الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة المائدة
أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قال ابن أبي طلحة، عن
ابن عباس -في رواية عنه-وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم في قوله: (
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) يعني: ما يصطاد منه طريًا (
وَطَعَامُهُ ) ما يتزود منه مليحًا يابسًا.
وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حيًا ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظه ميتًا.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبي أيوب
الأنصاري، رضي الله عنهم. وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم
النخَعي، والحسن البصري.
قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصديق أنه
قال: ( وَطَعَامُهُ ) كل ما فيه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سِمَاك قال:
حُدِّثتُ عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال: ( أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ) وطعامه ما قذف.
قال: وحدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي
مِجْلَز، عن ابن عباس في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ ) قال ( وَطَعَامُهُ ) ما قذف.
وقال عكرمة، عن ابن عباس قال: ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضًا.
وقال سعيد بن المسيب: طعامه ما لفظه حيًا، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن
نافع؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إن البحر قد قذف
حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله؟ فقال: لا تأكلوه. فلما رجع عبد الله إلى
أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية ( وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) فقال: اذهب فقل له فليأكله، فإنه طعامه.
وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه، قال: وقد روي في ذلك خبر، وإن بعضهم يرويه موقوفًا.
حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن
عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ )
قال: "طعامه ما لفظه ميتا".
ثم قال: وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة:
حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) قال:
طعامه: ما لفظه ميتًا.
وقوله: ( ُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) أي: منفعة وقُوتًا لكم
أيها المخاطبون ( وَلِلسَّيَّارَةِ ) وهو جمع سيَّار. قال عكرمة: لمن كان
بحضرة البحر وللسيارة: السَفْر.
وقال غيره: الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، و ( طَعَامُهُ ) ما
مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن
البحر.
وقد روي نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي وغيرهم. وقد استدل جمهور
العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن
أنس، عن وَهْبِ بن كَيْسَان، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم
ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم. قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني
الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجُمع ذلك كله، فكان مَزْوَدَيْ
تمر، قال: فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا
إلا تمرة تمرة. فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال:
ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني
عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت،
ومرت تحتهما فلم تصبهما.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر.
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر: فإذا على ساحل البحر مثل
الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها: العنبر قال: قال أبو عبيدة:
مَيْتة، ثم قال: لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله،
وقد اضطررتم فكلوا قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد
رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفِدْر كالثور،
أو: كقَدْر الثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في
وَقْب عينه، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من
تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من
لحمه شيء فتطعمونا؟" قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
فأكله. وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين
وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية
واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعثهم سرية مع أبي
عبيدة، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم.
وقال مالك، عن صفوان بن سُلَيم، عن سعيد بن سَلَمة -من آل ابن الأزرق:
أن المغيرة بن أبي بردة-وهو من بني عبد الدار-أخبره، أنه سمع أبا هريرة
يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب
البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء
البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ
ميتته".
وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأهل السنن
الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حِبَّان، وغيرهم. وقد
روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق، عن حماد
بن سلمة: حدثنا أبو المُهَزّم -هو يزيد بن سفيان-سمعت أبا هريرة يقول: كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج -أو عمرة-فاستقبلنا رِجْل جَراد،
فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن، فأسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع
ونحن محرمون؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بصيد
البحر"
أبو المُهَزّم ضعيف، والله أعلم.
وقال ابن ماجه: حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال، حدثنا هاشم بن
القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن
أبيه، عن جابر وأنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على
الجراد قال: "اللهم أهْلك كباره، واقتل صغاره، وأفسدْ بيضه، واقطع دابره،
وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء". فقال خالد: يا رسول
الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: "إن الجراد
نَثْرَة الحوت في البحر". قال هاشم: قال زياد: فحدثني من رأى الحوت ينثره.
تفرد به ابن ماجه.
وقد روى الشافعي، عن سعيد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب
البحر، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: ( طَعَامُهُ )
كل ما فيه.
وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو
داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيب،
عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن
قتل الضفدع".
وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: نَقِيقُها تسبيح.
وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السمك، ولا يؤكل الضفدع. واختلفوا فيما
سواهما، فقيل: يؤكل سائر ذلك، وقيل: لا يؤكل. وقيل: ما أكل شبهه من البر
أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب
الشافعي، رحمه الله.
وقال أبو حنيفة، رحمه الله: لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما
مات في البر؛ لعموم قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) [المائدة:
3].
وقد ورد حديث بنحو ذلك، فقال ابن مردويه:
حدثنا عبد الباقي -هو ابن قانع-حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ
وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان، حدثنا
حفص بن غِياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر
ميتًا طافيًا فلا تأكلوه".
ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة، عن أبي الزبير عن جابر به. وهو منكر.
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بحديث
"العَنْبَر" المتقدم ذكره، وبحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد تقدم
أيضًا.
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن
أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحِلَّت لنا
ميتتان ودَمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد
والطحال".
ورواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني والبيهقي. وله شواهد، وروي موقوفًا، والله أعلم.
وقوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) أي: في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد. ففيه دلالة على تحريم ذلك
فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم، أو مخطئًا غرم وحرم عليه
أكله؛ لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك
والشافعي -في أحد قوليه-وبه يقول عطاء، والقاسم، وسالم، وأبو يوسف، ومحمد
بن الحسن، وغيرهم. فإن أكله أو شيئًا منه، فهل يلزمه جزاء؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما: نعم، قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، قال: إن ذبحه ثم أكله فكفارتان، وإليه ذهب طائفة.
والثاني: لا جزاء عليه بأكله. نص عليه مالك بن أنس.
قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار، وجمهور
العلماء. ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد، فإنما عليه
حد واحد.
وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل.
وقال أبو ثور: إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه، وحلال أكل ذلك الصيد،
إلا أنني أكرهه للذي قتله، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَيْد
البَرِّ لكم حلال، ما لم تُصِيدوه
أو يُصَدْ لكم".
وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريب، وأما لغيره ففيه
خلاف. قد ذكرنا المنع عمن تقدم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل، سواء
المحرمون والمحلون؛ لهذا الحديث. والله أعلم.
وأما إذا صاد حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم، فقد ذهب
ذاهبون إلى إباحته مطلقًا، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا.
حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر، عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة،
والزبير بن العوام، وكعب الأحبار، ومجاهد وعطاء -في رواية-وسعيد بن جبير.
قال: وبه قال الكوفيون.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا بِشْر بن
المفضل، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبى هريرة؛ أنه
سئل عن لحم صيد صاده حَلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاهم بأكله. ثم لقي عمر
بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك
رأسك.
وقال آخرون: لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم هذه الآية الكريمة.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة،
عن طاوس، عن ابن عباس؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم. وقال: هي مبهمة. يعني
قوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) .
قال: وأخبرني معمر، عن الزهري، عن ابن عمر؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.
قال معمر: وأخبرني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.
قال ابن عبد البر: وبه قال طاوس، وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثوري،
وإسحاق بن راهويه -في رواية-وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب، رواه ابن
جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا
كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه -في
رواية-والجمهور: إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد، لم يجز للمحرم
أكله؛ لحديث الصعب بن جثامة: أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا
وحشيًا، وهو بالأبواء -أو: بوَدّان-فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال:
"إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة
قالوا: فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله،
فرده لذلك. فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي
قتادة حين صاد حمار وَحْش، كان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين،
فتوقفوا في أكله. ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان
منكم أحد أشار إليها، أو أعان في قتلها؟" قالوا: لا. قال: "فكلوا". وأكل
منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب
بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب،
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال قتيبة في
حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم-يقول: "صيد البر لكم حلال -قال
سعيد: وأنتم حرم-ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم".
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا، عن قتيبة. وقال الترمذي: لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر.
ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن
مولاه المطلب، عن جابر ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.
وقال مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:
رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة
أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أوَلا تأكل أنت؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي.
قُلْ
لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (100) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد: ( لا
يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ ) أي: يا أيها
الإنسان ( كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) يعني: أن القليل الحلال النافع خير من
الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث: "ما قَلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مما
كَثُر وألْهَى".
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه: حدثنا أحمد بن زُهَيْر، حدثنا الحَوْطِي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا مُعان
بن رِفاعة، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أنه
أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن
يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قليل تؤدي شكره خير من كثير
لا تطيقه".
( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي: يا ذوي العقول
الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به (
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هذا تأديب من الله [تعالى]
لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا ( عَنْ أَشْيَاءَ ) مما لا فائدة
لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم
وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم
الصدر".
وقال البخاري: حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى
بن أنس، عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت
مثلها قط، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" قال: فغطّى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين. فقال رجل: من أبي؟
قال: "فلان"، فنـزلت هذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )
رواه النَّضْر وروح بن عبادة، عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج، به.
وقال ابن جرير: حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات
يوم فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم". فأشفق
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر، فجعلت
لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل
كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك
حذافة". قال: ثم قام عمر -أو قال: فأنشأ عمر-فقال: رضينا بالله ربًا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا عائذًا بالله -أو قال: أعوذ بالله-من شر
الفتن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أر في الخير والشر
كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط". أخرجاه من طريق
سعيد.
ورواه مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس بنحو ذلك -أو قريبًا منه-قال الزهري:
فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون
أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس، فقال:
والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا قَيْس، عن
أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين
أبي
؟ فقال: "في النار" فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة"، فقام عمر
بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا،
وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك، والله أعلم
من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إسناده جيد.
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من
الأيام، فقام خطيبًا فقال: "سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم
به". فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له: عبد الله بن حُذَافة،
وكان يُطْعَن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال: "أبوك فلان"، فدعاه
لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله، وقال: يا رسول الله، رضينا
بالله ربًّا، وبك نبيًا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا
الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: "الولد للفِرَاش وللعاهرِ
الحَجَر".
ثم قال البخاري: حدثنا الفَضْل بن سَهْل، حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو
خَيْثَمَة، حدثنا أبو الجُويرية، عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول
الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تَضل
ناقتُه: أين ناقتي؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حتى
فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البَخْتَريّ -وهو سعيد بن فيروز-عن علي قال: لما نـزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [آل عمران: 97] قالوا: يا رسول الله، في
كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟
فقال: "لا ولو قلت: نعم لوجبت"، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى
آخر الآية.
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق منصور بن وردان، به وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك عليًّا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج" فقال رجل: أفي كل عام يا
رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: "من السائل؟" فقال:
فلان. فقال: "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوَجَبَتْ، ولو وجبت عليكم ما
أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم"، فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ ) حتى ختم الآية.
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي
هريرة -وقال: فقام مِحْصَن الأسدي-وفي رواية من هذه الطريق: عُكَاشة بن
محْصن-وهو أشبه.
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال: حدثنا
أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى، عن
صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "كتب عليكم الحج". فقام رجل
من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأسكت واستغضب، ومكث طويلا ثم تكلم فقال: "من السائل؟" فقال
الأعرابي: أنا ذا، فقال: "ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت:
نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة
الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرمت عليكم منها موضع
خُفٍّ، لوقعتم فيه" قال: فأنـزل الله عند ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى
آخر الآية. في إسناده ضعف.
وظاهر
الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا أعلم بها الشخص ساءته، فالأولى
الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا حَجَّاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هشام مولى
الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر" الحديث.
وقد رواه أبو داود والترمذي، من حديث إسرائيل -قال أبو داود: عن الوليد-وقال الترمذي: عن إسرائيل-عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به. ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
وقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
لَكُمْ ) أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين
ينـزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم، وذلك [على الله] يسير.
ثم قال ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: عما كان منكم قبل ذلك، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )
وقيل: المراد بقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ
الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها،
فلعلَّه قد ينـزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته" ولكن إذا نـزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها.
( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: ما لم يذكره
في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تُرِكْتُم؛ فإنما أهلك
من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم".
وفي الحديث الصحيح أيضًا: " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ
حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم
غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها".
ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا
بِهَا كَافِرِينَ ) أي: قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم،
فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بينت
لهم ولم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.
قال، العَوْفِي، عن ابن عباس قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج".
فقام
رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضبَ رسول الله صلى
الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت،
ولو وجبت ما
استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا،
وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه". فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )
نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين.
فنهى الله عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ
تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) قال: لما
نـزلت آية الحج، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "يا أيها
الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا". فقالوا: يا رسول الله، أعامًا
واحدًا أم كل عام؟ فقال: "لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت: كل عام لوجبت، ولو
وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ) إلى قوله: ( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا
كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.
وقال خَصِيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )
قال: هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك
"ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا"، قال: وأما عكرمة فقال: إنهم
كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.
يعني عكرمة رحمه الله: أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما
سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك، وكما
سألت اليهود أن ينـزل عليهم كتابا من السماء، وقد قال الله تعالى: وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ
بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا
إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 109-111].
مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن
كَيْسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب قال: "البحيرة": التي يُمْنَعُ
درّها للطواغيت، فلا يَحْلبها أحد من الناس. و"السائبة": كانوا يسيبونَها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء -قال: وقال
أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمْرَو بن عامر
الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيب السوائب"-و"الوصيلة":
الناقة البكر، تُبَكّر في أول نتاج الإبل، ثم تُثَنّي بعد بأنثى، وكانوا
يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و"الحام":
فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت،
وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمّوه الحامي.
وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث إبراهيم بن سعد، به.
ثم قال البخاري: وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت
سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه
ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد
الوهاب بن بُخْت، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في
"الأطراف" وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد
وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن الزهري نفسه. والله أعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني،
حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة؛ أن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا،
ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه، وهو أول من سيب السوائب". تفرد به البخاري.
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا محمد بن
إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن: "يا أكثم، رأيت
عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا
أشبه برجل منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول
الله؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غَيّر
دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي". ثم رواه عن هناد،
عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، بنحوه أو مثله.
ليس هذان الطريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، حدثنا إبراهيم الهَجَري، عن
أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
أول من سَيَّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته
يجر أمعاءه في النار". تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين
إبراهيم عليه السلام". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "عمرو بن لُحَيّ
أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني
لأعرف أول من بحر البحائر". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "رجل من بني
مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد
ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما".
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة، أحد رؤساء خزاعة، الذين ولَوا البيت
بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى
الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الناقة إذا نتجت
خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون
النساء. وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة.
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.
وأما السائبة، فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها
ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت
السابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة: هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس
بينهن ذكر، سُيّبت فلم تركب، ولم يُجَزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.
وقال أبو روق: السائبة: كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السُّدِّي: كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر
ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت
سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه
الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن
استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: ( وَلا
وَصِيلَةٍ ) قال: فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى
بأنثى، فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا
يجدعونها لطواغيتهم.
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس، رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم: إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن،
توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو
أنثى، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام، فقال العَوْفي، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.
وكذا قال أبو روق، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وأما
الحام فالفحل من الإبل، إذا وُلد لولده قالوا: حَمى هذا ظهره، فلا يحملون
عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب
منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وَهْب: سمعت مالكًا يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي
حاتم، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك
بن نَضْلَة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب،
فقال لي: "هل لك من مال؟" قلت
نعم. قال: "من أيّ المال؟" قال: فقلت: من كل المال، من الإبل والغنم
والخيل والرقيق. قال: "فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك". ثم قال: "تنتج
إبلك وافية آذانها؟" قال: قلت: نعم. قال: "وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟" قال:
"فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحير، وتشق آذان
طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟" قلت: نعم. قال: "فلا تفعل، إن كل ما آتاك
الله لك حل"، ثم قال: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ
وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ) أما البحيرة: فهي التي يجدعون آذانها، فلا
تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا
أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة: فهي التي
يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة: فالشاة تلد
ستة أبطن، فإذا ولدت السابع
جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما
وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر
عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه.
وقد روى هذا الحديث
الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي
الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.
وقوله: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي: ما شرع الله هذه الأشياء
ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قال ابن أبي طلحة، عن
ابن عباس -في رواية عنه-وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم في قوله: (
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) يعني: ما يصطاد منه طريًا (
وَطَعَامُهُ ) ما يتزود منه مليحًا يابسًا.
وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حيًا ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظه ميتًا.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبي أيوب
الأنصاري، رضي الله عنهم. وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم
النخَعي، والحسن البصري.
قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصديق أنه
قال: ( وَطَعَامُهُ ) كل ما فيه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سِمَاك قال:
حُدِّثتُ عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال: ( أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ) وطعامه ما قذف.
قال: وحدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي
مِجْلَز، عن ابن عباس في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ ) قال ( وَطَعَامُهُ ) ما قذف.
وقال عكرمة، عن ابن عباس قال: ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضًا.
وقال سعيد بن المسيب: طعامه ما لفظه حيًا، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن
نافع؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إن البحر قد قذف
حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله؟ فقال: لا تأكلوه. فلما رجع عبد الله إلى
أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية ( وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) فقال: اذهب فقل له فليأكله، فإنه طعامه.
وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه، قال: وقد روي في ذلك خبر، وإن بعضهم يرويه موقوفًا.
حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن
عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ )
قال: "طعامه ما لفظه ميتا".
ثم قال: وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة:
حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) قال:
طعامه: ما لفظه ميتًا.
وقوله: ( ُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) أي: منفعة وقُوتًا لكم
أيها المخاطبون ( وَلِلسَّيَّارَةِ ) وهو جمع سيَّار. قال عكرمة: لمن كان
بحضرة البحر وللسيارة: السَفْر.
وقال غيره: الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، و ( طَعَامُهُ ) ما
مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن
البحر.
وقد روي نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي وغيرهم. وقد استدل جمهور
العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن
أنس، عن وَهْبِ بن كَيْسَان، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم
ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم. قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني
الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجُمع ذلك كله، فكان مَزْوَدَيْ
تمر، قال: فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا
إلا تمرة تمرة. فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال:
ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني
عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت،
ومرت تحتهما فلم تصبهما.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر.
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر: فإذا على ساحل البحر مثل
الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها: العنبر قال: قال أبو عبيدة:
مَيْتة، ثم قال: لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله،
وقد اضطررتم فكلوا قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد
رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفِدْر كالثور،
أو: كقَدْر الثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في
وَقْب عينه، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من
تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من
لحمه شيء فتطعمونا؟" قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
فأكله. وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين
وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية
واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعثهم سرية مع أبي
عبيدة، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم.
وقال مالك، عن صفوان بن سُلَيم، عن سعيد بن سَلَمة -من آل ابن الأزرق:
أن المغيرة بن أبي بردة-وهو من بني عبد الدار-أخبره، أنه سمع أبا هريرة
يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب
البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء
البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ
ميتته".
وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأهل السنن
الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حِبَّان، وغيرهم. وقد
روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق، عن حماد
بن سلمة: حدثنا أبو المُهَزّم -هو يزيد بن سفيان-سمعت أبا هريرة يقول: كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج -أو عمرة-فاستقبلنا رِجْل جَراد،
فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن، فأسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع
ونحن محرمون؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بصيد
البحر"
أبو المُهَزّم ضعيف، والله أعلم.
وقال ابن ماجه: حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال، حدثنا هاشم بن
القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن
أبيه، عن جابر وأنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على
الجراد قال: "اللهم أهْلك كباره، واقتل صغاره، وأفسدْ بيضه، واقطع دابره،
وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء". فقال خالد: يا رسول
الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: "إن الجراد
نَثْرَة الحوت في البحر". قال هاشم: قال زياد: فحدثني من رأى الحوت ينثره.
تفرد به ابن ماجه.
وقد روى الشافعي، عن سعيد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب
البحر، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: ( طَعَامُهُ )
كل ما فيه.
وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو
داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيب،
عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن
قتل الضفدع".
وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: نَقِيقُها تسبيح.
وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السمك، ولا يؤكل الضفدع. واختلفوا فيما
سواهما، فقيل: يؤكل سائر ذلك، وقيل: لا يؤكل. وقيل: ما أكل شبهه من البر
أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب
الشافعي، رحمه الله.
وقال أبو حنيفة، رحمه الله: لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما
مات في البر؛ لعموم قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) [المائدة:
3].
وقد ورد حديث بنحو ذلك، فقال ابن مردويه:
حدثنا عبد الباقي -هو ابن قانع-حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ
وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان، حدثنا
حفص بن غِياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر
ميتًا طافيًا فلا تأكلوه".
ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة، عن أبي الزبير عن جابر به. وهو منكر.
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بحديث
"العَنْبَر" المتقدم ذكره، وبحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد تقدم
أيضًا.
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن
أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحِلَّت لنا
ميتتان ودَمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد
والطحال".
ورواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني والبيهقي. وله شواهد، وروي موقوفًا، والله أعلم.
وقوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) أي: في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد. ففيه دلالة على تحريم ذلك
فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم، أو مخطئًا غرم وحرم عليه
أكله؛ لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك
والشافعي -في أحد قوليه-وبه يقول عطاء، والقاسم، وسالم، وأبو يوسف، ومحمد
بن الحسن، وغيرهم. فإن أكله أو شيئًا منه، فهل يلزمه جزاء؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما: نعم، قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، قال: إن ذبحه ثم أكله فكفارتان، وإليه ذهب طائفة.
والثاني: لا جزاء عليه بأكله. نص عليه مالك بن أنس.
قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار، وجمهور
العلماء. ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد، فإنما عليه
حد واحد.
وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل.
وقال أبو ثور: إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه، وحلال أكل ذلك الصيد،
إلا أنني أكرهه للذي قتله، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَيْد
البَرِّ لكم حلال، ما لم تُصِيدوه
أو يُصَدْ لكم".
وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريب، وأما لغيره ففيه
خلاف. قد ذكرنا المنع عمن تقدم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل، سواء
المحرمون والمحلون؛ لهذا الحديث. والله أعلم.
وأما إذا صاد حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم، فقد ذهب
ذاهبون إلى إباحته مطلقًا، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا.
حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر، عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة،
والزبير بن العوام، وكعب الأحبار، ومجاهد وعطاء -في رواية-وسعيد بن جبير.
قال: وبه قال الكوفيون.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا بِشْر بن
المفضل، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبى هريرة؛ أنه
سئل عن لحم صيد صاده حَلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاهم بأكله. ثم لقي عمر
بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك
رأسك.
وقال آخرون: لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم هذه الآية الكريمة.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة،
عن طاوس، عن ابن عباس؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم. وقال: هي مبهمة. يعني
قوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) .
قال: وأخبرني معمر، عن الزهري، عن ابن عمر؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.
قال معمر: وأخبرني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.
قال ابن عبد البر: وبه قال طاوس، وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثوري،
وإسحاق بن راهويه -في رواية-وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب، رواه ابن
جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا
كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه -في
رواية-والجمهور: إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد، لم يجز للمحرم
أكله؛ لحديث الصعب بن جثامة: أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا
وحشيًا، وهو بالأبواء -أو: بوَدّان-فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال:
"إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة
قالوا: فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله،
فرده لذلك. فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي
قتادة حين صاد حمار وَحْش، كان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين،
فتوقفوا في أكله. ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان
منكم أحد أشار إليها، أو أعان في قتلها؟" قالوا: لا. قال: "فكلوا". وأكل
منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب
بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب،
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال قتيبة في
حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم-يقول: "صيد البر لكم حلال -قال
سعيد: وأنتم حرم-ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم".
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا، عن قتيبة. وقال الترمذي: لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر.
ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن
مولاه المطلب، عن جابر ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.
وقال مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:
رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة
أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أوَلا تأكل أنت؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي.
قُلْ
لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (100) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد: ( لا
يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ ) أي: يا أيها
الإنسان ( كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) يعني: أن القليل الحلال النافع خير من
الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث: "ما قَلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مما
كَثُر وألْهَى".
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه: حدثنا أحمد بن زُهَيْر، حدثنا الحَوْطِي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا مُعان
بن رِفاعة، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أنه
أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن
يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قليل تؤدي شكره خير من كثير
لا تطيقه".
( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي: يا ذوي العقول
الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به (
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هذا تأديب من الله [تعالى]
لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا ( عَنْ أَشْيَاءَ ) مما لا فائدة
لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم
وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم
الصدر".
وقال البخاري: حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى
بن أنس، عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت
مثلها قط، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" قال: فغطّى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين. فقال رجل: من أبي؟
قال: "فلان"، فنـزلت هذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )
رواه النَّضْر وروح بن عبادة، عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج، به.
وقال ابن جرير: حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات
يوم فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم". فأشفق
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر، فجعلت
لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل
كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك
حذافة". قال: ثم قام عمر -أو قال: فأنشأ عمر-فقال: رضينا بالله ربًا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا عائذًا بالله -أو قال: أعوذ بالله-من شر
الفتن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أر في الخير والشر
كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط". أخرجاه من طريق
سعيد.
ورواه مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس بنحو ذلك -أو قريبًا منه-قال الزهري:
فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون
أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس، فقال:
والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا قَيْس، عن
أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين
أبي
؟ فقال: "في النار" فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة"، فقام عمر
بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا،
وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك، والله أعلم
من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إسناده جيد.
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من
الأيام، فقام خطيبًا فقال: "سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم
به". فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له: عبد الله بن حُذَافة،
وكان يُطْعَن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال: "أبوك فلان"، فدعاه
لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله، وقال: يا رسول الله، رضينا
بالله ربًّا، وبك نبيًا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا
الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: "الولد للفِرَاش وللعاهرِ
الحَجَر".
ثم قال البخاري: حدثنا الفَضْل بن سَهْل، حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو
خَيْثَمَة، حدثنا أبو الجُويرية، عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول
الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تَضل
ناقتُه: أين ناقتي؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حتى
فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البَخْتَريّ -وهو سعيد بن فيروز-عن علي قال: لما نـزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [آل عمران: 97] قالوا: يا رسول الله، في
كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟
فقال: "لا ولو قلت: نعم لوجبت"، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى
آخر الآية.
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق منصور بن وردان، به وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك عليًّا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج" فقال رجل: أفي كل عام يا
رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: "من السائل؟" فقال:
فلان. فقال: "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوَجَبَتْ، ولو وجبت عليكم ما
أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم"، فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ ) حتى ختم الآية.
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي
هريرة -وقال: فقام مِحْصَن الأسدي-وفي رواية من هذه الطريق: عُكَاشة بن
محْصن-وهو أشبه.
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال: حدثنا
أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى، عن
صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "كتب عليكم الحج". فقام رجل
من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأسكت واستغضب، ومكث طويلا ثم تكلم فقال: "من السائل؟" فقال
الأعرابي: أنا ذا، فقال: "ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت:
نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة
الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرمت عليكم منها موضع
خُفٍّ، لوقعتم فيه" قال: فأنـزل الله عند ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى
آخر الآية. في إسناده ضعف.
وظاهر
الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا أعلم بها الشخص ساءته، فالأولى
الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا حَجَّاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هشام مولى
الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر" الحديث.
وقد رواه أبو داود والترمذي، من حديث إسرائيل -قال أبو داود: عن الوليد-وقال الترمذي: عن إسرائيل-عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به. ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
وقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
لَكُمْ ) أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين
ينـزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم، وذلك [على الله] يسير.
ثم قال ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: عما كان منكم قبل ذلك، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )
وقيل: المراد بقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ
الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها،
فلعلَّه قد ينـزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته" ولكن إذا نـزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها.
( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: ما لم يذكره
في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تُرِكْتُم؛ فإنما أهلك
من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم".
وفي الحديث الصحيح أيضًا: " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ
حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم
غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها".
ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا
بِهَا كَافِرِينَ ) أي: قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم،
فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بينت
لهم ولم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.
قال، العَوْفِي، عن ابن عباس قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج".
فقام
رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضبَ رسول الله صلى
الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت،
ولو وجبت ما
استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا،
وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه". فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )
نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين.
فنهى الله عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ
تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) قال: لما
نـزلت آية الحج، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "يا أيها
الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا". فقالوا: يا رسول الله، أعامًا
واحدًا أم كل عام؟ فقال: "لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت: كل عام لوجبت، ولو
وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ) إلى قوله: ( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا
كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.
وقال خَصِيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )
قال: هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك
"ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا"، قال: وأما عكرمة فقال: إنهم
كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.
يعني عكرمة رحمه الله: أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما
سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك، وكما
سألت اليهود أن ينـزل عليهم كتابا من السماء، وقد قال الله تعالى: وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ
بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا
إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 109-111].
مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن
كَيْسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب قال: "البحيرة": التي يُمْنَعُ
درّها للطواغيت، فلا يَحْلبها أحد من الناس. و"السائبة": كانوا يسيبونَها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء -قال: وقال
أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمْرَو بن عامر
الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيب السوائب"-و"الوصيلة":
الناقة البكر، تُبَكّر في أول نتاج الإبل، ثم تُثَنّي بعد بأنثى، وكانوا
يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و"الحام":
فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت،
وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمّوه الحامي.
وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث إبراهيم بن سعد، به.
ثم قال البخاري: وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت
سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه
ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد
الوهاب بن بُخْت، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في
"الأطراف" وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد
وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن الزهري نفسه. والله أعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني،
حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة؛ أن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا،
ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه، وهو أول من سيب السوائب". تفرد به البخاري.
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا محمد بن
إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن: "يا أكثم، رأيت
عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا
أشبه برجل منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول
الله؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غَيّر
دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي". ثم رواه عن هناد،
عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، بنحوه أو مثله.
ليس هذان الطريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، حدثنا إبراهيم الهَجَري، عن
أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
أول من سَيَّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته
يجر أمعاءه في النار". تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين
إبراهيم عليه السلام". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "عمرو بن لُحَيّ
أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني
لأعرف أول من بحر البحائر". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "رجل من بني
مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد
ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما".
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة، أحد رؤساء خزاعة، الذين ولَوا البيت
بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى
الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الناقة إذا نتجت
خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون
النساء. وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة.
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.
وأما السائبة، فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها
ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت
السابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة: هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس
بينهن ذكر، سُيّبت فلم تركب، ولم يُجَزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.
وقال أبو روق: السائبة: كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السُّدِّي: كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر
ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت
سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه
الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن
استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: ( وَلا
وَصِيلَةٍ ) قال: فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى
بأنثى، فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا
يجدعونها لطواغيتهم.
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس، رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم: إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن،
توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو
أنثى، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام، فقال العَوْفي، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.
وكذا قال أبو روق، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وأما
الحام فالفحل من الإبل، إذا وُلد لولده قالوا: حَمى هذا ظهره، فلا يحملون
عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب
منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وَهْب: سمعت مالكًا يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي
حاتم، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك
بن نَضْلَة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب،
فقال لي: "هل لك من مال؟" قلت
نعم. قال: "من أيّ المال؟" قال: فقلت: من كل المال، من الإبل والغنم
والخيل والرقيق. قال: "فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك". ثم قال: "تنتج
إبلك وافية آذانها؟" قال: قلت: نعم. قال: "وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟" قال:
"فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحير، وتشق آذان
طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟" قلت: نعم. قال: "فلا تفعل، إن كل ما آتاك
الله لك حل"، ثم قال: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ
وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ) أما البحيرة: فهي التي يجدعون آذانها، فلا
تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا
أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة: فهي التي
يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة: فالشاة تلد
ستة أبطن، فإذا ولدت السابع
جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما
وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر
عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه.
وقد روى هذا الحديث
الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي
الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.
وقوله: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي: ما شرع الله هذه الأشياء
ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة المائدة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة المائدة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة المائدة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع والعشرون والاخير من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس من تفسير سورة المائدة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة المائدة
» الجزء الرابع والعشرون والاخير من تفسير سورة المائدة
» الجزء الخامس من تفسير سورة المائدة
» الجزء السادس من تفسير سورة المائدة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة المائدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى