الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
وقوله [تعالى]
( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا )
أي: وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم
من ذوي الألباب ( اتَّخَذُوهَا ) أيضًا ( هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) مَعَانِي عبادة الله وشرائعه، وهذه
صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص، أي: ضراط حتى لا
يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي
التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما
لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام". متفق عليه.
وقال الزهري: قد ذكر الله [تعالى]
التأذين في كتابه فقال: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )
رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، في قوله: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ) قال: كان رجل من النصارى
بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: "أشهد أن محمدًا رسول الله" قال: حُرّق
الكاذب! فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال،
فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس
بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا
فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق
لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى.
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم" ثم ذكر ذلك
لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، [والله] ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرنا عبد
العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره -وكان
يتيمًا في حجر أبي محذورة-قال: قلت لأبي محذورة: يا عم، إني خارج إلى
الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك. فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم خرجت
في نفر، وكنا ببعض طريق حنين، مقفل
رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن، فلقينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون
فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل
إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم
الذي سمعتُ صوته قد ارتفع؟" فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم
وحبسني. وقال
"قم فأذّن بالصلاة". فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى
عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال: "قل الله أكبر،
الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، " ثم قال لي: "ارجع فامدد من
صوتك". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على
الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا
الله". ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة، ثم وضع
يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرّها على وجهه، ثم بين ثدييه
ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "بارك الله فيك وبارك عليك". فقلت: يا رسول الله، مُرْني
بالتأذين بمكة. فقال قد "أمرتك به". وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه
بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من
أهلي ممن أدرك أبا محذورة، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز ".
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة من طريق عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة -واسمه: سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان-أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه، رضي الله عنه وأرضاه.
قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ
عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم
هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب: ( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي: هل لكم
علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء
منقطعًا كما في قوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74] وفي الحديث المتفق عليه: "ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله".
وقوله: ( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) معطوف على ( أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي: وآمنا
بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ ) أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه
بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله: ( مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ ) أي: أبعده من رحمته ( وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) أي: غضبًا لا
يرضى بعده أبدًا، ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) كما
تقدم بيانه في سورة البقرة. وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [إن شاء
الله تعالى]
وقد قال سفيان الثوري: عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة بن عبد
الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله [تعالى] ؟ فقال إن الله لم يهلك قومًا -أو قال: لم يمسخ قومًا-فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك".
وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن
أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: "لا إن الله
لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم".
ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات، به.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن داود بن أبي هند،
عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيات
مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير". هذا حديث غريب جدا .
وقوله: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) وقرئ ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أنه
فعل ماض، "والطاغوت" منصوب به، أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت. وقرئ: (
وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ ) بالإضافة على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت،
أي: خدامه وعبيده. وقرئ ( وَعُبُدَ الطَّاغُوت ) على أنه جمع الجمع: عبد
وعَبيد وعُبُد، مثل ثمار وثُمُر. حكاها ابن جرير عن الأعمش. وحكي عن
بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها: "وعَابد الطاغوت"، وعن أبي، وابن مسعود:
"وعبدوا"، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها: ( وَعُبِدَ
الطَّاغُوتُ ) على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها. والظاهر أنه لا بعد في ذلك؛ لأن هذا من باب التعريض بهم، أي: وقد عبدت الطاغوت فيكم، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك.
وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا، والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة دون [ما] سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) أي: مما تظنون بنا ( وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )
وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا [الفرقان: 24]
وقوله: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم
يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال: ( وَقَدْ
دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] ) أي
عندك يا محمد ( بِالْكُفْرِ ) أي: مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو
كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ
ولا الزواجر؛ ولهذا قال: ( وَهُمْ [قَدْ] خَرَجُوا بِهِ ) فخصهم به دون غيرهم.
وقوله: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) أي: والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
وقوله: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) أي: يبادرون إلى ذلك من تعاطي
المآثم والمحارم والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل ( لَبِئْسَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
قوله: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ) يعني: هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك.
والربانيون وهم: العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار: وهم
العلماء فقط.
( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس: يعني الربانيين، أنهم: بئس ما كانوا يصنعون. يعني: في تركهم ذلك.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا، ولهؤلاء
حين علموا. قال: وذلك الأمر كان. قال: "ويعملون"و "ويصنعون" واحد. رواه ابن
أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن
العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد
توبيخًا من هذه الآية: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ ) قال: كذا قرأ.
وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها: إنا لا ننهى. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم بعن أبي إسحاق به ن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني، قال: رأيته بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم
المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم
الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر،
قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا، شَرِيك، عن أبي إسحاق،
عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من
قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا، إلا
أصابهم الله منه بعذاب".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
ورواه أبو داود، عن مَسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر
بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل
يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا
أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا".
وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وَكِيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبَيد الله بن جرير، عن أبيه، به.
قال الحافظ المِزِّي: وهكذا رواه شعبة، عن أبي إسحاق، به.
يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة
إلى يوم القيامة-بأنهم وصفوا الله، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا،
بأنه بخيل. كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، وعبروا عن البخل بقولهم: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر
العَدَنِيّ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة قال: قال ابن عباس: (
مَغْلُولَةٌ ) أي: بخيلة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون: بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وكذا روي عن عِكْرِمَة، وقتادة، والسُّدِّي، ومجاهد، والضحاك وقرأ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]. يعني: أنه ينهى عن البخل وعن التبذير، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله، وعبَّر عن البخل بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ .
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. وقد قال عكرمة: إنها
نـزلت في فنْحاص اليهودي، عليه لعنة الله. وقد تقدم أنه الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] فضربه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود، يقال له: شاس
بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنـزل الله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )
وقد رد الله، عز وجل، عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه
وائتفكوه، فقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ] [النساء:53 -55] وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ] الآية [آل عمران:112] .
ثم قال تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )
أي: بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه،
وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما
نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال
[تعالى] وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ الآية [إبراهيم: 34]. والآيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبه قال: هذا ما حدثنا
أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يمين الله مَلأى لا
يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات
والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه" قال: "وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى
القبْض، يرفع ويخفض" : قال: قال الله تعالى: "أنفق أنفق عليك" أخرجاه في
الصحيحين، البخاري في "التوحيد" عن علي بن المديني، ومسلم فيه، عن محمد بن
رافع، وكلاهما عن عبد الرزاق، به.
وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) أي: يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة
نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا
وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك (
طُغْيَانًا ) وهو: المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ( وَكُفْرًا ) أي:
تكذيبا، كما قال تعالى: قُلْ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [الإسراء:82].
وقوله: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين
فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك.
وقال إبراهيم النَّخَعي: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ ) قال: الخصومات والجدال في الدين. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )
أي: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها
يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم.
( وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ ) أي: من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض،
والله لا يحب من هذه صفته.
وقوله [تعالى]
( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا )
أي: وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم
من ذوي الألباب ( اتَّخَذُوهَا ) أيضًا ( هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) مَعَانِي عبادة الله وشرائعه، وهذه
صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص، أي: ضراط حتى لا
يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي
التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما
لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام". متفق عليه.
وقال الزهري: قد ذكر الله [تعالى]
التأذين في كتابه فقال: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )
رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، في قوله: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ) قال: كان رجل من النصارى
بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: "أشهد أن محمدًا رسول الله" قال: حُرّق
الكاذب! فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال،
فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس
بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا
فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق
لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى.
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم" ثم ذكر ذلك
لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، [والله] ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرنا عبد
العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره -وكان
يتيمًا في حجر أبي محذورة-قال: قلت لأبي محذورة: يا عم، إني خارج إلى
الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك. فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم خرجت
في نفر، وكنا ببعض طريق حنين، مقفل
رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن، فلقينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون
فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل
إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم
الذي سمعتُ صوته قد ارتفع؟" فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم
وحبسني. وقال
"قم فأذّن بالصلاة". فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى
عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال: "قل الله أكبر،
الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، " ثم قال لي: "ارجع فامدد من
صوتك". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على
الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا
الله". ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة، ثم وضع
يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرّها على وجهه، ثم بين ثدييه
ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "بارك الله فيك وبارك عليك". فقلت: يا رسول الله، مُرْني
بالتأذين بمكة. فقال قد "أمرتك به". وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه
بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من
أهلي ممن أدرك أبا محذورة، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز ".
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة من طريق عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة -واسمه: سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان-أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه، رضي الله عنه وأرضاه.
قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ
عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم
هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب: ( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي: هل لكم
علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء
منقطعًا كما في قوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74] وفي الحديث المتفق عليه: "ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله".
وقوله: ( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) معطوف على ( أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي: وآمنا
بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ ) أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه
بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله: ( مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ ) أي: أبعده من رحمته ( وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) أي: غضبًا لا
يرضى بعده أبدًا، ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) كما
تقدم بيانه في سورة البقرة. وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [إن شاء
الله تعالى]
وقد قال سفيان الثوري: عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة بن عبد
الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله [تعالى] ؟ فقال إن الله لم يهلك قومًا -أو قال: لم يمسخ قومًا-فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك".
وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن
أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: "لا إن الله
لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم".
ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات، به.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن داود بن أبي هند،
عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيات
مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير". هذا حديث غريب جدا .
وقوله: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) وقرئ ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أنه
فعل ماض، "والطاغوت" منصوب به، أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت. وقرئ: (
وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ ) بالإضافة على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت،
أي: خدامه وعبيده. وقرئ ( وَعُبُدَ الطَّاغُوت ) على أنه جمع الجمع: عبد
وعَبيد وعُبُد، مثل ثمار وثُمُر. حكاها ابن جرير عن الأعمش. وحكي عن
بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها: "وعَابد الطاغوت"، وعن أبي، وابن مسعود:
"وعبدوا"، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها: ( وَعُبِدَ
الطَّاغُوتُ ) على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها. والظاهر أنه لا بعد في ذلك؛ لأن هذا من باب التعريض بهم، أي: وقد عبدت الطاغوت فيكم، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك.
وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا، والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة دون [ما] سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) أي: مما تظنون بنا ( وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )
وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا [الفرقان: 24]
وقوله: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم
يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال: ( وَقَدْ
دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] ) أي
عندك يا محمد ( بِالْكُفْرِ ) أي: مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو
كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ
ولا الزواجر؛ ولهذا قال: ( وَهُمْ [قَدْ] خَرَجُوا بِهِ ) فخصهم به دون غيرهم.
وقوله: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) أي: والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
وقوله: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) أي: يبادرون إلى ذلك من تعاطي
المآثم والمحارم والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل ( لَبِئْسَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
قوله: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ) يعني: هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك.
والربانيون وهم: العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار: وهم
العلماء فقط.
( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس: يعني الربانيين، أنهم: بئس ما كانوا يصنعون. يعني: في تركهم ذلك.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا، ولهؤلاء
حين علموا. قال: وذلك الأمر كان. قال: "ويعملون"و "ويصنعون" واحد. رواه ابن
أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن
العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد
توبيخًا من هذه الآية: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ ) قال: كذا قرأ.
وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها: إنا لا ننهى. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم بعن أبي إسحاق به ن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني، قال: رأيته بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم
المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم
الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر،
قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا، شَرِيك، عن أبي إسحاق،
عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من
قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا، إلا
أصابهم الله منه بعذاب".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
ورواه أبو داود، عن مَسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر
بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل
يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا
أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا".
وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وَكِيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبَيد الله بن جرير، عن أبيه، به.
قال الحافظ المِزِّي: وهكذا رواه شعبة، عن أبي إسحاق، به.
يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة
إلى يوم القيامة-بأنهم وصفوا الله، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا،
بأنه بخيل. كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، وعبروا عن البخل بقولهم: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر
العَدَنِيّ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة قال: قال ابن عباس: (
مَغْلُولَةٌ ) أي: بخيلة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون: بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وكذا روي عن عِكْرِمَة، وقتادة، والسُّدِّي، ومجاهد، والضحاك وقرأ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]. يعني: أنه ينهى عن البخل وعن التبذير، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله، وعبَّر عن البخل بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ .
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. وقد قال عكرمة: إنها
نـزلت في فنْحاص اليهودي، عليه لعنة الله. وقد تقدم أنه الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] فضربه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود، يقال له: شاس
بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنـزل الله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )
وقد رد الله، عز وجل، عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه
وائتفكوه، فقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ] [النساء:53 -55] وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ] الآية [آل عمران:112] .
ثم قال تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )
أي: بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه،
وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما
نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال
[تعالى] وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ الآية [إبراهيم: 34]. والآيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبه قال: هذا ما حدثنا
أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يمين الله مَلأى لا
يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات
والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه" قال: "وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى
القبْض، يرفع ويخفض" : قال: قال الله تعالى: "أنفق أنفق عليك" أخرجاه في
الصحيحين، البخاري في "التوحيد" عن علي بن المديني، ومسلم فيه، عن محمد بن
رافع، وكلاهما عن عبد الرزاق، به.
وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) أي: يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة
نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا
وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك (
طُغْيَانًا ) وهو: المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ( وَكُفْرًا ) أي:
تكذيبا، كما قال تعالى: قُلْ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [الإسراء:82].
وقوله: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين
فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك.
وقال إبراهيم النَّخَعي: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ ) قال: الخصومات والجدال في الدين. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )
أي: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها
يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم.
( وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ ) أي: من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض،
والله لا يحب من هذه صفته.
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
رد: الجزء الخامس عشر من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن من تفسير سورة المائدة
» الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السابع من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثامن من تفسير سورة المائدة
» الجزء التاسع من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى