بوضوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين
مرتين إلى المرفقين، ثم مسح بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم
ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل
رجليه.
وفي حديث عبد خير، عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو
مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج
البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية.
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، لا يتقدر ذلك بحدٍّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة، قال: تخلف النبي صلى الله عليه
وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: "هل معك ماء؟" فأتيته بمطهرة فغسل
كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة
وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه... وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم، وغيره.
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح
بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك
أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم.
ثم اختلفوا في أنه: هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو إنما
يستحب مسحة واحدة، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه، على قولين. فقال
عبد الرزاق: عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حُمْران بن
أبان قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم مضمض
واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل
اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا
مثل ذلك
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال:
"من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه، غفر
له ما تقدم من ذنبه ".
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عثمان في صفة الوضوء: ومسح برأسه مرة واحدة وكذا من رواية عبد خير، عن علي مثله.
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه،
عن عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثلاثا
ثلاثا.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا
عبد الرحمن بن وَرْدَان، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني حمران قال:
رأيت عثمان بن عفان توضأ.
فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، قال فيه: ثم مسح رأسه ثلاثا، ثم
غسل رجليه ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا
وقال: "من توضأ دون هذا كفاه.
تفرد به أبو داود ثم قال: وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.
وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قُرئ: ( وَأَرْجُلَكُمْ )
بالنصب عطفا على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيْب،
عن خالد، عن عِكَرِمة، عن ابن عباس؛ أنه قرأها: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) يقول:
رجعت إلى الغسل.
وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد،
وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم
التيمي، نحو ذلك.
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (6)
قال كثيرون من السلف: قوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) معناه وأنتم مُحْدِثون.
وقال آخرون: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب.
وقال آخرون: بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى
الصلاة، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب، وفي حق المتطهر على سبيل
الندب والاستحباب. وقد قيل: إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء
الإسلام، ثم نسخ.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن عَلْقَمَة بن مرثد، عن سليمان بن بُرَيْدة
عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان
يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: يا
رسول الله، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ قال: "إني عمدًا فعلته يا عمر.
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجه، عن سفيان عن محارب بن دِثَار -بدل علقمة بن مرثد-كلاهما عن سليمان بن بُريدة به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى، أخبرنا زياد بن عبد الله بن
الطفيل البكائي، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال: رأيت جابر بن عبد الله
يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طَهُوره
الخفين. فقلت: أبا عبد الله، شيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه، كما رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصنع.
وكذا رواه ابن ماجه، عن إسماعيل بن تَوْبة، عن زياد البكائي، به وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن
إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الله
بن عمر قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو
غير طاهر، عَمَّن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؛ أن عبد الله بن
حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء، إلا من
حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك، كان يفعله حتى مات.
وكذا رواه أبو داود، عن محمد بن عَوْف الحِمْصِيّ، عن أحمد بن خالد الذهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر
ثم قال أبو داود: ورواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق فقال: عبيد الله
بن عبد الله بن عمر، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد.
وأيا ما كان فهو
إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن
حَبَّان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر: رواه سلمة بن
الفضل وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة،
عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، به، والله أعلم. وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور. .
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا أزْهَر، عن ابن عَوْن، عن ابن سِيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، سمعت مسعود بن علي الشيباني، سمعت
عِكْرِمة يقول: كان علي، رضي الله عنه، يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه
الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )
الآية.
وحدثنا ابن المثنى، حدثني وَهْب بن جرير، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن
ميسرة، عن النـزال بن سبرة قال: رأيت عليًا صلى الظهر، ثم قعد للناس في
الرّحْبة، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال هذا وضوء من لم يُحْدث.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم عن مغيرة، عن إبراهيم؛ أن عليًا اكماز من حُبٍّ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث ". وهذه طرق جيدة عن علي [رضي الله عنه] يقوي بعضها بعضا.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن
حُمَيْد، عن أنس قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز، خفيفا، فقال هذا وضوء من لم يحدث. وهذا إسناد صحيح.
وقال محمد بن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة..
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن
المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم
هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت
السنة على ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ، حدثنا سفيان، عن عمرو
بن عامر الأنصاري، سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر، به.
وقال ابن جرير: حدثني أبو سعيد البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، عن
هُرَيم، عن عبد الرحمن بن زياد -هو الإفريقي-عن أبي غُطَيف، عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ على طُهْر كتب له عشر حسنات ".
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس، عن الإفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، فذكره، وفيه قصة.
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث الإفريقي، به نحوه وقال الترمذي: وهو إسناد ضعيف.
قال ابن جرير: وقد قال قوم: إن هذه الآية نـزلت إعلاما من الله أن
الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة، دون غيرها من الأعمال؛ وذلك لأنه
عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ.
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان
عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عن عبد الله بن
عَلْقَمَة بن الفَغَواء، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نـزلت آية
الرخصة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
) الآية.
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم، عن أبي كُرَيْب، به نحوه. وهو حديث غريب جدًا، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، ضعفوه.
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب،عن عبد الله
بن أبي مُلَيكة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
من الخلاء، فَقُدِّم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوَضُوء فقال: "إنما
أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة.
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل -وهو ابن علية-به وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن
دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه
وسلم فأتى الخلاء، ثم إنه رجع فأتى بطعام، فقيل: يا رسول الله، ألا تتوضأ؟
فقال: "لِمَ؟ أأصلي فأتوضأ؟".
وقوله: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) قد استدل طائفة من العلماء بقوله: (
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) على وجوب النية
في الوضوء؛ لأن تقدير الكلام: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها"،
كما تقول العرب: "إذا رأيت الأمير فقم" أي: له. وقد ثبت في الصحيحين حديث:
"الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه؛ لما ورد في الحديث من طرق جيدة، عن جماعة من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء
ويتأكد ذلك عند القيام من النوم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه، فلا
يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت
يده".
وحَدُّ الوجه عند الفقهاء: ما بين منابت شعر الرأس -ولا اعتبار بالصَّلع
ولا بالغَمَم-إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا،
وفي النـزعتين والتحذيف خلاف، هل هما من
الرأس أو الوجه، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان، أحدهما: أنه
يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة. وروي في حديث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته، فقال: "اكشفها، فإن اللحية من الوجه"
وقال مجاهد: هي من الوجه، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته: طلع وجهه.
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة، قال الإمام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة، عن أبي وائل
قال: رأيت عثمان توضأ -فذكر الحديث-قال: وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت.
رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع، حدثنا أبو المَلِيح، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه، يخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني به ربي عز وجل.
تفرد به أبو داود وقد رُوي هذا
من غير وجه عن أنس. قال البيهقي: وروينا في تخليل اللحية عن عمار، وعائشة،
وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن علي وغيره، وروينا في الرخصة
في تركه عن ابن عمر، والحسن بن علي، ثم عن النخعي، وجماعة من التابعين.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها: أنه كان إذا توضأ تمضمض
واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك: هل هما واجبان في الوضوء والغسل، كما هو
مذهب أحمد بن حنبل، رحمه الله؟ أو مستحبان فيهما، كما هو مذهب الشافعي
ومالك؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة، عن رفاعة
بن رافع الزّرقي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: "توضأ
كما أمرك الله" أو يجبان في الغسل دون الوضوء، كما هو مذهب أبي حنيفة؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فليستنثر" وفي رواية: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر" والانتثار: هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، عن
زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس؛ أنه توضأ فغسل وجهه، ثم أخذ
غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها
إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه. ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى،
ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من
ماء، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله
اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يتوضأ.
ورواه البخاري، عن محمد بن عبد الرحيم، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي، به
وقوله: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) أي: مع المرافق، كما قال تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي، من طريق القاسم بن محمد، عن
عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. ولكن القاسم هذا
متروك الحديث، وجده ضعيف والله أعلم.
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه؛ لما روى البخاري
ومسلم، من حديث نُعَيم المُجْمِر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار
الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل".
وفي صحيح مسلم: عن قُتَيْبَة، عن خَلَف بن خليفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وقوله: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) اختلفوا في هذه "الباء" هل هي
للإلصاق، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من
قال: هذا مجمل فليرجع
في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى
المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم -وهو جد عمرو بن
يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-: هل تستطيع أن تريني كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا
بوضوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين
مرتين إلى المرفقين، ثم مسح بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم
ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل
رجليه.
وفي حديث عبد خير، عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو
مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج
البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية.
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، لا يتقدر ذلك بحدٍّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة، قال: تخلف النبي صلى الله عليه
وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: "هل معك ماء؟" فأتيته بمطهرة فغسل
كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة
وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه... وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم، وغيره.
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح
بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك
أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم.
ثم اختلفوا في أنه: هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو إنما
يستحب مسحة واحدة، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه، على قولين. فقال
عبد الرزاق: عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حُمْران بن
أبان قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم مضمض
واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل
اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا
مثل ذلك
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال:
"من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه، غفر
له ما تقدم من ذنبه ".
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عثمان في صفة الوضوء: ومسح برأسه مرة واحدة وكذا من رواية عبد خير، عن علي مثله.
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه،
عن عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثلاثا
ثلاثا.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا
عبد الرحمن بن وَرْدَان، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني حمران قال:
رأيت عثمان بن عفان توضأ.
فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، قال فيه: ثم مسح رأسه ثلاثا، ثم
غسل رجليه ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا
وقال: "من توضأ دون هذا كفاه.
تفرد به أبو داود ثم قال: وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.
وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قُرئ: ( وَأَرْجُلَكُمْ )
بالنصب عطفا على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيْب،
عن خالد، عن عِكَرِمة، عن ابن عباس؛ أنه قرأها: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) يقول:
رجعت إلى الغسل.
وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد،
وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم
التيمي، نحو ذلك.
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع والعشرون والاخير من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع والعشرون والاخير من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة المائدة
» الجزء الاول من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى